عديد الناس يزرعون القمح وآخرين يحصدون وغيرهم يطحنون وآخرين يخبزون والجميع يأكل, هذه الحلقة المتواصلة تصلح لكل فعل إنساني أيا كان بما في ذلك فعل الإبداع والتفكير فكل الناس ينتجون المادة الخام للإبداع والفكر لكن ليسوا جميعا بقادرين على صياغته كلوحة أو فيلما أو قصيدة أو فكرا فلسفيا فهذه صنعة البعض ومهمته التي أوكلت إليه إما من قبل الغير أو بإرادته متطوعا في سبيل ذلك أو متفاعلا مع واقع الحال فالبعض منهم يبقى في خانة المبدع الهاوي والبعض ينتقل إلى مرحلة المبدع المحترف وهنا تكمن الخطورة حين ينتقل مبدع إلى مرحلة الاحتراف ممالئا السلطة أيا كان دورها ومتخليا عن الدور الطبيعي للإبداع كفعل نقدي يقوم بقراءة الواقع ويصوغه بلوحة كما يحلم أن يكون ناقدا كل النتوءات والأخطاء القائمة في الواقع ولو كان دور المثقف أو المبدع منحصرا بالقراءة أو بالتجميل لما هو موجود لما أتيح للأمم الانتقال إلى الأمام فحتى الأحلام وصور الخيال التي يقدمها المثقف المبدع في أعماله تهيئ الحال للانتقال خطوة جديدة نحو الحلم وتحفز الآخرين للتفكير باليات الفعل للوصول اقرب إلى ما حلمنا به وهنا يأتي دور العالم أو الباحث الذي يخترع الطريقة أو الأداة أو الوسيلة التي تمكن الآخرين للانتقال إلى الأمام مخلفين ورائهم ما كان كشيء عفا عليه الزمن.
جموع الناس من الشغيلة والفعلة هم المنتجين الحقيقيين للمادة الخام للفكر الإنساني الإبداعي بكافة وجوهه أكانت تلك الفكرية أو الجمالية أو الاختراعات فما يقوم به الناس يلتقطه المبدعين لجهة تطويره وتقديمه بصورة أو بحالة أفضل وهم هنا أي المبدعين الثوريين صناع الخطوة المقبلة ومنهم من يتقدم بنا خطوة واحدة ومنهم من يحملنا أميالا منتقلا بنا ومعنا إلى الأمام ويتناغم فعل الجميع هنا ليكمل بعضه البعض فعامل البناء هو الذي يحفز الكاتب أو المبدع الثوري والواقعي لتصوير معاناته والبحث عن أسباب تخفيف هذه المعاناة بالقوانين والأنظمة والأجر وحتى بالمكانة الاجتماعية عبر تقديم حجم المعاناة والألم التي يعيشها هذا العامل لينعم الجميع ثم يأتي دور السياسي والقانوني والتربوي الذين يسعون لتنظيم واقع أفضل لحياة الشغيلة ثم دور العالم والمخترع الذين يسعون لتخفيف الألم والمعاناة أو زيادة الرخاء البشري عبر مخترعات ومكتشفات جديدة في الصناعة أو الصحة أو غيرهما من صنوف الحياة.
ما تقدم هو الصورة المثلى للحياة الإنسانية وعظمتها والدور التقدمي العظيم الذي يحمله صناع الفكر والوعي بكل صنوفه والتي أوصلت الإنسانية إلى ما نحن عليه من ثورة الاتصالات والثورة الرقمية العظيمة لكن الجانب المظلم يكمن في جانبين الأول الرأسماليين القادرين على احتكار هذه المبتكرات والتطورات واحتكار أصحابها بشرائهم أنفسهم ومبتكراتهم وإبداعاتهم وأقلامهم وكل أدوات الإبداع والتأثير في الفكر الإنساني و والمحتكرين وأبواقهم هم الذين يحولون مكتشفات ومخترعات العصر الحديثة إلى نقمة على البشرية وبدل أن تصبح هذه الانجازات أداة لرخاء الإنسان تصبح أداة لشقاء الغالبية العظمى ورخاء المحتكرين وأدواتهم ووكلائهم والثاني يأتي دور هؤلاء الأدوات والوكلاء الذين يسعون إلى إلغاء عقل جمهور المستهلكين من الفقراء بدعوتهم لرفض ما هو جديد وإلغاء عقولهم لتسهيل مهمتهم في الإبقاء عليهم خانعين وخاضعين لهم ولإرادتهم ولم تنسى الإنسانية ولا زالت تستذكر في كل عام احتفالات جائزة نوبل للسلام الذي تم تصويره على انه الرجل الذي سعى إلى تحقيق انجاز عظيم في حفر المناجم واستخراج حجارة البناء وشق الطرق وإقامة السدود وشق القنوات للتخفيف من معاناة عمالها وإيجاد وسيلة للقيم بالمهام الصعبة نيابة عنهم وبوقت قياسي لا يمكن لليد البشرية تحقيقه بمفردها والى جانب ذلك سعى نوبل إلى تحقيق أقصى فائدة وزيادة للقدرة الإنتاجية لدى البشر ومع ذلك وصلت الأمور باختراعه على يديه وأسرته ومعهم لصوص العصر ليصبح أداة للموت والدمار ونقمة على البشرية لا نعمة لها وقد كان شقيقه الأصغر وخمسين آخرين في مصنع السلاح المملوك من قبل عائلة نوبل أول ضحايا اختراعه عام 1864 في مصنعهم في ستوكهولم وللأسف انتهى الأمر بالفريد نوبل إلى الحصول على براءة 350 اختراع ولكن أيضا إلى تأسيس 90 مصنع للأسلحة ومن هنا تجبى الثروة التي يوزع منها الفتات على الجائزة المسماة باسمه مع انه من هيئ الأجواء لبشاعة الحروب وشارك في تجارة وصناعة الموت بمصانع السلاح خاصته حتى وصل الأمر به للقول لصديقته " أنا صانع الدمار!!.. تاجر الموت!!.. اسمعي يا "بيرتا" سأكتب وصيتي محاولاً التكفير عن جرمي.. وسأجعلك المسؤولة عن تنفيذها !!. كل أموالي التي تقدّر بملايين الدولارات.. سوف أهبها لكل من يكرّس حياته لخدمة العلم والسلام والحب في هذا العالم!!.. إني أترك لك يا "بيرتا" تحديد الشروط والظروف.. وليغفر لي الله ما اقترفته يداي " ولم يرفض احد ممن منح جائزة نوبل للسلام هذه الجائزة المجزية ماليا سوى قلة قليلة كان منهم الكاتب الساخر جورج برنارد شو الذي قال " إنني اغفر لنوبل اختراع الديناميت لكني لا اغفر له اختراع الجائزة " والكاتب الروسي باسترناك والفيلسوف الوجودي جان بول سارتر حين منحت له في العام 1964م ولكنه للأسف عاد ليطالب بقيمتها المادية في العام 1975م وقد رفضت هيئة الجائزة منحه قيمتها تلك وهو ما يبين أن الرفض لم يكن مبدئيا وان سارتر الوجودي عاد منبطحا ليحصل على المال بعض النظر عن مصدره.
سيبقى المال ضعيفا وبلا قيمة إذا لم تجد ما تشتريه به وكذا سيبقى السلاح ميتا وغير قادر على إحداث الموت إذا لم يجد يدا تضغط الزناد وفي كلتا الحالتين يأتي دور أولئك الذين ينظرون ويقدمون التبريرات والتفسيرات للحرب وأهدافها وللمال ومهماته ولولا المال الاحتكاري المنهوب من أمعاء الفقراء لما وجد أصحابه دعاة لهم ليس ممن هم مستعدين لقتل أبناء جنسهم البشري بل حتى أولئك المستعدين لقبض مبلغ تافه من المال ثمنا لقلمهم أو ريشتهم أو كاميراتهم أو حتى أزاميلهم ليصورا القتلة على أنهم مانحين للخير وصانعين للسلام
بقلم
عدنان الصباح