قد يكون الجانب الإنساني بفقدان ابنتي شيراز بعيداً في غربتها داخل حدود الوطن، هو ما شكل حافزاً لي للكتابة حول أوجاعنا جميعاً كفلسطينيين، بالتالي حشر السياسة في بكائية تخص عائلتي رغماً عنيِّ، ولكنني في الحقيقة وجدت أن كل أحوالنا وإن كانت اجتماعية أو ثقافية لا نكهة لها ولا طعم بدون السياسة؛ لأن السياسة في بلادنا هي أشبه بملح الطعام أو التوابل الهندية الأصيلة، إذ لا معنى لواقعنا تحت الاحتلال إذا خلا من السياسة وأحاديثها التي لا تنتهي، حيث إننا على خط تماس أحمر مع هذا الاحتلال، ولا تهدأ حركتنا فوق هذا الخط واقتحامه لحظة واحدة. شيراز: أكثر من بكائية عام 2000، تزوجت شيراز ابنتي الكبرى وأنا في أمريكا، وكان رحيلها إلى الضفة الغربية قبل يومين من انتفاضة الأقصى، وكنا نعتقد أننا سنظل على تواصل مع بعضنا البعض، وليس هناك ما يفصلنا أو يباعد بيننا، خاصة وأن هناك سلطة فلسطينية أصبحت تمثلنا منذ العام 1994، وناصيتنا تحررت وأضحت بأيديها وليس أيدي الاحتلال، وهي في طريقها لبناء دولتنا الحرة المستقلة، والتي سيجتمع فيها الشمل الفلسطيني ويتحقق التواصل بين الداخل والخارج، حيث إن تسهيلات ما تمَّ التوقيع عليه في أوسلو 1993 كانت توحي لنا بأن هذه الاتفاقية قد دشنت لنا مشروع الجسر، الذي سينهي قطيعة الجغرافيا بين الضفة الغربية وقطاع غزة. للأسف أدركنا بعد حين، أن هذا الاحتلال لا تعرف قلوب جلاوزته الرحمة، وأن عصاه تسكن دولاب حياتنا؛ فلا حرية في التنقل والترحال، وخابت في أمل تحقيق السلام كل أحلامنا. شيراز - يا حبيبتي - أنت لي أكثر من مرثية حزن وألم لفراق إنسان عزيز على القلب؛ لأنك تمثلين لي ولشعبنا العظيم قصة الوجع الفلسطيني، فأنت تجسدين في بعض ما كنت تعانين بسبب هذا الاحتلال تغريبتنا الفلسطينية بكل جوانبها السياسية والإنسانية، فأنت أحد صور واقعنا الحزين، والذي كان لانقسام ساحتنا الفلسطينية سهم في إثخان شعبنا بالجراح، وكسر شوكته وتغييب وجه الصباح. لذلك، كان وجع قلبي يا حبيبتي، وقاطرة الدمع التي لم تتوقف داخل محاجر العينيين، ليس فقط بكاء عليكِ ولكن على بكاء كل من بكى عليك من الأهل، حيث سقت أمك بدموعها ما يبس من سنوات الغياب، واستنهضت كل الذكريات ورحلة العمر الطويل ما تواصل منه وما انقطع. يا حادي العيس عرِّج كي أودعهم!! على مدار سنوات غربتها التي تجاوزت العقد ونصف العقد من الزمان، كانت صغيرتي تحاول من محطة غربتها في الضفة الغربية الحصول على تصريح عبور إلى قطاع غزة، وكان الجواب من جهة دولة الاحتلال هو الرفض لدواعي أمنية!! كنت أتساءل ما الذي يمكن أن تمثله أم لأربعة أطفل من تهديد لدولة مدججة بالسلاح وتكنولوجيا الموت، أم هي وسيلة للتعذيب النفسي يقوم بها الصهاينة لمحاكاة ما عاناه اليهود عبر التاريخ، جراء "محاكم التفتيش" في اسبانيا في القرن السادس عشر أو ما فعلته النازية بهم خلال الحرب العالمية الأولى، فيما يسمى (المحرقة – الهولوكوست) في أوروبا؟ نحن اليوم ندفع ثمن هذه العقدة أو العقد النفسية التي استحكمت في تصرفات يهود هذا الزمان من الصهاينة، والذين غدوا يحسبون أن كل صيحة عليهم، فالطفل الفلسطيني كما الأم الفلسطينية والشاب والشيخ هم كلهم خطر على هذا الكيان المارق!! ألا يدرك هؤلاء الغزاة المحتلين أن شعبنا رضع الكرامة ولبن العزِّة منذ نشأ وترعرع على هذه الأرض قبل خمس آلاف سنة، وهو يأبى الضيم ولا ينسى الظلم والعدوان، كما أنه لن يستسلم لجبروت أدوات القهر والموت مهما بلغت صولة هذا الباطل أو تعالت جولته في هذا الزمان . إن شيراز (أم يقين) التي كانت تبكيها مشاهدة وجه أمها في لحظة حزن أو دموع أختها الصغيرة أو رؤية مشهد معاناة أحد الناس، حيث تنهمر دموعها وتتحرك عاطفتها وتسجل موقفاً إنسانياً كنت أغبطها عليه.. هل هذه - الفتاة الأم - يمكن أن تكون خطراً على أحد؟! إن هذه الممارسات اللاإنسانية للاحتلال والاحتلال نفسه، وهذه السياسات التعسفية واللاأخلاقية هي التي تجعل كل فلسطيني يفكر في الثأر والانتقام لكرامته المذبوحة وتعديات الاحتلال من خلال جيشه ومستوطنيه وانتهاكاته لكل مقدساتنا الدينية؛ الإسلامية والمسيحية، هي التي تستفزنا وتحرك رغبات الانتقام لدى كل مكونات شعبنا العظيم. شيراز لم تكن خطراً عليكم أيها الصهاينة، فهي حملٌ وديع، وغربتها الطويلة أوجعتها كما أوجعتنا، وكانت لا تتوقف عن المحاولة أملاً بالمجيء إلى قطاع غزة مع أولادها الصغار لرؤية أهلها وتعريفهم بكل ما لهم في قطاع غزة من ذوي القربى، وبلِّ صدى شوقها والحنين، فلا شيء أوجع من والحنين؛ فالحنين هو اشتياق لقطعة من روحك موجودة في مكان آخر، ربما – كما في حالتنا – لا تستطيع الوصول إليه بسبب هذا الاحتلال البغيض. ومن هنا، يأتي الألم ويكثر الوجع، ويتعاظم الحنين. إن هذه العقلية اللاإنسانية للاحتلال هي التي تمنع تسليم جثة الشهيد إلى أهله، بهدف مضاعفة المواجع والأحزان، إنها لاأخلاقية الاحتلال وسادية قادته، وهي نفسها تلك العقلية المريضة التي تُحرِّم على الفلسطينيين أن يجتمع شملهم، وأن يلتقي الأب أو الأم بفلذة كبده. إن هؤلاء الصهاينة المحتلين الذين عاشوا حياة تخلو من المجد التليد، وكانوا عبر تاريخهم منبوذين أو مطاردين، ولم يكن يُسمح لهم بمجاورة الآخرين أو الركوب معهم في المواصلات العامة، كما حدث في أمريكا وأوروبا خلال النصف الأول من القرن العشرين، ولذلك كانوا يلجؤون إلى العيش داخل حواري خاصة بهم "الجيتو"، بعيداً عن الأحياء من الجنسيات والأديان الأخرى، وأنه لولا الإسلام الذي وفرَّ لهم الحماية والعيش في بلاد المسلمين ربما لكانت أوروبا قد استأصلت شأفتهم، لخساسة ما في طباعهم وانقرض بذلك عرقهم. نعم قد نكون اليوم بانقسامنا قد أسهمنا في استئسادهم علينا، ومعاملتنا بهذه القساوة واللامبالاة، وتمردهم على كل القيم والمبادئ الإنسانية، وإعطاء أنفسهم منزلة فوق البشر؛ باعتبار أنهم "شعب الله المختار"!! لا.. لا وداع: لمثل هذا يبكي القلب في كمدٍ لقد فاجأنا خبر موت ابنتي شيراز، حيث لم تكن تشكو من غير نزعة الشوق والحنين لزيارة قطاع غزة، وأن تكتحل عينيِّ أبناءها برؤية أهلها هناك، وقد حاولنا من طرفنا أن نفعل شيئاً ولكن دون جدوى. لقد بذلنا الكثير من الجهد لتحقيق أمنيتها لزيارة القطاع وتحرك معنا الكثيرين من أهل الخير في الإدارة المدنية، ولكن جواب الاحتلال كان حاضراً: لا.. لن تمروا!! كان الاحتلال بإجراءاته التعسفية وسياسة العقاب الجماعي لأهلنا وشعبنا يرتكب جرائم بحق الإنسانية، وهي جرائم تعددت بما يقوم به من حرمان ذوي الأسرى والمعتقلين من زيارة فلذات أكبادهم لسنوات طويلة، وحرمان الكثير من مرضى قطاع غزة من تلقي العلاج في الضفة الغربية، وابتزاز من يسمح لهم بالمرور عبر معبر بيت حانون (إيرز)، وأشياء كثيرة من الممارسات التي حرَّمتها القوانين الدولية والأعراف السماوية. لقد قلت لزوجتي بعد أن أعيتنا الحيل في تحقيق التواصل معها ومع أبنائها، دعينا نجمع شمل العائلتين من خلال تقنية "الفيديو كونفرنس"، فلعل في ذلك ما يشفي شيئاً من غليل الشوق والحنين، ولكن زوجتي كانت تراهن على أمل اللحظة الأخيرة، وبدأنا نفكر في سفرها هي إلى الضفة الغربية، وإن كانت المحاولة غير مضمونة، والتوقيت أصبح غير مناسب لسبب اقتراب وقت المدارس. لم تنقطع الاتصالات الهاتفية بيننا، وصارت بشكل يومي مع أمها وأخواتها، وكأنها كانت تدرك بأنها راحلة ولم يعد هناك متسعاً للانتظار. راودت أمها وأختها أحلاماً لم ندرك تفسيرها إلا بعد موتها، كما أن صورها قبل يوم رحيلها قلبتها من بين آلاف الصور حيث كنت أبحث عن صورة لي من ذكريات الماضي مع بعض الزعماء العرب، ولكني لم أعثر عليها ولكنني كنت أجد صورة شيراز في كل مراحلها العمرية تمر بين يدي وأتملاها بعيون يملأها شوق الحنين. لم أكن أدرك بأن هذا هو فيض من رحمة رب العالمين، الذي سقى لوعة شوقي بشيء من لطفه، فخفف من وطأة خبر الرحيل. لا شك أن الغربة – كما يقولون - في كل حرف منها هي حرقة قلب مشتاق، وحنين وألمٍ وعذاب. نعم من السهل - يا حبيبتي - أن ينسى الإنسان نفسه، لكن من الصعب أن ينسى عزيزاً سكنت محبته هذا القلب. لقد رحلتي يا شيراز يا (أم يقين) وتركت خلفك أطفالك الصغار أمانة في عنقي وعنق هذا الوطن، ووصيتك لنا ولكل القائمين بأمانة المسئولية من قيادة سلطتنا الوطنية ومقاومتنا النضالية أن نحفظ هذا الجيل ونرعاه، ليظل ذخراً لهذه القضية، يذود عن حياضها، ويحمي مقدساتها، ويكتب على يديه تحريرها. لم أشعر يوماً أننا بحاجة لإنهاء الانقسام كما أشعر به الآن، والكرة في ملعب القيادة وليس الشعب، فشعبنا العظيم بكل انتماءاته وفصائله وتياراته قد وجدناه معنا بالآلاف، حيث جمعتنا خيمة العزاء، وكذلك حول النعش وفي المقبرة، لم يعد هناك من مشجب لتعليق كارثة الانقسام عليه، ولم تعد تجدي الذرائع يا أولي الألباب. نعم؛ رحلت شيراز (أم يقين)، ولكن رحلتها معي لن تتوقف ولن تغيب، فستبقى الأحلام تحدثني برؤيتها، وهي أشبه باليقين. لقد أطلقت الكثير من الدمع من محاجري، ولكنَّ أكثره كان حسرة على واقعنا المهين، حيث ذهبت ريحنا، ولم نعد كشعبٍ نعرف من نحن، وإلى أين نسير؟ وأخيراً.. في مفردات أوجاع الحنين؛ أنه الغياب المفاجئ الذي يقتل أكثر من الوداع.. ألف ألف وداعٍ لك يا حبيبتي، وسنلقاكٍ بأطفالكِ وأحفادكِ يوماً في الخليل.
د. أحمد يوسف