منذ حصلت على الجنسية الأمريكية عام 2010 وأنا أحرص على زيارة فلسطين المحتلة كل صيف، وأسجل ملاحظاتي في سلسلة مقالات تحت عنوان "عن الوطن والاحتلال".
أحاول في تلك المقالات أن أرصد العلاقة الجدلية الناتجة عن اتفاقيات أوسلو الكارثية بين تجذر الاحتلال وتوسيعه أفقيا وعموديا من جهة، وبين الوطن الذي يضمحل ويصغر ويتمزق ويتعثر من جهة أخرى، رغم تضحيات الشعب الفلسطيني لأكثر من 100 عام فاقت نسبيا تضحيات أي شعب آخر.
كانت الملاحظات ترصد ظاهرة النضال على المستوى الشعبي من جهة وظاهرة الانهيار على المستوى الرسمي. فكانت ثنائية بناء الوطن من تحت إلى أعلى تساهم فيها كوادر وطنية متدربة ومخلصة، بينما يبدأ الإحباط واليأس والخوف عندما تصل إلى رؤوس المؤسسات والقيادات، التي نتج عنها في النهاية حالة انشطار قاسية بين نهجين على مستوى الأيديولوجيا والممارسة تجسدت في وجود منطقتين جغرافيتين متباعدتين سياسيا وتنظيميا ورؤية وأهدافا.
في زيارتي الأخيرة أستطيع أن أقول بدون مواربة، إن الأوضاع الفلسطينية تمر الآن في أسوأ مراحلها من كل النواحي، لدرجة أن هناك خطرا حقيقيا على المشروع الوطني الفلسطيني برمته. ودعني ألخص بعض الملاحظات التي رصدتها هذه المرة بعد الانخراط في تفاصيل الأوضاع الفلسطينية، حيث زرت عائلات الشهداء والبيوت المهدمة وخيمة الإعتصام للتضامن مع الأسرى، وشاركت في مظاهرة قرب حاجز بيتين في رام الله للتضامن مع الأسير بلال الكايد وبقية الأسرى والمعتقلين، وقمت بزيارتين مطولتين لمخيمي الدهيشة وقلنديا، والتقيت بعدد كبير من المسؤولين والكتاب والناشطين والمتقاعدين وناشطين في المنظمات الأهلية والتجمعات الشبابية والنسائية ورعاية الأطفال.
أولا- ضياع البوصلة
لا أحد يستطيع أن يجيب عن السؤال الرئيسي الذي يسأله كل الناس: إلى أين نحن سائرون؟ ماذا تعمل القيادة وهل لديها إستراتيجية لتحقيق أي شيء؟ فإذا كانت المفاوضات متوقفة تماما وإذا كانت المقاومة السلمية متوقفة تماما ما عدا بعض الأحداث الفردية التي غالبا يقوم بها صغار السن وتنتهي باستشهادهم، وإذا كانت المبادرة الفرنسية قطعت عليها المبادرة المصرية الطريق ودفنتها حية، وإذا كانت حكومة نتنياهو تزداد تطرفا بعد أن تمكنت أحزاب اليمين من أن تشكل حكومة لوحدها بدون حاجة إلى إئتلاف مع أحد، ووضعت أفيغدور ليبرمان وزيرا للدفاع فماذا بعد؟ أين اختفت القيادات والفصائل والأحزاب والمنظمات السياسية؟ بالكاد تسمع أخبار أي من رموز السلطة الأساسيين سوى أخبار اجتماعات مع بعض الزوار الأجانب أو السفراء المعتمدين لا تقدم ولا تؤخر.
القيادة لا تريد مقاومة سلمية واسعة ولا تريد حل السلطة وتسليم المفاتيح لنتنياهو كما أعلن مرة أبو مازن، وما دامت القيادة عاجزة الآن عن تحقيق أي إنجاز على طريق الدولة المستقلة إذن ماذا بعد؟ لا أحد يعرف. لا أحد لديه إجابات. الأمور تسير على غير هدى. لقد فقدت الحركة الوطنية الفلسطينية برمتها البوصلة فلا أحد يعرف أين تتجه الأمور. إن إطلاق "فتيشة" تقديم شكوى ضد بريطانيا بسبب وعد بلفور، من وجهة نظري، تثبت مقولة ضياع البوصلة، وتثبت أيضا أن الجعبة أصبحت خالية من السهام.
ثانيا- تفاقم ظاهرة العنف الداخلي
أخبار حوادث العنف الداخلي على خلفيات لا علاقة لها بالوطن منتشرة بشكل لا تخطئه عين. ففي غياب النضال ضد عدو مشترك يجمع الناس على ضرورة التصدي له، يرتد الاحتقان إلى الداخل ويتحول إلى عنف محلي وعلى أسباب قد تكون تافهة جدا. وقد أخبرني قائد أمني سابق أنه لا يكاد يمر يوم بدون سقوط قتيل أو أكثر. حاول أحد المسؤولين تبرير الظاهرة بأنها أمر طبيعي حيث لا يوجد مجتمع عادي بدون أن يكون به مجرمون وجرائم. "الفرق أن وسائل التواصل سهلت نشر أخبار الجرائم. الآن الجميع يعرف عن الجريمة التي تقع وفي اللحظة نفسها". هذا صحيح من جهة ولكن أن تتكرر جرائم القتل والإصابات وبشكل كبير فهو أمر غير طبيعي في مجتمع متجانس متقارب يعرف الناس بعضهم بعضا.
لقد شهدت السنة الأخيرة جرائم فظيعة كان من بينها مقتل ستة أشخاص وجرح 15 في بلدة يعبد في 29 يونيو الماضي في مواجهة شاملة بين عائلتين استخدمت فيها الأسلحة الآلية. وقد حدثت جريمة قتل في دير دبوان وأنا في المنطقة ولأسباب تافهة. كما كنت شاهد عيان لصلحة عشائرية تتعلق بجريمة وقعت بين عائلتين في مخماس أسفرت عن إصابة بليغة لأحد المغتربين من أبناء البلد. جرائم وقعت في بـِدّو وبيت سوريك والظاهرية وإذنا وسعير والخليل وسلفيت ونابلس التي شهدت مقتل عدد من أفراد الأمن الوطني.
ووقعت 20 جريمة بحق النساء في غزة والضفة تحت ما يسمى زورا وبهتانا بجرائم الشرف البعيدة عن أي شرف، خاصة أن الاحتلال يدنس شرف الرجال قبل النساء. يقول تقرير للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان "إن الثقافة الذكورية في القضاء والشرطة والنيابة تتعامل مع شكاوى النساء بتراخٍ، وعادة ما يطلب منهن عدم تقديم شكوى واللجوء إلى حلول بالتراضي. إن ضغط المجتمع ينصب على النساء".
الغريب أن هناك تساهلا مع القتلة، فبدل أن يودعوا السجن بانتظار المحاكمة يتم الإفراج عنهم بعد تدخل المصلحين العشائريين الذين يدفعون "عطوة منع الدم"، كما تسمى، لحقن الاقتتال فتقوم السلطة بالإفراج عن المتهمين بارتكاب الجريمة بحجة أن ليس هناك شكوى رسمية. وماذا عن الحق العام فكيف لمن ينتهك القانون ويملك السلاح غير المرخص ويستخدمه ويترك وراءه ضحايا يخلى سبيله بعد إجراءات عشائرية بدائية؟
ثالثا غياب سيادة القانون وتغول الأجهزة الأمنية
ما يرتبط بالظاهرة السابقة هو انتشار نوع من الفلتان الأمني وانتهاك سيادة القانون. وللعلم فإن السلاح منتشر بين أيدي العديدين وبتسريب إسرائيلي. وقد شرح لي أحد المسؤولين كيف يتم تسريب وبيع السلاح ثم متابعته. قال "إن وصل إلى أيدي وطنية يتم اعتقال الشخص في اليوم نفسه، أو يتم الضغط على الأمن الفلسطيني لاعتقاله تحت منظومة ما يسمى "التنسيق الأمني". وإن وصل السلاح إلى أيدي من لا يهمه أمر الوطن وإن استخدمه فلن يكون إلا في أبناء بلده وعمومته وجيرانه وشعبه فلا تحرك إسرائيل ساكنا ولا تعتقل أحدا". وهذا ما يفسر انتشار جرائم يستخدم فيها السلاح الحي. الأجهزة الأمنية تشعر بأنها فوق القانون. لا يوجد أي نوع من المساءلة أو العقوبة. التعذيب الجسدي منتشر وبشكل كبير. وقد ذكر لي أحد السجناء لدى السلطة أنه ظل مشبوحا طوال الليل إلى أن جاء حرس الصباح ففك أحدهم قيده وأجلسه وقدم له كأسا من الشاي. الناس يسألون عندما يعتقل أحد: عند السلطة أو إسرائيل؟ فإذا قيل إسرائيل تشعر بأن نوعا من الارتياح يخيم على السائل وغالبا ما تسمع تعليقا مفاده "على الأقل لا يوجد تعذيب".
حادثة قتل أحمد عز حلاوة في نابلس بعد اعتقاله ضربا على أيدي رجال الأمن في نابلس كشفت عن نوع العقلية الثأرية التي زرعها الجنرال الأمريكي دايتون في دوراته لرجال الأمن الذين يعتقدون أن هذا الشعب "يجب أن يشاهد العين الحمراء" كما قال أحدهم في اجتماع عام. روايات التعذيب والإهانات وجرجرة الناس من بيوتها تطفح في كل قرية وبلدة. أصبحت العلاقة بين المواطن ورجال الأمن قائمة على الريبة والتوجس والخوف. لذلك يقوم بعض الأفراد بالتكتل لحماية أنفسهم أو أحيائهم. إسرائيل إستطاعت أن تتسرب من الشقوق فتعمل على تجنيد العملاء وضخ السلاح للأيادي غير الوطنية، كما أنها بدأت تسرب المخدرات من بعض البؤر التي تعيش فلتانا أمنيا كاملا، خاصة مخيم شعفاط ، وهو المخيم الوحيد التابع للقدس ويعتبر أمنيا وإداريا تابعا لسلطة الاحتلال، حتى أصبح مأوى للمطاردين والمشردين والمطلوبين. إن هذه الظاهرة خطيرة بكل معنى الكلمة وبحاجة إلى تنبه القوى الوطنية والقيادات المحلية لمحاصرتها ووأدها. في ظروف يخضع الشعب للاحتلال الأجنبي تصبح مهمة الأمن حماية المواطنين من أعداء الخارج والداخل. خطر المستوطنين هو الأدهى ويستدعي تكاتف جميع القوى بمن فيهم رجال الأمن لحماية الناس جميعا بدل أن يتم استخدام اليد الغليظة ضد المواطنين.
رابعا – صعوبة رأب صدع الانقسام
كل من تتكلم معه يريد رأب الصدع وإعادة الوحدة الوطنية على أرضية وثيقة الأسرى التي وقعتها كل الفصائل في مايو 2006. لكن التباعد بين المجموعتين والأيديولوجيتين والقيادتين تفاقم كثيرا. حماس سعيدة بإمارتها وتعتبر أنها صفوة هذه الأمة لا يجوز مساءلتها أو تحدي هيمنتها. لقد حولت القطاع إلى مختبر لأيديولوجية فوقية قسرية تجبي الضرائب وتجني الأرباح وتغير أسماء الشوارع والمدارس والمعاهد بما فيهم موسم الهجرة "غسان كنفاني". تتدخل في لباس الناس ونزهاتهم وحيواتهم وأعمالهم ودكاكينهم. تعطي لنفسها الحق في فرض ما تراه من قوانين، فتلغي أنشطة ليست على مزاجها وتسمح لأخرى إن وجدت فيها مصلحة. تمارس الإعدام وبطرق لا تتماشى مع القانون الفلسطيني الذي يتطلب توقيع الرئيس وتخلو محاكماتهم من الشفافية واستنفاد كل الآليات القضائية المعروفة قبل تنفيذ الإعدام، بل ذهب بها الشطط أن سحلت أحد الأشخاص في شوارع غزة وطافت به شوارع غزة وهو مربوط بدراجة. وأقول لقادة حماس لو تجرى الانتخابات الآن بشفافية وحيادية ومراقبة دولية ستفشل حماس في قطاغ غزة كما ستفشل السلطة الفلسطينية ورموزها في الضفة الغربية ـ إذ إن حال السلطة أسوأ من حماس، لأن التفريط في ثوابت الوطن لم يأت إلا من هذه السلطة وحالة الضياع التي يعيشها الشعب الفلسطيني جاءت نتيجة حتمية لنهج "أنا أفاوض إذن أنا موجود".
الصراعات الداخلية في قمة هرم السلطة لم تعد سرا، حيث تم إقصاء عدد من القيادات الأساسية بطريقة مزاجية فردية، كما أن أحاديث الفساد والمحسوبيات والتكويش على المصالح الإنتاجية القليلة. رام الله أصبحت كوكبا يعيش في الفضاء الخارجي وكأنها ليست في فلسطين. هناك قطعة أرض في وسطها تصل مساحتها إلى دونمين فقط وصل سعرها إلى 57 مليون دولار، كما أخبرني أحد كبار تجار العقارات في رام الله. أبراج ترتفع كل يوم، وأسواق تفتح وملاعب وملاه ومطاعم ومقاه لا حصر لها. باختصار أهل رام الله في واد وبقية البلاد في وادٍ آخر.
حالة اليأس هذه تتراجع عندما تجلس مع المناضلين في مخيمات اللجوء. تتعرف عليهم وعلى همومهم وأمانيهم فتجدها متشابهة. هناك تصميم لا مثيل له على التمسك بالحقوق وعلى الإصرار على متابعة النضال حتى يأتي يوم يرتفع علم الاستقلال الحقيقي بعيدا عن سير المفاوضات. "الحرية لا تمنح بل تؤخذ عنوة"، كما قال أحد الأسرى المحررين.
د. عبد الحميد صيام*
* محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز