السلطة السياسية:
لا يتفق الباحثين أبدا على تحديد أول دولة في التاريخ فبعيدا عن أول نظام حكم او وجود حاكم والذي يعود أصله للفراعنة هناك خلاف بين دول مثل الصين واليابان وسان مارينو على لقب أول دولة في التاريخ فكل منهم يدعي انه الأولى بهذا اللقب وبعيدا عن الدراسات العلمية والبحث في المعنى العصري للدولة فان نظام الأسرة والقبيلة والعشيرة هي أول أنظمة التاريخ ومنها انبثقت الأنظمة السياسية والاجتماعية الأخرى بما فيها الأشكال المختلفة للدولة وصولا إلى الدولة الحديثة ولا زالت دول عصرية كبريطانيا والسويد والدنمارك وغيرها تحافظ على دور الأسرة الحاكمة التاريخي ويتحمل دافعي الضرائب هذا العبء دون مبرر أخلاقي أو حتى عقلاني مقبول وتكلف الأسرة الحاكمة في بريطانيا صندوق الدولة أكثر من 50 مليون يورو سنويا بينما تقول المجلة الفرنسية " وجهة نظر " أن القصر الملكي في المغرب يكلف خزينة الدولة أكثر من ربع مليار دولار سنويا وحسب رويترز بناء على تقارير ويكليكس فان العائلة المالكة في السعودية تكلف ميزانية الدولة رسميا فقط 2 مليار دولار سنويا وان الأمراء تخصص لهم رواتب من ميزانية الدولة منذ ولادتهم لكونهم فقط من نسل هذه العشيرة وبالتالي فان انضباط العشيرة في الغرب واختبائها خلف جدران قصورها العالية أراح المواطن الغربي من فسادهم وإفسادهم اضعف الإيمان وهذا لا يوجد على الإطلاق في الشرق ودوله فأنت لا يمكنك أن تعرف حجم الدمار الذي تلحقه هذه العشائر الكبيرة العدد كما هو الحال في السعودية بالدولة واقتصادها خارج الميزانية الرسمية مما دفع ببعض الجمهوريات إلى التحول إلى ملكيات رسميا وحتى بعض الدول التي تتغنى بالثورية ككوريا الشمالية صار الحكم بها للأسرة أبشع من الحكم الوراثي الملكي وأكثر إيغالا في الوحشية وبالتالي فان العشيرة لا زالت مختبئة بين ثنايا البدلات الحديثة وربطات عنق الحكام العصريين وهم لا يتورعون حتى اليوم عن اللجوء إلى العشائر وتقويتها كلما ألمت بهم مصيبة أو أزمة أو احتاجوا للدعم والإسناد الشعبي فلا يتوجهون مثلا للنقابات ولا للاتحادات التي يحاربونها بل يعودون إلى العشائر التي ينتمون لها فعلا وفكرا لإدراكهم الأكيد بوجود المصلحة المشتركة بينهم وبين العشيرة في واقع الحال.
نحن إذن أسرى العشيرة أكان ذلك في الدين أو السياسة واسري هنا بالمعنى الذهني لا العملي فحتى لو انزوت العشيرة رسميا بعيدا عن المسجد وقصر الحكم إلا أن ذهنيتها تظل حاضرة في كل سلوك ويظل قانونها الغائب شكلا حاضر ليطل برأسه كلما تعارض معه رأي أو سلوك حتى لو كان ذلك دينيا أو سياسيا فلا يستطيع الحاكم المستند إلى أسرته وعشيرته أن يهدم حائطه بيديه وهذا يندرج على من هم تحت إمرة الحاكم ففي الشرق يلجأ الحاكم أيا كان موقعه إلى أسرته ليجلب إليه منها موظفيه الأقرب والأكثر إخلاصا له لا للبلد ويطلق أيديهم طبعا ليفعلوا ما يفعلوا بسطوة اسمه وسلطته وقربهم منه دون أن يتمكن احد من لجمهم أو وقفهم عند حدهم ويغيب الدين والقانون أو يطوعون بالقوة لإرضاء العشيرة وذهنيتها وفي سبيل ذلك يصبح الحرام دينيا حلالا إن أرادت الذهنية العشائرية ذلك والحلال حرام ويصبح الخروج عن القانون بطولة والرضوخ له أو القبول به جبن وضعف.
في الشرق تتدخل العشيرة قبل القانون بل ويقبل القانون بقرار العشيرة ولعل ظاهرة جاهات الإصلاح هي الأخطر في بلادنا فبدل التقاضي أمام القانون تطلق الدولة العنان لرجال العشائر والوجهاء للقيام بدور الحامي للمجرم والذين يكرسون كل وقتهم لحمايته من العقاب القانوني تحت حجج واهية تتحدث عن السلم الأهلي والاجتماعي وحماية المجتمع وصون الدم وما إلى ذلك والحقيقة أنهم ينتصرون للظالم ضد المظلوم الذي لا يجد مفرا من القبول إما لضعف أو حاجة أو عدم القدرة على مقاومة الضغوط وغني عن القول طبعا أن الظالم أو من يملك القدرة على الظلم هو ابن العشيرة الأكبر أو الأغنى وهو بالتالي يدرك مصدر قوته قبل قيامه بجريمته والمعتدى عليه بالضرورة هو الأضعف أصلا حتى تم الاعتداء عليه أو على أي من حقوقه وبذلك يسهل إجباره على السكوت وقبول الحل العشائري الذي يجعل المجرم يفلت من العقاب فما الذي يحدث هنا.
مجرم لا يدفع ثمن جريمته بل على العكس تساهم كل العشيرة بالدفاع عنه ومعها المجتمع العشائري بأسره ممن ينكرون على الضحية تعنتها أو رفضها للتنازل وبالتالي فنحن نشجع هذا المجرم ومن هم على شاكلته على مواصلة جرائمهم وبشكل أبشع حين يسود شعار " إلي بتعرف ديته اقتله " وبالمقابل فان المظلوم قد وقع عليه الظلم ثلاث مرات, الأولى من المجرم نفسه حين قام بجريمته, والثانية من المجتمع حين اجبره على التنازل, والثالثة من القانون ومؤسساته الذي تنازل عن دوره لصالح العشيرة, فنحن إذن أمام صورة سريالية عجيبة لمكونات مجتمع تقبل به وتتعايش معه وتستخدمه ولكنها لا تؤمن به فالمجرم يقبل بقانون ضعيف بل ويصر عليه حتى يبقي يديه طليقتان ليفعل ما يشاء والمظلوم يقبل ضعفا ولكن لا يؤمن أبدا بما يقبل به لأنه لم ينصفه وأدوات مجرمة على كل الجهات فأين هي إذن المادة الخام التي سنبني بها مجتمعا مدنيا بقيم المواطنة المدنية وإنسانية الإنسان بعيدا عن اسمه أو صفته أو جنسه أو لونه أو دينه أو طائفته أو عشيرته, فالوزراء يصبحون معا عشيرة يدافعون عن الظالم قبل المظلوم منهم حماية لأدوارهم ومصالحهم ضد الجمهور, وأصحاب المهنة عشيرة ضد من يطلبون مهنتهم فيتوحدون على السعر العالي وعلى شروط وحقوق مهنتهم ولا يلتفتون إلى شروط وحقوق المستهلك أو مشتري الخدمة, والنساء عشيرة في مواجهة ظلم الرجال, والرجال عشيرة في الحفاظ على مكانتهم المسيطرة, والطائفة عشيرة في مواجهة الطوائف الأخرى, وكذا الأديان إذا تعددت في بلد ما, وطبعا تظل العشيرة نفسها هي الأساس فالطبيب الذي ينتمي لعشيرة الأطباء لا يمكنه أن يتنكر لعشيرة عائلته, وحتى رجل القانون الذي ينتمي لعشيرة النظام أو الدولة لا يمكنه أن يهرب من سطوة عشيرته, فهو سيكون ضعيفا أو متواطئا حين يكون ملزما مثلا بتنفيذ القانون ضد احد أفراد تلك العشيرة التي ينتمي إليها.
ذهنية العشيرة في الشرق لا زالت مسيطرة وأحيانا بغباء مطلق فحين انتخب البريطانيون عمدة لندن من أصول باكستانية مسلمة ضج المسلمون كعشيرة واحدة وغنى الفلسطينيون له بكل جنون وكان الرجل انتخب لكل منهم في بلده علما بأنه واحد ممن هربوا من كارثية العشيرة في الشرق وهو قطعا سيعمل على خدمة ناخبه اللندني ولن تعنيه باكستان او غيرها بشيء إلا بحجم فائدتها لبلده التي ينتمي إليها " لندن " وحين اختير " ميشال تامر " نائبا لرئيسة البرازيل ثم رئيسا ضجت قرية أصوله في لبنان بكل الأفراح دون أن يكونوا يدركون مثلا أن الحياة السياسية والرئاسية والنيابية في بلادهم أنفسهم معطلة وحين حصل العالم احمد زويل على جائزة نوبل أقيمت الأفراح لدى عشائر العرب رغم أن علمه وجائزته لم يكونا للعرب ولا على ارض العرب, عضو البرلمان الاسباني من أصول مصرية " نجوى جويلي " كتب عنها والدها على مواقع التواصل الاجتماعي " أنها ابنة ثورة 25 يناير " هكذا وببساطة أعاد ابنة مدريد إلى الثورة المصرية رغم أن لا علاقة لها لا بمصر ولا بثورتها بل إن والدها ظل أسيرا لعشيرته مصر حين أصبح بلا عشيرة هناك بينما تمكنت ابنته من كسر لجام العشيرة لتنتمي لبلد هي اسبانيا التي قبلتها أيضا ببساطة حضورها الوطني بعيدا عن اسمها وشجرة العشيرة فلا عشائر هناك سوى العشيرة الاسبانية, " خديجة عريب " التي انتخبت رئيسة لمجلس الشيوخ الهولندي وتفخر بها العشائر العربية وخصوصا المغربية قالت عن نفسها أنها " تشعر أنها هولندية الانتماء وأن السبب الوحيد وراء احتفاظها بالجنسية المغربية هو أن المملكة لا تسمح لرعاياها بالتخلي عن هويتهم " أفلا يكفي رأيها لنعرف الحقيقة, عمر كريم شحاده نائب رئيس جمهورية البيرو لا احد كان سيعرف اسمه لو كان في رام الله.
يقول هشام شرابي في ( العهد الأبوي ) ص 47 " تكمن الدينامية البارزة للبينة القبلية في العصبية, وهذا منحى سلبي إذ تقوم بادئ ذي بدء بالفصل بين الأنا والآخرين, ثم وعلى مستوى أعلى, تقسم العالم إلى نصفين متعارضين, القرابة واللا قرابة, العشيرة والعشيرة المعادية لها, والإسلام واللا إسلام, وهكذا منطلقين من المبدأ الأخطر والشائع بين الناس " أنا وأخوي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب " لاحظوا أن القول لم يشمل الآخر في الخطوة الثانية ولم يقترب من الأنا في الأصل لان الحقيقة المرة أنني على أخي أولا إذا تعارضت مصالحنا فالعشيرة في القرابة هنا قائمة أصلا على العلاقة مع الأنا التي هي الأصل, فالأصل في القرابة مع الأنا, لا في قرابة المجموع مع المجموع, فأنا مع العشيرة لأنها توفر للأنا مظلة عند الحاجة وإذا تعارضت القبيلة مع الأنا لسبب ما فالأنا هي الأساس وكل العلاقات منطلقة من نقطة الصفر ولا مكان إذن للجماعية ما دام الفرد هو المقرر حسب المصلحة او تعارض المصلحة بقانون التناقض والتطابق في المصالح من منظور فردي مهما علت تلك المصالح او سخفت تناقضاتها. وبالتالي فلا حياة مع المواطنة بظل الأنانية المتأصلة والمفرطة في الإغراق بالذاتية المقيتة والفردية.
على هذه القاعدة نجد اللجوء للهجرة منتشر في أوساط الشباب وغير الشباب في العالم العربي فهو حين لا يصبح قادرا على احتمال سطوة العشيرة كمكون للأفراد أصلا يلجأ للهروب كليا وتراه هناك يقبل بكينونة جديدة ما أن يغادرها حتى يعود ليقبل بحضن العشيرة كملاذ لا بديل عنه فحين تحضر الدولة في الغرب يقبل العشائري بالتنازل عن عشيرته الغائبة وحين تغيب الدولة في الشرق يعود لعشيرته حتى لو غاب عنها نصف قرن إلا في حالات نادرة, ولا تأخذ العشيرة قراراتها ولا تصنع قيمها بالتشارك بل بإرادة النخب المسيطرة القادرة على فرض نظام حديدي لا يتيح للفرد أن يمارس ذاته بل أن يخفيها بأقنعة كاذبة تطل برأسها أحيانا هنا وهناك بأدبيات وشعارات مغلفة بغطاء عشائري كمفهوم " أنا واخوي على ابن عمي .... " فهذا غطاء للفردية يكذب باسم الجماعة ليرضيها بان يتنازل عن الأنا وحدها لصالح الدرجة الأقرب وحتى مع تطور العصر وظهور عالم الانترنت والعالم الافتراضي كما يسميه البعض نجد ظاهرة الجماعات والتحكم بالرأي فيها فأكثر من مجموعة على صفحات التواصل الاجتماعي لا تقبل الآخر وعليك أن تلتزم بقواعد يضعها أصحاب الصفحة او أن تنشيء صفحتك لجماعتك بما يبشر بتعصب اخطر من كل أنواع التعصب الحي والمباشر على الأرض ليغزو التعصب كذهنية متأصلة حتى للفكر عن بعد فلا تعد تقبل الفكرة من غيرك إن خالفت جماعتك مهما كانت بعيدة عنك علما أن من الممكن لمثل هذه المواقع أن تسهل تلاقح الأفكار والقدرة على التمرن على قبول الآخر بدءا من الآخر البعيد وانتهاء بالآخر القريب على قواعد المتفق عليه في الحياة قبل المختلف عليه وبذا يصبح قبول الاختلاف على قاعدة أهمية المختلف من اجله وهو الموضوع لا الذات, فحين تدرك أهمية الموضوع المشترك والذي من اجله جاء الاختلاف وان كلا الطرفين او الأطراف يسعون للخير لنفس الموضوع كل من طرفه وحسب رؤيته تغيب الذات الأنا كفرد أو الأنا كفئة, كجماعة, كطائفة, كلون, كجنس, أيا كانت هذه الأنا لصالح الذات الموضوع والتي لا يمكن لها أن تصلح إلا بتكاتف كل الأطراف المكونة للمجموع المعني بالموضوع نفسه.
الاختلاف في الذهنية العشائرية لا يقف عند حده بل يتجاوز إلى النهاية مطالبا بإلغاء الآخر او تكفيره او تخوينه وما حدث مثلا بين مصر والجزائر في مباراة رياضية جر البلدين بل ومعهم الشعوب العربية إلى مناكفات واتهامات طالت كل شيء رغم أن الأمر لم يكن أكثر من خلاف على كرة قدم لا أكثر ولا اقل من المفترض أن يكون الموقف هو من نوع اللعب لا من اللاعبين أنفسهم والجميع يعرف أن حجم الاهتمام والنجاح في كرة القدم في الغرب اكبر بما لا يقاس من حجمها عند الشرقيين والعرب تحديدا ومع ذلك ترى الاقتتال حتى على الفرق الغربية نفسها والجميع يعرف حجم الصراعات والمناكفات التي تدور في فلسطين بين مؤيدي برشلونة ومدريد دون أن يدري كلا الفريقين بما يعني ذلك أبدا ولو قدر لهم أن يروا جلسة مناكفات فلسطينية عنهم لاعتزلوا اللعب من أساسه او لقرروا أن يحرمونا من مشاهدتهم.
في إحدى جلسات مجلس الشعب السوري في بداية الأزمة وحين ظهر الرئيس السوري ليلقي خطابه أمام المجلس ارتفعت الهتافات من أعضاء البرلمان - والذين من المفترض بهم أنهم هم من يساءلون الرئيس – ليهتفوا بصوت واحد كالطلبة " بالروح بالدم نفديك يا بشار " فما كان من الرئيس نفسه إلا أن صحح لهم هتافهم قائلا " بالروح بالدم نفديكي يا سوريا " فأمنوا وراحوا يرددون من بعده ألا يعني هذا تسخيف للوطن لم يقبله حتى الشخص نفسه واعتبره مخجلا له وللهاتفين معا ليجد نفسه مضطرا لتصويبهم.
على اثر ما سمي بالربيع العربي وبعد احتلال العراق وجد الشاب العربي نفسه أمام حقائق كادت أن تغيب عن باله بدءا من الطائفية والعرقية في العراق والجهورية والقبائلية في ليبيا والانقسام العشائري والطائفي التاريخي في اليمن وحتى الجهوية والطائفية في مصر مما اثبت أن كل هذه الانقسامات كانت حية وان حاولت الاختباء ولا زالت سوريا تعاني كل مآسي الذهنية العشائرية على أكثر من صعيد رغم أنها ولقرن تقريبا ظلت تعتبر دولة علمانية دون أن تتمكن من أن تصنع مجتمعا مدنيا يصعب كسره وتفتيت وحدته لو انه كان حقيقيا, ولا زال العمق العشائري للرئيس اليمني المخلوع علي عبدالله صالح يشكل قاعدة قوية له لا يمكن تجاهلها وقد وجد مصالحه مع الحوثيين الذين كانوا ألد أعداءه في الماضي القريب لنرى أن التحالفات تبنى على مصالح الأنا العشائرية قبل الأنا الوطنية او القومية او الدينية وان الدولة والدين والطائفة جميعها تغيب قسرا إذا تعارضت مع أنا العشيرة والمتنفذين فيها.
إبان الاعتقال في معتقلات الاحتلال الصهيوني وكنت في العشرينات من عمري وخلال نقاش سياسي لي مع احد الزملاء وكان في نهاية الخمسينات من عمره ومر ذكر احد القادة محاول وميلي انتقاد تصريح له فجن جنوني إذ كيف يجرؤ هذا الرجل على نقد زعيم بهذا الحجم ومن هو حتى ينقد أقوال الزعيم وقلت له بالحرف على ما اذكر " لو قال هذا الزعيم أن الشمس تشرق من الغرب فهو على حق ونحن فقط لم ندرك بعد كيف يكون ذلك " بكل بساطة وبشدة أطلقت تصريحي الذي لا زلت وسأبقى اخجل منه ما حييت وليس لذلك إلا معنى واحد أن هذا الزعيم كان برأيي زعيم عشيرتي والانتقاص من مكانته انتقاص من مكانة العشيرة والسؤال اليوم وشبابنا يعيشون نفس الحالة هو أين دور هذه القيادة المدركة لخطورة مثل هذه الذهنية على مستقبل الوطن والشعب والقضية لدرجة وصل الأمر بنا إلى أن يصبح التناقض مع الفصائل أهم من التناقض مع الاحتلال وصار انقسام الوطن عملا ثوريا ووجود الاحتلال ليس ذي أهمية مقابل انتصار الفصيل وقيادته ومشروعه العشائري.
لا يمكن للدولة المدنية أن تعيش ولا لسلطتها ونظامها أن يكونا لا في الأحزاب ولا في الدول إن لم تغيب الأنا العشائرية وتغيب عبادة الصنم الشخص ومن خلفه الحزب تماما كما هي العشيرة فمن يعيش في نظام يكرس تأليه القائد وعبادته ويجعل من الوطن أو الحزب دكانا له سيجعل من كل الوطن كذلك فأنت أمام القائد عبده وأمام مرؤوسيك اله كما إلهك فمن إذن ذاك الذي سيصوغ واقعا مدنيا بقيم تحمي هذا الواقع وتؤسس لدولة المواطنة وقيمها المدنية والديمقراطية الحامية لمصالح الجميع كأفراد وجماعات حين يصير الوطن لهم وهم أصحابه لا لصاحب فرد وجماعته وهم عبيد له ولهم.
ذات مرة استمعت لحوار ساخن بين عضوين من فصيلين متناحرين فقال احدهم للثاني أن جماعتك فاسدين ففاجأتني الإجابة وحجم الصراخ بها عن حجم فساد الجماعة الأخرى بالأسماء والأرقام والغريب أن كلاهما لم يخجل من قول الآخر بفساد جماعته ولم يحاول نفي التهمة بل وظف كل ما كان لديه من قوة ومعرفة ومعلومات لإثبات أن الآخرين فاسدين وكان الفساد أمر طبيعي والمهم من هو الفاسد أكثر, فأي كارثية هذه في قبول الأسوأ والدفاع عنه ما دام اسم العشيرة هو العنوان دون خجل, وكيف يمكن بناء مجتمع مدني ودولة للمواطنة بمثل هذه الذهنية المسلوبة الإرادة كليا لصالح عشيرتها التي تكاد تصبح وطنا بدل الوطن الحقيقي.
بقلم
عدنان الصباح