أصول داعش والخطيب. . . بين مواطن فنلندا ومواطننا

بقلم: فايز رشيد

أبدعت الدكتورة ابتهال الخطيب في مقالتها الأخيرة في "القدس العربي" بعنوان "كحول" التي تنتقد فيها عدم إعطاء الدور العربي والإسلامي، في انتشار الإسلامية الأصولية عامة، واعتماد هذا الإنشاء والانتشار على نظرية المؤامرة. بداية، فإن المؤامرة هي إسقاط عاجز للفشل الذاتي في تحليل الأسباب الظاهرية للحدث عموما.
للأسف، فإن العقلية العربية عموما، هي أميل، بحكم إرثها التكويني، وفقا للمؤثرات العديدة في تشكيله، لإلقاء التبعات في الظاهرة على الآخر. ما أقوله، لا يعني مطلقا، الاستهانة بوجود المؤامرة. ولكنني كطبيب أرى، أن التنفيذ العملي للمؤامرة، مثل تغلغل أي بكتيريا مرضية، يعتمد على مدى حصانة ومقاومة المتآمر عليه، في الحالة المرضية، الجسم، فإن كان محصّنا، فإن المؤامرة (كما المرض) تفشل في مهدها، وترتد على من نسج خيوطها والعكس بالعكس صحيح. أذكر أبيات شعر للمبدع الشاعر الفلسطيني المرحوم سميح القاسم من قصيدته، "التعاويذ المضادة للطائرات" أنه قال: "علموني الدجل والرقص على الحبل.. وإذلال النساءْ. علموني السحر والإيمان بالأشباح، والرقية والتعزيم.. والخوف إذا جاء المساءْ. علموني ما يشاؤون ولم يستنبئوني ما أشاءْ. فرسُ الخضر كفيلٌ بي وحسبي الأولياءْ". هكذا ثقافة، إضافة إلى عوامل أخرى، كسوبرمانية البطل التاريخي العربي، لن تنتج إلا تعليلا سببيا مشوها للظاهرة، ولعل من أفضل من استعرض هذا الموضوع المفكر جورج طرابيشي في كتابه القيّم "نقد نقد العقل العربي" مع عدم إغفال كتب المفكر محمد عابد الجابري، إن في نقد أو تشكيل العقل العربي.
بالفعل، إذا أردت أن تفهم مزاج الناس في مجتمعات معينة، فانظر إلى المتطرفين فيها فهم يتحلون بالجرأة والصراحة، أكثر من غيرهم من الجماهير الصامتة في التعبير عن الرأي العام للمجموع. في السؤال، لماذا يستطيع "داعش" استقطاب هذا الكم من الشباب؟ يمكن القول: إن هناك بيئة مساندة لنمو أفكار التطرف في المجتمعات التي ينشأ أعضاؤه فيها وإلا لما استقطب "داعش" كل هذا الكم من البشر. لو أخذنا الشارع الصهيوني، فإن المتطرفين فيه، هم التعبير الأصح عن هويته العامة، لا أولئك الذين يتحدثون عن السلام.
المجتمعات العربية بالضرورة مختلفة عن الشارع الصهيوني، لكن علينا أن نعترف، بأن استقطاب "داعش" للعديدين في هذه الدولة العربية أو تلك إنما يعني انتشارا متزايدا للقوى الظلامية في الدولة المعنية، بما يستدعيه ذلك من انحسار للقوى الحيّة، أيا كانت صيغها التجمعية فيه، وهذا ما يجب أن تقف أمامه كل الهيئات الشعبية والرسمية المسؤولة في الدول وقطاعاتها المجتمعية وقواها أيضا وإلا سمحنا لـ"داعش" ومؤيديه بالمزيد من الانتشار. بالطبع هناك أسباب اقتصادية، سياسية واجتماعية لانتشاره في العالمين العربي والإسلامي. ومع صعوبة حصرها في مقالة، لكن يمكننا إيراد أبرزها:
أولا، ذاتية متعلقة بالتنظيم، فالتبشير بالجنة و"الجهاد" ضد الكفرة والعودة إلى "الخلافة" وأيام المجد الإسلامي، قضايا مستحبة في الواقعين العربي والإسلامي، لكن لما لا يسأل الشاب المنضوي للتنظيمات الأصولية نفسه، لماذا لا توجه هذه النشاطات ضد عدو الأمتين العربية والإسلامية، العدو الصهيوني؟ عدم التساؤل هذا، يدلل على طبيعة التنظيم وضحالة وعي هؤلاء المنضوين. وإلا كيف تمكنت هذه التنظيمات من الخروج على المألوف الإسلامي، وابتكار طرق متوحشة في القتل وأن الخليفة يوزع المقاعد في الجنة، وعلى ذلك قس.
ثانيا، لقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قراراتها المتعلقة بمكافحة الإرهاب، أسبابا موضوعية كثيرة لانتشار الأصولية المتطرفة، منها: الاحتلالات الأجنبية للبلدان العربية والتدخل في الشؤون الداخلية للدول، والحكم غير الصالح وغير الرشيد، والظلم والاضطهاد والفقر والبطالة وغيرها. يمكن إضافة الديكتاتورية وسياسة القمع الفكري الممارسة في العديد من الدول. كما سياسات تجهيل العامة من خلال الفتاوى المُمَرّرة عبر أجهزة إعلام الدول، بما فيها من إنكار للوقائع والحقائق العلمية، مثل "الأرض لا تدور حول الشمس"وغيرها الكثير.
وللحد من انتشار "داعش" وغيره من التنظيمات الأصولية المتطرفة، يتوجب التدقيق في المناهج الدراسية، وفي خطب الجمعة من أئمة المساجد، ومثلما ذكرت الكاتبة الخطيب، في النصوص التراثية، فهذه كلها، عوامل مساندة، يوظّفها قادة التنظيم ومنظّروه لتبرير منهجهم ومواقفهم، أو يستعينون بما يناسبهم منها، أو يحورونها بطريقتهم، بدون الرد عليهم من المرجعيات الدينية للأسف. كما فشلت أنظمة التعليم العربية في نقد الكثير من الجوانب السلبية في العملية التربوية على أصعدة عدة. نعم، لقد فشلت في التركيز على الوعي المدني وحقوق المواطنة وواجباتها، وعلى قيم التضامن الاجتماعي ومبدأ القبول بالآخر، والمهارات التحليلية الضرورية والتفكير النقدي. اعتمدت المناهج المدرسية على الأساليب التلقينية لا الحوارية، وعلى ضرورة تقبل فكرة قرارات السلطة الحاكمة من دون مساءلة. كما عزّزت مناهج التاريخ والتربية الدينية، العقلية الثأرية على أساس وجود الانتماءات المختلفة في المجتمع ذاته،على أسس عرقية وأيديولوجية وطائفية، ما جعل قطاعا عريضا من الشباب،عرضة لتأثيرات أيديولوجيا محركة لعوامل ابتعاد الأنا عن الآخر وصولا لبروز ظاهرة العداء.
على صعيد آخر، أعلنت الحكومة الفنلندية عن رغبتها في تجريب دفع مبلغ أساسي (بلا شروط) لكل مواطن، حددته بـ560 يورو شهريا، اعتبارا من مطلع عام 2017 . يمثل هذا المشروع أحد الوعود الانتخابية لرئيس الوزراء جوها سيبيلا الذي يتولى مهامه منذ مايو الماضي. ربما من زيارة قمت بها لفنلندا أثناء تواجدي للتخصص في روسيا، أحسست عن قرب مدى رفاهية الفرد في المجتمع الفنلندي. رغم ذلك، باختصار، إنهم يخططون لتحقيق المزيد من الرفاهية لمواطنيهم.
يحدث أيضا في القرن الواحد والعشرين، أن تُنتهك الأراضي العربية من قبل قوات غازية أجنبية، ولا تقوم مظاهرة واحدة في العواصم العربية. على صعيد آخر، لقد تم نشر دراسة مؤخرا، أثبتت: ان النزاع والحروب الاهلية التي اندلعت في منطقة الشرق الاوسط منذ بدء "الربيع العربي" عام 2010 ادت الى خفض متوسط الاعمار والحاق اضرار بصحة المواطنين. ورأى باحثون ان المواطنين في اليمن وتونس ومصر خسروا قرابة ثلاثة اشهر من متوسط الاعمار بين عامي 2010 و2013 مع تدهور الظروف التي هددت المكتسبات في القطاع الصحي التي تحققت في العقدين السابقين. وقالت الدراسة التي نشرتها صحيفة "ذي لانست غلوبال هيلث" انه في سوريا، انخفض متوسط الأعمار 6 سنوات، وجاء في الدراسة، "النزاعات الاخيرة دمرت البنى التحتية الاساسية في عدد من الدول". واضافت: "نتيجة لذلك يواجه ملايين الاشخاص نقصا كبيرا في المياه وظروفا صحية صعبة تؤدي الى ظهور اوبئة". وافادت بأن معدل الوفيات لدى الاطفال ارتفع ايضا في بعض الدول. أيضا، قضت محكمة عراقية في السماوة عاصمة محافظة المثنى، بالسجن لمدة عام واحد على طفل (14 عاما) بتهمة "سرقة 4 علب مناديل ورقية من متجر". صاحب المحل، سلم الطفل للشرطة العراقية، بعد أن قال إنه ضبطه بالجرم المشهود. الطفل واحد من آلاف الأطفال الهاربين إلى المدينة من مناطق المعارك الجارية بين القوات الحكومية وتنظيم "داعش".
انتقد العراقيون هذا الحكم وعبروا عن استيائهم وطالبوا بإطلاق سراحه، وقد لقبوه بـ"طفل الكلينكس". العراقيون يقولون إن المسؤولين أصبحوا شرفاء على حساب طفل مسكين. لقد حل العراق في المرتبة 161 من بين 168 بلدا وردت أسماؤهم في تقرير "منظمة الشفافية الدولية" لعام 2015، الذي يصنف الدول بشكل تصاعدي من الأقل إلى الأكثر فسادا، فرقم 1 هو الأقل فسادا ورقم 168 هو الأكثر فسادا. وقارن الناشطون العراقيون بين القيمة البسيطة للمناديل التي حوكم من أجلها الطفل بالسجن عاما، وما اعتبروه "سرقات مليارات الدولارات تجري خلف الأبواب الموصدة للمسؤولين القائمين على إدارة البلاد". للعلم، في مارس الماضي، أعلنت هيئة النزاهة إصدار مذكرات اعتقال بحق 18 وزيرا وأكثر من 2700 مسؤول في الدولة بتهم تتعلق بالفساد خلال العام الماضي، كلهم جرت تبرأتهم. لا أجد وصفا أدق من عنوان رواية المبدع دستويفسكي لحالة مواطنينا العرب " مذَلّون، مُهانون".

د. فايز رشيد
٭كاتب فلسطيني