بعد نشر مقالي الأخير "البوصلة الضائعة في فلسطين المحتلة" تلقيت سيلا من التعليقات والأسئلة. فقد حظي المقال بانتشار واسع واهتمام شديد، خاصة على صفحات التواصل الاجتماعي، حيث تكررت في تعليقات القراء عدة أسئلة أهمها ما العمل؟ هل يكفي وصف الحالة المرضية؟ أيكفي أن يجلس الكتاب في مكاتبهم ويلقوا دروسا حول انحراف أو ضياع بوصلة العمل الوطني، بدل محاولة تقديم بعض الحلول أو الأفكار للخروج من المأزق؟
نعم لا يكفي أن نشخص العلة ونحلل أسباب الوصول إلى هذه المأزق الوجودي، بل يجب أن نعرض بعض الآراء في كيفية الخروج من هذه المحنة التي رمانا بها الأوسلويون، من تقدم منهم ومن تأخر. فبعد أن تخلت القيادة الفلسطينية عن هدف التحرير المثبت في ميثاق منظمة التحرير واللائحة الداخلية لحركة فتح واستبدلته بهدف الدولة، وجدت نفسها ووجد الشعب الفلسطيني نفسه بدون إرادة منه في حالة ضياع شبه كامل، وهو يرى بأم عينيه أن المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني الإحلالي التطهيري يتقدم ويتجسد على الأرض كل يوم بينما تتبخر إمكانية تحقيق ما سمي بالهدف المرحلي، وهو قيام دولة مستقلة ذات سيادة مترابطة جغرافيا وقادرة على الحياة على الأراضي التي احتلت عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية..
وقد طلبت بدوري من القراء أن يساهموا في طرح إجابات للسؤال المركزي ما العمل؟ وقد تطوع الكثير منهم لتقديم بعض الأفكار والاقتراحات. وأود أن أؤكد منذ البداية أن هذا السؤال مطروح للنقاش على كل عربي يشعر بأن قضية فلسطين هي قضيته وأنها ما زالت تشكل القاسم المشترك الذي يجمع أحرار وشرفاء الأمة.
وبعد الإذن من لينين الذي سطر كتابا تاريخيا بالعنوان نفسه عام 1902 سأستعير عنوانه لأطرح بعض الأفكار للنقاش حول الأزمة الوجودية التي تمر بها القضية الفلسطينية. وقد يسأل سائل: ومنذ متى لم تكن القضية تمر في أزمة وجودية؟ والجواب نعم لكن ليس بمثل هذه الخطورة:
لسبعة أسباب رئيسية:
* الانقسام السياسي/ الأيديولوجي /الجغرافي/ العميق بين الضفة الغربية وغزة، أو بين السلطة الفلسطينية في رام الله والسلطة الحمساوية في غزة. والانقسام الحاد انعكس على مجمل العمل الوطني فلا يوجد لدى أي من السلطتين وضوح في الرؤية ولا يعرف أحد أين تتجه الأمور، فلا دعاة المفاوضات يفاوضون ولا دعاة المقاومة يقاومون.
*التطرف الإسرائيلي غير المسبوق في التاريخ الذي يترجم على الأرض يوميا بقوانين عنصرية متطرفة وبناء مستوطنات جديدة أو تسمين مستوطنات قائمة تحول بعضها إلى مدن كبيرة. أضف إلى ذلك تسارع عملية تهويد القدس واستكمال بناء جدار الفصل العنصري ومصادرة الأراضي وسرقة المياه وأسر أكثر من 7600 فلسطيني وسهولة إطلاق النار على الفلسطينيين بمن فيهم الأطفال…
* الحروب البينية في العديد من الدول العربية، خاصة سوريا تليها العراق فاليمن ثم ليبيا وتفاقم ظاهرة الإرهاب الإسلاموي وانتشار الحركات الإسلامية المتطرفة والتجاذبات الطائفية.
* موقف النظام المصري الحالي، الذي يلعب دور فك الكماشة لتعميق الحصار على قطاع غزة، والذي تحول إلى شريك إستراتيجي لإسرائيل أمنيا وسياسيا وربما عسكريا.
* التطبيع العربي المتسارع وبشكل أرعن بحيث بدأ يظهر للعلن بدون حياء كان آخر هذه المظاهر زيارة الجنرال السعودي المتقاعد أنور عشقي للكيان الصهيوني مصحوبا ببعثة أكاديميين ورجال أعمال ودعوته لأعضاء الكنيست لزيارة السعودية.
* التغييب المتعمد للقضية الفلسطينية في الأمم المتحدة والمجتمع الدولي وقد جاء تقرير "الرباعية" الأخير منحازا وبطريقة وقحة للرواية الإسرائيلية في وضع اللوم على الضحية. إن آخر قرار إتخذه مجلس الأمن كان لوقف عملية الرصاص المصبوب بتاريخ 9 يناير 2009.
* وأخيرا الانتخابات الأمريكية الحالية التي تتحول فيها إسرائيل إلى قضية محلية ورئيسية وموضع تنافس بين المرشحين على من يخدم إسرائيل أكثر.
وأود هنا أن أفتح باب النقاش بطرح ثلاث نقاط فقط كمحاور أساسية لعملية الخروج من المأزق الوجودي:
نقطة البداية الاعتراف بخطيئة أوسلو يجب أن نقر أولا أن هذا المشهد المأساوي الذي تعيشه القضية الفلسطينية الآن هو حصيلة مسيرة طويلة من عملية تكييف منتظمة لإخراج الثورة الفلسطينية المعاصرة من نهج التحرير إلى نهج التسوية، ومن حركة تحرر وطني إلى حركة استقلال وطني، ومن نهج التحالف مع الجماهير صاحبة المصلحة في التحرر والتحرير إلى الالتصاق بالأنظمة العربية الأكثر تخلفا، ومن الاعتماد على الجماهير في دعم الثورة إلى الاعتماد على أموال الدول المانحة المسمومة، التي حولت المناضلين إلى موظفين ورجال الخنادق إلى نزلاء فنادق.
نقطة البداية يجب أن تنطلق من قيام السلطة الفلسطينية بالاعتذار العلني للشعب الفلسطيني على هذه الاتفاقيات الكارثية، التي شرعنت الوجود الإسرائيلي في فلسطين مقابل بعض الوعود الغامضة التي لم يتحقق منها إلا قيام سلطة محدودة الصلاحية على جزء صغير من الأرض بدون سيادة وعلى جزء يسير من الشعب. إن المصائب التي جرتها اتفاقيات أوسلو على الشعب الفلسطيني لا نستطيع أن نحصرها في مقال. لكن نقطة المراجعة الشاملة والانطلاق نحو مرحلة جديدة تبدأ بضرورة الاعتراف بهذه الخطيئة وإعلان وقف العمل بها والتحلل من تبعاتها. والاعتذار لا يعفي أصحابه من المساءلة والمسؤولية. الاعتراف قد يعني الاستقالة أو التغيير الجذري وتحميل سلطات الاحــتــلال مســؤولية الاحتلال أو قيام لجان مؤقتة لتسيير الأمور إلى أن يتم انتخاب قيادة شرعية.
تبقى منظمة التحرير الفلسطينية الخيمة الكبرى التي تجمع أطياف الشعب الفلسطيني. لقد جرت عملية تهميش متعمدة لكل ما تمثله منظمة التحرير الفلسطينية، فالمجلس الوطني معطل وآخر اجتماع بكامل أعضائه كان عام 1988 والمجلس المركزي معطل بحكم تشتت أعضائه، وقد يجتمع فقط لتمرير قرار أو سياسة يريد قادة السلطة تمريرها. أما اللجنة التنفيذية فقد مات عدد كبير من أعضائها واختصرت بمجموعة قليلة من الأعضاء من الموجودين في دائرة السلطة الفلسطينية يستخدمون عند الحاجة، وقد يطرد الواحد منهم بإشارة من الرئيس، كما حدث مؤخرا مع ياسر عبد ربه، رغم تحفظنا الشديد على أدائه ودوره، إلا أننا نتحفظ أيضاعلى طريقة إقصائه. تفعيل المنظمة عمل جماعي يجب أن يشمل كافة مناطق الشتات بلا استثناء، فلا يجوز بأي حال من الأحوال أن يختصر الشعب الفلسطيني في منطقتين جغرافيتين. هناك ضرورة لإعادة بناء المجلس الوطني الفلسطيني بجدية وبعدد معقول يمثلون فعلا قوى مدنية وسياسية وتجمعات ونقابات وأصحاب فكر ومهارات وفاعليات فنية وثقافية واقتصادية. يمارس الانتخاب حيث يمكن ممارسته ويتم الاختيار الإجماعي أو شبه الاجماعي عندما يتعذر الانتخاب. وبعد اكتمال إنشاء المجلس الوطني الجديد يدعى للاجتماع لانتخاب لجنة تنفيذية وإقرار برنامج المرحلة المقبلة.
لا شيء يوحد الشعب الفلسطيني مثلما توحده المقاومة، ولا شيء يضمن اصطفاف جماهير الأمة العربية والإسلامية وشرفاء العالم إلا النضال لانتزاع الحقوق. وأقصد بالمقاومة هنا أولا الانتماء إلى حالة ذهنية تقوم أساسا على مبدأ أن الحقوق تنتزع انتزاعا وأن صاحب الحق قوي ما دام متمسكا بحقوقه ورافضا للتخلي عنها، وأن التنازل عن جزء من الحقوق يفتح المجال للاستمرار في تقديم التنازلات.
المقاومة السلمية المتواصلة والمتعاظمة ستنجز في وقت قصير أكثر بكثير مما أنجزه جماعة "الحياة مفاوضات" . ونود أن نطرح ثلاثة مجالات للنضال الفوري يمكن أن تكون موضع إجماع فلسطيني ودعم عربي ومناصرة عالمية:
ـ تعزيز التحالف مع أنصار القضية في العالم؛ BDS – التوسع في برنامج المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات.
- تسيير قوافل حرية لكسر الحصار على غزة – قافلة وراء قافلة من المتطوعين الفلسطينيين والعرب والعالم.
- المظاهرات والمسيرات السلمية العارمة والمتواصلة والمنظمة نحو الحواجز أو الجدار أو المستوطنات. يمكن استنباط طرق إبداعية جديدة كمسيرات شموع.. وغير ذلك من المبادرات التي ستتوالد مع احتدام المواجهات السلمية.
أعرف أن هذه الأفكار ستقلق الكثيرين من المستفيدين من وجود السلطتين الحاليتين وأصحاب المواقع والامتيازات وسيعتبرون هذه الأفكار نوعا من المزايدات والطرح العبثي. لكنني أؤكد أن الشعب الفلسطيني أمامه الآن أحد خيارين: إما محاولة إنقاذ القضية برمتها حتى لو كان ذلك على حساب فقدان عدة آلاف لامتيازتهم أو الاستمرار في النهج الحالي والانزلاق الأكيد نحو الهاوية.
د. عبد الحميد صيام
٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز