بالرغم مما أثارته مبادرة الرباعية العربية–مصر والسعودية والإمارات والأردن -للمصالحة الفتحاوية تمهيدا للمصالحة الفلسطينية الشاملة كما يقول أصحابها ، من غضب الرئيس أبو مازن وكثير من الوطنيين الفلسطينيين ، ومن غضب مبطن من أصحاب المبادرة لعدم تجاوب الرئاسة الفلسطينية مع المبادرة ، إلا أن الجدل والحديث حولها وحول تداعياتها لم يعمر طويلا ، ليس لأنها كانت مجرد فكرة عابرة وزوبعة في فنجان ، بل لأن الحديث عن المبادرة وتداعياتها يمس قضايا كبيرة وخطيرة تسبب حرجا لكل الأطراف وتحتاج لمعالجات حكيمة بعيدا عن ردود الفعل المتسرعة .
فهل كان الخلل في مضمون المبادرة ونوايا أطرافها ؟ أم الخلل عند الفلسطينيين المتخوفين من وصاية عربية جديدة ؟ ولماذا أشهر الرئيس أبو مازن سيف القرار الوطني الفلسطيني المستقل في وجه المبادرة وأصحابها ؟ وما علاقة المبادرة بالمحاور العربية ؟ .
بداية يجب الاعتراف بوجود أوجه خلل وتقصير في الجانب الفلسطيني وتحديدا في النخبة السياسية وداخل النظام السياسي . يوجد خلل في إستراتيجية مواجهة الاحتلال وفي استراتيجية إدارة النظام السياسي والتعامل مع الانقسام ، وعجز عن حل الخلاف على السلطة وتمثيل الشعب بين منظمة التحرير وحركة فتح من جانب وحركة حماس من جانب آخر ، و فشل في حل الخلافات داخل منظمة التحرير وداخل حركة فتح . نعم هناك خلل ذاتي ، وهذا الخلل هو الثغرة التي تساعد إسرائيل على تنفيذ مخططها الاستعماري الاستيطاني ، والتي منها تتسلل دول عربية وإسلامية للتدخل في شؤوننا الداخلية لخلط الأوراق ، بعضها من منطلق حسن النية وبعضها من منطلق سوء النية .
مما لا شك فيه أن الشعب الفلسطيني كان دوما عُرضة للتدخلات والضغوط الخارجية ومحاولات التأثير على عملية صناعة القرار الوطني والتأثير على آليات انتخاب أو تعيين القيادة السياسية ، وذلك بسبب خصوصية القضية بأبعادها القومية والإسلامية وبسبب الجغرافيا والعوز المالي ، وزاد هذا التدخل والتأثير الخارجي في ظل سلطة حكم ذاتي دون سيادة ليشمل حتى الدول الأجنبية المانحة وإسرائيل . والكل يعلم كيف ناضل الرئيس الراحل أبو عمار حتى النهاية حفاظا على استقلالية القرار الوطني ، وواصل الأمر الرئيس أبو مازن في ظل ظروف أكثر صعوبة وبرؤية مختلفة .
مع كامل الاحترام والتقدير لكل من قدم وما زال يُقدم دعما للفلسطينيين ويبادر لرأب الخلافات الفلسطينية دون أجندة خاصة به ، إلا أن أطرافا عربية وإسلامية قد تحاول أن تغطي عجزها عن مواجهة إسرائيل وتقصيرها في القيام بواجبها القومي والأخلاقي تجاه شعب فلسطين وإخفاء مساعيها للتقرب لإسرائيل ... من مدخل المصالحة الفلسطينية الداخلية ، سواء بين حركتي فتح وحماس أو الخلافات الداخلية في حركة فتح ، أو طرح مبادرات تسوية سياسية جديدة تنقل هذه الدول من موقع الطرف الرئيس في الصراع مع إسرائيل إلى الوسيط ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين ، ودور الوسيط يتطلب وجود علاقة متوازنة مع طرفي الصراع ! .
السياق والتوقيت اللذان جاءت فيهما المبادرة العربية أثارا التخوفات من أهداف المبادرة ، أو من تداعياتها المُحتملة سواء بقصد أو بدون قصد من أصحاب المبادرة ، وأثارا تساؤلات إن كانت المبادرة مبادرة عربية بالفعل أم أن وراء الأكمة ما وراءها ، لأن المبادرة خلطت ما بين المصالحة الفتحاوية والفلسطينية الشاملة من جانب والحديث عن خلافة الرئيس أبو مازن وعن قيادة فلسطينية جديدة ومشاريع تسوية من جانب آخر .
بما له صلة بما سبق فقد أثارت المبادرة العربية قضية وإشكال كبير ومعقد وتخوفات واكبت القضية الوطنية منذ نشأتها وسببت كثيرا من التوتر في العلاقات الفلسطينية العربية ، وهي استقلالية القرار الوطني ، وكيفية التمسك به اليوم في ظل عالم عربي يتفكك لمحاور متصارعة وكل منها يسعى لتوظيف القضية الفلسطينية لصالحه دون اعتبار لاستقلالية القرار الوطني الفلسطيني أو تداعيات الإنجرار لمحور عربي على حساب المحاور الأخرى .
لو كانت الظروف عادية وطبيعية وكان هناك نظام إقليمي عربي واحد وموحد لكان من الممكن الحديث عن موقف عربي ومبادرة عربية ، ولكن في الوضع الراهن الذي يتسم بغياب توافق عربي أو استراتيجية واحدة موحدة حول القضية الفلسطينية وحول قضايا المنطقة ، ومع واقع أن غالبية الأنظمة العربية تعيش أوضاعا داخلية مأزومة وتتعرض لتهديد وجودي مما يجعلها ضعيفة أمام واشنطن وإسرائيل ومستعدة لتقديم تنازلات فيما يخص القضية الفلسطينية مقابل حماية وجودها ونظامها السياسي ... ، لكل ذلك فإن ما هو مطروح ليس مبادرة عربية بل مبادرة محور عربي في مواجهة محور عربي آخر ، وموافقة الفلسطينيين على مبادرة المحور الأول سيضعهم في مواجهة مع دول المحور الثاني .
أيضا مما أثار تخوفات وشكوك حول المبادرة أنها خلطت ما بين المصالحة الفتحاوية والفلسطينية الشاملة من جانب وخلافة الرئيس أبو مازن من جانب ثاني ، أو هكذا فَهِم أو فَسر كثيرون مضمون المبادرة . وهو خلط غير موفق لأنه لا يمكن رهن قضية استراتيجية ومصيرية بالنسبة للشعب الفلسطيني وهي المصالحة بفرض شخص بعينه ، أي كان هذا الشخص ، على الشعب الفلسطيني بتجاوز لكل المؤسسات الرسمية الشرعية ، ففي هذا ابتزاز غير مقبول ، لأن الأمر سيبدو وكأن أصحاب المبادرة يقولون إما تقبلوا بهذا الشخص وإلا لن نساعدكم في ملف المصالحة ولن نستمر في تقديم المساعدة لكم ! .
كان على أصحاب المبادرة الفصل بين الملفين ويتركوا مسألة عودة محمد دحلان ليتم حلها بالتدريج ومن خلال الجهات ذات الصلة المباشرة وهي القضاء الفلسطيني واللجنة المركزية ، فالأول ينظر في قضايا مرفوعة ضد محمد دحلان يجب الحسم بها ، والثانية أصدرت قرار الفصل وعليها النظر مجددا في هذا القرار . إن عاد محمد دحلان بدون ذلك فهذا لن يكون في صالحه ، كما سيعتبر تجاوزا للمؤسسات القضائية والفتحاوية ، مما سيضرب بالصميم استقلالية القرار الوطني الفلسطيني أو ما تبقى منه ، واستقلالية القرار الوطني في ظل الظروف الراهنة ضمانة لوجودنا الوطني ، فإن غاب القرار الوطني انتهى المشروع الوطني الفلسطيني أو ما تبقى منه ، والواقع الفلسطيني والعربي اليوم ليس زمان تأسيس منظمة التحرير منتصف الستينيات عندما نصبت الدول العربية احمد الشقيري زعيما للفلسطينيين .
لا شك أن القرار الوطني المستقل ليس كلمة تُرفع أو شعار يُردد موسميا في مواجهة هذه الجهة أو تلك ، بل سلوك وممارسة على الأرض الفلسطينية وفي الداخل الفلسطيني وفي مواجهة كل الاطراف المُهددة له وليس في مواجهة طرف بعينه ، كما أن استقلالية القرار الوطني سيكون مجرد لغو في ظل غياب مفهوم متفق عليه للمشروع الوطني وتوافق وطني على استراتيجية وطنية جامعة ومؤسسة قيادة محل توافق الكل الفلسطيني تكون موئل القرار والمعبرة والمدافعة عنه .
ندرك كم هو صعب التمسك باستقلالية القرار الوطني في الحالة الراهنة وخصوصا في مواجهة إسرائيل والجهات المانحة الأجنبية وشروطها ، وندرك حجم التحديات التي يواجهها الرئيس أبو مازن للحفاظ على استقلالية القرار في ظل عالم عربي وإسلامي متطاحن ومتصارع مع ذاته ، ولكن تبقى حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية ضمانة استمرار المشروع الوطني والقرار الوطني المستقل .
لكن ولقطع الطريق على التدخلات الخارجية نتمنى على الرئيس والمؤسسات الرسمية الفتحاوية والوطنية سرعة حل الإشكالات الداخلية والتي مدخلها استنهاض وتوحيد حركة فتح واستنهاض منظمة التحرير وسرعة تشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة انقاذ وطني تهيئ الظروف لإجراء انتخابات شاملة ، إن لم يتم ذلك بأسرع وقت واستمر النظام السياسي الفلسطيني في مسيرة الانهيار والتفكك فإن التدخل العربي المباشر سيحدث حتى دون إذن الفلسطينيين ،وخصوصا من دولتي الجوار مصر والأردن ، وقد يكون تدخلا غير مباشر منهما ومن دول أخرى من خلال الدخول في تسويات كلية أو جزئية للقضية الفلسطينية دون موافقة القيادة الفلسطينية أو التشاور معها ، وعلينا الانتباه جيدا لما يجري في سوريا وليبيا ،وما يُحاك للمنطقة من مشاريع تفكيك دول ومجتمعات وإعادة رسم خريطة المنطقة .
بقلم/ د. إبراهيم ابراش