تعيش مدينة القدس -المنكوبة بأبشع احتلال-هذه الأيام واقعا غاية في التعقيد فإضافة إلى عمليات التهويد والاستيطان التي تشير مختلف الإحصائيات والبيانات الموثقة إلى تسارعها وتزايدها المطرد، فإن الوضع يزداد تعقيدا خاصة في ظل الاقتحامات المتكررة شبه اليومية من قبل المتسوطنين وبحراسة ودعم قوى الأمن الإسرائيلية لساحات المسجد الأقصى التي تشير إلى نية مبيتة لتقسيم المسجد الأقصى زمانيا ومكانيا.
وكما هو معلوم فإن أي حكومة أو حزب إسرائيلي في الحكم أو المعارضة من اليمين أو اليسار من القوى العلمانية أو الدينية يعتبر أن القدس هي(العاصمة الأبدية الموحدة لدولة إسرائيل) ويعتبر ما يسمونه(جبل الهيكل) أي المسجد الأقصى ثالث أقدس المساجد عند المسلمين وقبلتهم الأولى مكانا يهوديا غير قابل للتقسيم أو التقاسم ويجب أن يخضع لسيادة الدولة العبرية فقط.
وفي المقابل ورغم الانقسام السياسي والجغرافي بين حماس وفتح والخلافات الأيديولوجية والسياسية، فإنه لا يوجد أي طرف فلسطيني مستعد للقبول بدولة فلسطينية أيا كانت مساحتها لا تكون القدس ومن ضمنها المسجد الأقصى عاصمة لها، فلا أمل للقيادة الإسرائيلية ومن يدعمها بوجود قيادة فلسطينية تتخلى عن القدس؛ فالمطالبة والسعي نحو السيادة على القدس هي أبرز عوامل الشرعية لأي قيادة فلسطينية إسلامية كانت أو وطنية أو يسارية أو غير ذلك...فإنه لا ولم ولن يوجد قائد فلسطيني يقبل التنازل عن المسجد الأقصى.
أما ما سعت له الإدارة الأمريكية(أيام بيل كلينتون) بإيجاد ما يسمى بـ(الحل الإبداعي) لقضية القدس فهو أمر تبين فشله، فنحن أمام حالة استقطاب بين عقيدتين متنافرتين، كل منهما ترى في التنازل عن القدس كفرا أو خيانة، ولن ينتهي هذا الصراع إلا بهزيمة محققة لأحد الطرفين.
ومع أن الإجراءات الإسرائيلية نجحت في عزل القدس عن الضفة الغربية، فإن القدس لم تبتعد عن الحالة النضالية وكان لها مساهمتها الواضحة في الحالة الكفاحية أو الهبة الجماهيرية التي انطلقت أوائل تشرين أول/أكتوبر 2015م بل إن طابع الهبة في جزء كبير منه مقدسي بامتياز...ولكن القدس تعاني من عدم وجود وحضور قيادة ذات كاريزما وتأثير منذ رحيل فيصل الحسيني قبل 15 عاما وإغلاق المؤسسات الفلسطينية في القدس مثل بيت الشرق وغيره، فلا يوجد داخل المدينة مؤسسة أو شخصية ذات إجماع وحضور وتأثير مما جعل الجهد النضالي مشتتا، مع أن القدس كانت الأقل تأثرا بتداعيات وانعكاسات الانقسام نظرا لوضعها وخصوصيتها وعدم خضوع سكانها وأحيائها لأي من طرفي الانقسام، وظلت العلاقات بين فتح وحماس في داخلها جيدة أو معقولة مقارنة مع المناطق الأخرى.
هذا هو واقع القدس دون النظر إلى الوضع العربي وتأثيره على مجريات الأمور؛ وحقيقة لا يمكن الرهان على انشغال العرب والمسلمين بنزاعاتهم وصراعاتهم الطائفية والجهوية والسياسية بحيث يـُتوهم أن القدس قد سقطت تماما من حساباتهم وأنه يمكن للحكومة الإسرائيلية أن تفعل ما تشاء هي ومستوطنيها المتطرفين، فقد تكون القدس عامل تـثـبـيط ولو مؤقت لصراعات المنطقة في وقت ما.
ومن لاحظ حرص أهالي الضفة الغربية على الوصول إلى المسجد الأقصى خلال شهر رمضان المبارك، ممن يسمح أو لا يسمح لهم وفق المحددات والمعايير الإسرائيلية بدخول القدس والصلاة في المسجد الأقصى يدرك أن القدس رغم كل الانشغال بهموم ومشكلات الحياة اليومية من الفقر والبطالة، والصراع السياسي الداخلي، لدرجة قيام كثير من الشبان بالتسلق بوسائل بدائية وبحبال غير متينة فوق الجدار المرتـفع بضعة أمتار وانتشار مكثف لقوات الاحتلال، يدل على أن القدس والمسجد الأقصى خط أحمر، وأن ارتكاب أية حماقة سواء من الحكومة الإسرائيلية أو المستوطنين سيجر المنطقة إلى صراع دموي عنيف.
ولعل الحكومة الإسرائيلية تدرك ذلك فتعمد إلى سياسة تقوم على جعل الفلسطينيين والعرب والمسلمين يتقبلون تدريجيا ما تقوم به من إجراءات؛ فمثلا صار خبر اقتحام المسجد الأقصى من قبل المستوطنين ومحاولتهم إقامة طقوس تلمودية داخله خبرا لا يتصدر وسائل الإعلام، ولكن هناك من يرابط داخل المسجد ويتصدى لهم ويشعرهم بأنهم غير مرغوب فيهم ولن يسمح لهم بتقسيم المسجد الأقصى، ولو دفع حياته ثمنا.
أمام هذا الواقع المعقد والمتشابك يبدو المستقبل أكثر تعقيدا وتشابكا؛ والسيناريوهات المتوقعة غالبها لا يبشر بتسوية سياسية نظرا للاستقطاب الذي تحدثنا عنه ونظرا لجنوح المجتمع الإسرائيلي بقوة وزخم نحو اليمين والتطرف، ولأنه لن يقبل أي قائد فلسطيني حالي أو مستقبلي بتوقيع اتفاق يشطب الحق العربي والإسلامي والفلسطيني في القدس والمسجد الأقصى.
وقد يرتكب المستوطنون اعتداء كبيرا صاخبا لتغيير الواقع في المسجد الأقصى على غرار المسجد الإبراهيمي مراهنين على ضعف الحالة العربية والفلسطينية، ومستندين إلى ردة الفعل الباردة حينما أحرق المسجد صيف سنة 1969م وهذا رهان يشبه اللعب بالنار، فنحن أمام جيل فلسطيني جديد مختلف عن الجيل الذي كان سابقا والذي حين وقع الاعتداء (الحرق) كان ما زال تحت تأثير الصدمة من هزيمة الجيوش العربية في حزيران/يونيو 1967م وكانت الحالة الوطنية الفلسطينية ما زالت تراهن على قوة ودعم وإسناد العرب أكثر من الرهان على القوة الذاتية والإمكانات المحلية؛ وعليه فإن أي اعتداء قادم ومتوقع على المسجد الأقصى يعني تفجر الأوضاع بشكل أوسع حتى مما كان من أواخر أيلول/سبتمبر 2000م عند محاولة شارون اقتحام المسجد الأقصى...فالمسجد الأقصى هو كيمياء القضية ولبّها وجوهرها، وسيكون صاعق تفجير الجولات القادمة من الصراع، وعامل تغيير وقلب كل المعادلات والحسابات والدراسات!
،،،،،،،،،،
الإثنين 6 ذي الحجة 1437هـ ، 8/9/2016م
من قلم:سري عبد الفتاح سمّور(أبو نصر الدين)-جنين-أم الشوف/حيفا-فلسطين