تصريحات وزير الحرب الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان عن سياسة "العصا والجزرة"، وعن تحديد العلاقة الإسرائيلية مع السلطة الفلسطينية والتهديد بتجاوزها، ونسج علاقات مع شخصيات ومؤسسات فلسطينية مباشرة، أثارت تكهنات وتحليلات متباينة. فهناك من ذهب إلى أن إسرائيل ضاقت ذرعًا بالسلطة بعد استنفاد أغراضها، لدرجة حديث العديد من المسؤولين والوزراء الإسرائيليين عن عدم قدرة السلطة أو عدم رغبتها بتقديم المطلوب منها إسرائيليًا، وقولهم إن الرئيس محمود عباس يمارس "إرهابًا ديبلوماسيًا"، وإن مصيره لن يختلف عن مصير سلفه ياسر عرفات. كما وصل الأمر حد المطالبة بحل السلطة، لأن بقاءها يجعل مسألة البحث عن حل سياسي مطروحة، فيما إسرائيل في ظل سيطرة اليمين الديني والسياسي لا تريد حلًا متفقًا عليه، بل فرض حلها الخاص.
وهناك من يرى، وهو الاتجاه الأكبر من الإسرائيليين، أن بقاء السلطة مصلحة إسرائيلية لا يمكن لتل أبيب أن تستغني عنها، خاصة أن البديل عنها يتمثل بسيطرة "حماس"، أو فصائل متشددة سلفية، أو غيرها، أو بشكل من أشكال الفوضى التي ستوفر مناخًا مناسبًا لتصاعد المواجهة الفلسطينية - الإسرائيلية، ووضع الشعب الفلسطيني مباشرة في مواجهة الاحتلال. وهذا من شأنه أن يجعل الاحتلال مكلفًا لإسرائيل، وأن يغير المعادلة القائمة منذ سنوات، على فكرة أن الاحتلال مريح ومربح لها.
أعتقد أن الحقيقة يمكن إيجادها في المسافة الواقعة بين وجهتي النظر المذكورتين، أي بين من يرى أن السلطة استنفدت دورها ويجب حلها أو استبدالها، ومن يطالب باستمرارها لأنها "دجاجة" تبيض ذهبًا لإسرائيل.
يتزايد الميل لدى الحكومة الإسرائيلية إلى ممارسة ضغوط أكبر على السلطة، تصل إلى حد السعي لتفكيكها وإعادة تركيبها، في حال استمرت برفض استئناف المفاوضات بلا شروط، ولم تتكيف مع الحقائق التي فرضها الاحتلال.
لقد أصبح في الضفة الفلسطينية أكثر من 700 ألف مستوطن. وهناك مصادر متعددة تقول إن العدد وصل إلى 780 ألفاً. وأصبح المتطرفون يتحكمون أكثر فأكثر بمقاليد الأمور في إسرائيل، وهم مرشحون للاستمرار في السلطة والتحكم بالقرار الإسرائيلي خلال السنوات القادمة.
في ظل هذه الظروف، غيّرت إسرائيل من سياستها القائمة على إدارة الصراع، والمضي في خلق حقائق استيطانية على الأرض، على أمل أن تفرض نفسها في أي حل تفاوضي يمكن التوصل إليه عبر مفاوضات ثنائية، أو بضغوط خارجية دولية على الطرفين المتفاوضين. واعتمدت سياسة جديدة تقوم على السعي لفرض الحل وفق رؤيتها مستفيدة مما تعتبره بحق فرصة تاريخية نادرة لتحقيق أهدافها التي لم تتحقق حتى الآن، وهي فرصة لن تستمر طويلًا، ولا يمكن الرهان على توفرها مرة أخرى.
تأسيسًا على ما سبق، نستطيع أن نفسر تزايد الدعوات لضم الضفة، أو مناطق (ج)، أو ما تسمى "الكتل الاستيطانية"، أو فرض القانون الإسرائيلي عليها. وهذه الدعوات لم تعد معزولة، بل تعبر عن الاتجاه المركزي الحاكم في تل أبيب، لدرجة أن هناك مشاريع قوانين مطروحة على الكنيست تحمل هذه المضامين. وفي الإطار نفسه يمكن أن نفسر تزايد الدعوات لاستكمال تهويد القدس وأسرلتها، وهو الذي وصل إلى حد تهيئة الأجواء للتقسيم الزماني والمكاني للأقصى، والتفكير الجدي بهدمه وبناء "هيكل سليمان" المزعوم بدلًا منه.
في هذا السياق يمكن وضع التصريحات والضغوط الإسرائيلية على السلطة، بما فيها تصريحات ليبرمان، بغية ترويضها وجعلها أكثر طواعية لتقبل الواقع الجديد.
أما بالنسبة إلى الاتصالات المباشرة مع الشخصيات والمؤسسات، فهي سياسة قديمة، ولو أن حكومة نتنياهو تعتمدها بصورة أكبر من السابق تحسبًا لاستمرار ضعف السلطة التي فقدت شرعيتها ومصداقيتها وهيبتها، جراء أسباب كثيرة، أهمها فشل مشروع التسوية التي وضعت رهانها كاملاً عليه.
فإسرائيل تخشى من احتمال انهيار السلطة، أو من سيطرة عناصر وقوى "متشددة" عليها، بما فيها "حماس"، علماً أنها تسعى باستمرار لتوظيف الانقسام وتعميقه لصالحها وتحويله إلى انفصال دائم، خصوصًا في ظل عدم اتضاح آلية انتقال السلطة بعد أبو مازن، الذي تجاوز الثمانين من عمره وانتهت مدة رئاسته القانونية منذ خمس سنوات، وفي ظل تعطيل المجلس التشريعي، وشلل مؤسسات "منظمة التحرير"، وسط محاولات خارجية من أطراف متعددة لصناعة الرئيس الفلسطيني القادم.
يمكن وضع التهديدات الإسرائيلية الأخيرة في إطار هذه المحاولات. فقيادة أبو مازن مقبولة، لكن المطلوب منها أكثر، خصوصًا لجهة وضع آليات وترتيبات تضمن انتقالًا سلسا للسلطة في حال وفاة الرئيس، أو مرضه مرضًا يعيق ممارسة مهامه، أو استقالته.
إن الذين يحذرون من إمكانية أن تكون الانتخابات المحلية القادمة جزءًا من مؤامرة لكي تشكل هذه البلديات المنتخبة بديلًا من السلطة عليهم التريث، لأن المجالس البلدية المنتخبة ستكون عصية على الاحتلال أكثر من المجالس المعينة أو المنتهية مدتها. فالبديل الأنسب لإسرائيل عن السلطة الحالية سلطة أو سلطات في كل مدينة ومنطقة تقبل تمامًا بما تطرحه. وسقف ما تقدمه إسرائيل لا يتجاوز ما هو قائم الآن، أي معازل منفصلة عن بعضها البعض، تسيطر على السكان وليس الأرض في إطار حكم ذاتي، وتعميق فصل الضفة عن غزة، والسعي لتصفية القضية الفلسطينية أو تجميدها لأطول فترة ممكنة إن لم يكن للأبد، مستفيدة من الحريق العربي، ومن دعوات التطبيع العربية مع إسرائيل قبل انسحابها من الأراضي العربية المحتلة العام 1967 كما نصت على ذلك "مبادرة السلام العربية".