تعرفت عليها منذ عقد من الزمن، وتواصلت معها مراراً، وقرأت لها الكثير مما أعدته من تقارير عن نضالات الأسرى الفلسطينيين وتضحياتهم، ومما خطه قلمها الوفي من كلمات تصف آلامهم ومعاناتهم وظروف حياتهم داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي.
لم تكتفِ بذلك، بل تَواصلَت مع العديد من الأسرى والأسيرات بعد تحررهم. كما وتَواصَلت أيضا مع العديد من النشطاء والمختصين في مجال الدفاع عن قضايا الأسرى وأجرت معهم مقابلات كثيرة ولقاءات عديدة. لقد أبدت حرصاً لافتا للتعرف على تفاصيل حياتهم خلف الشمس، ورصد أخبارهم اليومية في زنازين القهر، وحَرِصَت كذلك على أن تنقل أصواتهم البعيدة، وصرخاتهم الموجعة، وأنينهم المكبوت بين جدران السجون، عبر قلمها الرائع وكلماتها الصادقة. فعاشت معهم الحياة بكل تفاصيلها، بآلامها ومعاناتها، وغدت أسيرة لقضاياهم. وهذا ليس بغريب على فتاة تنتمي للشعب العربي الجزائري، عاشق فلسطين والمنتصر دوماً لها ولشعبها ومقدساتها. إنها الإعلامية الجزائرية "آمال مرابطي" عاشقة فلسطين وسفيرة الأسرى في الجزائر الشقيقة، التي سخّرت قلمها ووظفت طاقاتها وبذلت قصاري جهودها لأجل قضية الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، كجزء من دفاعها ووفائها واخلاصها للقضية الفلسطينية، واستطاعت أن تحول قلمها إلى بندقية تقاتل الوحشية الإسرائيلية وظلم السجان، وجعلت من كلماتها مطرقة لدق جدران الخزان وقنابل تتفجر في وجه الطغيان.
لم تكتفِ "آمال" بما حفظته في ذاكرتها ودونته في مكتبتها الخاصة، أو بما نشرته وتنشره عبر وسائل الاعلام الجزائرية من أخبار ومقابلات، وانما أرادت الارتقاء بعطائها وفعلها حينما قررت أن تعد كتابا يعرض مأساة الضحايا بشكل أوسع ويفضح جرائم الاحتلال بشكل أكبر، ويسرد حكايات وقصص ترويها عائلات الأسرى أنفسهم، ويوثق شهادات حية وتجارب مريرة لأسرى فلسطينيين غُيبوا خلف قضبان السجون وفي زنازين العزل الانفرادي لعقود طويلة من الزمن. وسعدت جدا حينما أبلغتني بقرارها هذا، ولم أتردد بإبداء الموافقة لكتابة التقديم الخاص لكتابها حينما طَلبت مني ذلك. كما ولم أتفاجا بمضمون الكتاب ومحتوياته بعدما اطلعت على الفهرس المرسل لي من طرفها، لأنه وببساطة أدعي أنني بت اعرفها جيدا من خلال متابعتي لكتاباتها واهتماماتها، لكنني في الوقت ذاته فوجئت بإصرارها وشدة حماسها للموضوع.
وفي السابع من آب/أغسطس 2016، رحلت "آمال" بهدوء ودون ضجيج، اثر حادث سير أليم وهي عائدة إلى بيتها في الجزائر، عن عمر يناهز الثالثة والثلاثين عاما. رحلت فجأة دون أن تُلمح لي من قبل أن مخزون عطائها قد أوشك على النفاذ، أو أن قلمها قد شاب وحبره أوشك على الجفاف ولم يعد بمقدورها أن تضيف من الكلمات لكتابها شيئا. فكان خبر وفاتها كالصاعقة على رأسي ولم أصدق أنها "ماتت"، وان يديها ستُكبلان الى الأبد ولم يعد بمقدورها أن تقاوم بقلمها وكلماتها كما اعتدنا عليها من قبل. فاتصلت مستفسرا وتواصلت مع العديد من الأصدقاء الذين أكدوا لي –للأسف- خبر وفاتها. فكانت فاجعة لنا ولكل من عرفها من الفلسطينيين.
"آمال مرابطي".. الجزائرية المولد والنشأة، فلسطينية العشق والانتماء، بأي دمع أبكيك، وبأي الحروف أرثيك، وأي الكلمات تلك التي يمكن أن توفيك حقك يا من ولدت في ولاية (قالمة) الجزائرية عام ألف وتسعمائة وثلاثة وثمانون، وتعلمت حب الوطن والعروبة والقومية، ويامن اتسمتِ بالأخلاق الحميدة وتميزتِ بالوفاء لمهنتك ورسالتك الاعلامية، وتربيتِ–كما كل الجزائريين- على حب القضية الفلسطينية والعشق الأبدي لفلسطين ومقدساتها والاخلاص في العمل من اجل الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني. وما حفل التأبين الذي نظم في غزة - تحت رعاية السيد الرئيس الفلسطيني "محمود عباس" ومشاركة كافة الأطياف السياسية والحزبية والجالية الجزائرية- إلا جزء يسير من الوفاء لمسيرتك الحافلة، وتقديرا منا للإعلام الجزائري، وتأكيدا على عمق ومتانة العلاقة التاريخية بين الشعبين الجزائري والفلسطيني.
واليوم ومع خسارتنا برحيلها نقرأ من جديد التجربة الإعلامية في الجزائر والتي أسست لها سفارة فلسطين هناك ولجنة الحرية لأسرى الحرية وفي مقدمتهم الأخ المناضل (خالد عز الدين) مسؤول ملف الأسرى في السفارة لدعم قضية الأسرى، لنسجل وللمرة الألف فخرنا بنجاحها واعجابنا بديمومتها وتطورها، ونأمل استنساخها في دول عربية أخرى. الأمر الذي يدفعنا دوما للإشادة بالإعلام الجزائري وتميزه، وبكل الإعلاميين الجزائريين ودورهم اللافت في دعم قضية الأسرى ومواصلة الطريق الذي اختطته "آمال" وثقتنا عاليا بالإعلام الجزائري، كما هي عالية دوما بالشعب الجزائري الشقيق.
"آمال" الجزائرية قد رحلت، فيما الآمال الفلسطينية وتطلعات الأسرى والمحررين، باقية وستبقى راسخة هناك في جزائر المليون ونصف المليون شهيد، وبرحيلها تأخذنا "آمال" بعيدا وتعيدنا للوراء عقود من الزمن، وتدخلنا الأراضي الجزائرية وتضاريسها الجميلة، لننبش في الذاكرة مراحل عدة ومواقف كثيرة، ونستحضر تاريخا مشرقاً، وحاضراً مشرّفاً للجزائر، جزائر الثورة والدولة، فنزداد حنيناً لها، وعشقا لترابها، وفخرا بشعبها، وتقديرا لمسيرتها الكفاحية والتحررية، واعتزازا بإعلامها الحر، واشتياقاً لزيارتها.
ومازالت صرخة رئيسها السابق" هواري بومدين (نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة) تصدح في آذاننا كفلسطينيين، على اختلاف انتماءاتنا وتوجهاتنا السياسية، لأنها ليست مجرد كلمات من رئيس غادر سدة الحكم وفارق الحياة، بل لأنها صرخة توارثتها الأجيال، ورددها الرؤساء المتعاقبين للجزائر، ليؤكدوا بأن فلسطين حاضرة ولم تغبْ عن أذهان وعقول وقلوب الجزائريين كل الجزائريين، لهذا عشقنا الجزائر الاستثنائية وتجربتها الفريدة، وحُفرنا اسمها في سفر تاريخنا وثورتنا، وخصصنا لها مساحة واسعة في ذاكرتنا الفلسطينية، وهي دائمة الحضور في قلوبنا وعقولنا، وكثيرة هي المواقف الرائعة التي حمل فيها الفلسطينيون علم الجزائر بجانب علم فلسطين خلال مقاومتهم لجنود الاحتلال الإسرائيلي.
لقد زرت الجزائر مرتين، فشعرت بسعادة باهرة وبارتياح كبير وبالدفء العربي الحنون وكأنني بين أهلي وأحبتي في فلسطين، وبمجرد مغادرتي لحدودها، فإذ بشعور الشوق والحنين ينتابني للعودة إليها من جديد. هذا هو العشق المتبادل، وما بين العاشقين للوطن فلسطين والعاشقين لجزائر الثورة والشهداء، علاقة تاريخية لا يدرك معناها وقيمتها ومتانتها سوى من قاوم الاحتلال هنا في فلسطين و من شارك ودعم الثورة ضد الاستعمار هناك في الجزائر الشقيق .. وصدق من قال : (من الأوراس الى الكرمل.. الثورة مستمرة).
وتبقى الجزائر فينا راسخة، وندعو الله أن يحميها ويحمي شعبها وأن ينعمهم بالأمن والاستقرار، وستبقى "آمال" بيننا حاضرة وفي قلوبنا ساكنة رغم رحيلها الأبدي. ونسال الله أن يتفقدها بواسع رحمته وأن يسكنها فسيح جناته وأن يلهم اهلها ويلهمنا جميعا الصبر والسلوان.
وان لله وان اليه راجعون.
بقلم/ عبد الناصر فروانة