لا أعرف ما إذا كان تمسّك أوروبا بحل الدولتين هو من قبيل السذاجة الأوروبية أو من قبيل قوة التسارع أو عن اقتناع. فاللغة الأوروبية المتصلة بالصراع هنا تتلخّص في نقد كل ما قد يحول دون تطبيق حلّ الدولتين - دولة إسرائيل وأخرى للفلسطينيين. من هنا تؤشّر مؤسسات الاتحاد الأوروبي بضائع يتمّ إنتاجها في المستوطنات الإسرائيلية شرقي الخط الأخضر للفصل بين إسرائيل الشرعية والاحتلال غير الشرعي. ومن هنا أيضاً، يوجّه الاتحاد الأوروبي ودوله انتقادات لسياسات إسرائيل - الاستيطانية مثلاً - لاعتبارها تخريباً لفرصة حلّ الدولتين.
ليس هذا فحسب، بل إن المداولات الديبلوماسية لممثلي "الاتحاد" ودوله المختلفة مع الفلسطينيين والإسرائيليين تستند في غايتها إلى فحص فرص هذا الحلّ المدعوم أميركياً ومن المحافل الدولية الأخرى.
من المُقلق أن تعتمد الديبلوماسية الأوروبية في شكل نهائي على صيغة واحدة للتسوية من دون فتح الباب على صِيَغ أخرى بديلة. نقول هذا في ضوء ما نلمسه من أن تطبيق هذا الحلّ على الأرض صار مستحيلاً وأن الخطاب المتصل به صار فخاً للفلسطينيين ولكل أنصار السلام في إسرائيل. والاستحالة ليس لأنه من الصعب إجلاء نصف مليون مستوطن من بلدات وبؤر استيطانية أقاموها ضمن مشروع إسرائيلي منهجي لتهويد المكان أو التموضع المريح فيه، بل لأن الفئات الوسطى في المجتمع الإسرائيلي، من كل التيارات اليهودية العلمانية والمتدينة الشرقية والغربية، تصالحت مع النُخب اليمينية في ما يتصل بالاستيطان، وهناك جيلان إسرائيليان ولدا بعد حرب حزيران (يونيو) 1967 حيث يبدو لهما واقع السيادة الإسرائيلية "طبيعياً" على كل المساحة بين البحر والنهر.
في جوهر الأمر، نسأل ومعنا كثيرون عن شكل دولة فلسطينية مليئة بالثقوب كالجبنة السويسرية وطبيعة فرض السيادة فيها، إذا قامت - هذا في ضوء تعمّد إسرائيل الرسمية قطع كل تواصل جغرافي للوجود الفلسطيني في الضفة الغربية لإجهاض البُعد الجغرافي للدولة وسيادتها.
صحيح أن الأولوية للواقعين تحت الاحتلال أن يكنسوا الاحتلال ويتخلّصوا من قمع يومي وإذلال على مدار الساعة. ومع هذا ينبغي أن تهتمّ القيادة الفلسطينية بأن توضح للأوروبيين وغيرهم وجود خيارات أخرى غير حلّ الدولتين وضرورة الانفتاح على أشكال أخرى للتسوية، على الأقل لحالة فشل هذا الحل واستحالته. وجدير بهذه القيادة أن تأخذ بأفكار تطرحها جهات فلسطينية على جانبي الخط الأخضر وأخرى إسرائيلية.
يكفي أن نرصد ما يدور من مداولات في حلقات دراسية يهودية - فلسطينية أو فلسطينية منفصلة لنعرف بوجود مروحة من الخيارات، وليس حلاً واحداً وحيداً تتحدث به أوروبا أو الإدارة الأميركية. وسيكون من الحكمة الديبلوماسية الفلسطينية أن تُفتح آفاق متعددة للتسوية.
أما اقتراحي المبني على محاورة عقود مع الإسرائيليين وعلى دراسات ميدانية وبحثية، فهو أن يأتي الفلسطينيون باقتراح مكتمل لمصالحة تاريخية ضمن رؤية استراتيجية طويلة المدى يشتقون منه الخطوات أو الحلول المرحلية، ومن بينها حل الدولتين أو الفيديرالية أو الدولة الواحدة. تطور كهذا لا يكتفي بطرح إشكالات أو ملفّات على الإسرائيليين بل يقترح عليهم حلولاً ومخارج ويشكّل تحملاً من قبل الفلسطينيين لمسؤولياتهم تجاه الصراع ككل وليس المسألة الفلسطينية وحدها. في كل التجارب التي وضعنا فيها الأمور على هذا النحو أمام الإسرائيليين كانت لقاءاتنا بهم عملية ومثمرة على صعيد الحوار وآفاقه، حتى على مستوى العلاقة بين إسرائيل الرسمية والفلسطينيين فيها.
إن تطوراً كهذا، إذا ما تم طرحه على المحافل الدولية، سيحرر هذه المحافل من ضيق حلّ الدولتين ومطبّاته ويعطيها مساحة أكبر للتفكير والعمل الديبلوماسي. وستُحسن القيادة الفلسطينية صُنعاً لو أنها أسست المرحلة المقبلة من مداولاتها مع الأوروبيين في شكل خاص على هذه الفكرة وما تنطوي عليه من آفاق. ولا يتعارض هذا أبداً مع المبادرة الفرنسية لعقد مؤتمر دولي ولا مع فكرة حل الدولتين، بل يوسّع شبكة الأمان وخيارات المفاوضين الفلسطينيين والدوليين والإسرائيليين على حدّ سواء ويحلّ العُقد القائمة.
فكرة المصالحة ليست جديدة، لا في السياق الفلسطيني ولا في سياق صراعات أخرى بين مجتمعات مُهاجرة ومُجتمعات مُقيمة أصلانية. فالتجارب في مواقع أخرى تُشير بوضوح إلى ما تفتحه من آفاق أمام جهود حلّ الصراع في مستوى خط النهاية، وفي مستوى خط البداية أيضاً. وهو ما ينبغي أن يشغل الديبلوماسية الفلسطينية لا سيما في علاقتها بالأوروبية التي تبدو لي محافظة في توجهاتها للصراع، وإن وُجد اهتمام أوروبي بالحلول الأخرى.
مرزوق الحلبي