قابلت تل أبيب بادرة حسن النية العلنية الواضحة للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من على أهم منصة عالمية، منصة الأمم المتحدة، والمتمثلة في الدعوة لاقتناص الفرصة التاريخية للبدء في جولات تفاوض في شأن إقامة الدولة الفلسطينية باعتبار أن هذا هو أصل الصراع العربي - الإسرائيلي، بتحفظٍّ كان ظاهراً على وجه مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة أثناء إلقاء الكلمة، كما كان ظاهراً من خلال تصريحات له مفادها أن إسرائيل مستعدة للحوار على رغم أن ليس كل ما قاله الرئيس أعجبها. وبعد أقل من 48 ساعة، لاحظنا قيام السفير الإسرائيلي في القاهرة ديفيد جوفرين، هو وطاقم السفارة، بـ"جولة تفقدية" للمعبد اليهودي في الإسكندرية، مؤكداً أن "إسرائيل دولة الشعب اليهودي". وفي هذا خلط للأوراق في شكل مستفز، ولا يؤكد سوى تشبّث إسرائيل بجدارة الاحتلال، وإعلاء شعارات العنصرية في مقابل يد ممدودة بالسلام الحقيقي.
أفراد الطائفة اليهودية في الإسكندرية وهم 17 شخصاً، وفق إحصاء رئيس الطائفة يوسف بن جائون. والسفير يمثل في مصر دولة إسرائيل ولا يمثل يهود العالم. ولو كان لدى يهود العالم انتماء جاد إلى الدولة الصهيونية لهاجرت غالبيتهم إليها، خصوصاً أن أبواب الهجرة مفتوحة بلا أي عائق. الإعلام الإسرائيلي تعمّد اعتبار ما قام به السفير "جولة" وليس زيارة، كأنه يتفقد أملاكاً تابعة لإسرائيل وليست أملاكاً لمصريين على أرض مصرية. وإذا لاحظنا أنه سبق له حتى قبل تسليم أوراق اعتماده منذ نحو شهر، أن زار معابد القاهرة وقابل رئيسة الطائفة وهي معادية للصهيونية، وهو بذلك يعري – في توقيت له دلالته – وجه إسرائيل القبيح، حيث تجبر الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة مواطنيها من فلسطينيي الـ48 على احترام القانون الإسرائيلي وحمل الجنسية الإسرائيلية ثم تحول الديانة إلى قومية ولا تمنح هؤلاء حقوقاً مقابل الواجبات، زاعمة أن إسرائيل دولة الشعب اليهودي، ما يعني سلب حقوق ربع سكان إسرائيل، والتلويح بترحيلهم ترحيلاً جماعياً في أي وقت!
ما قام به السفير الإسرائيلي، وهو صاحب خبرة سابقة في مصر ويجيد اللغة العربية بلهجة مصرية بطلاقة، يعد ضربة متعمدة لجهود السلام، وينطوي في الوقت نفسه على إشارة إلى تجاهل إسرائيل حقوق الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، وفلسطينيي الـ48، بخاصة أنه في حال منح الفلسطينيين الجنسية ستكون الغالبية اليهودية في فلسطين (من النهر إلى البحر) غير قائمة. ويذكرنا ما قام به السفير بأنه لو طبقت الديموقراطية في شكل حقيقي لمنيت إسرائيل بخسائر كبرى تهدد وجودها كدولة لليهود، وليست دولة لكل مواطنيها. ويبدو أن سبب اختيار إسرائيل النظام الديموقراطي الشكلي هو سعيها الى الظهور بمظهر من ورث أرض فلسطين عن بريطانيا، وضرورة أن تبدو ديموقراطية أمام القوى الاستعمارية الكبرى المتحالفة معها لأنها تثمن الديموقراطية وترفع شعاراتها باستمرار. فوفقاً للتصور القاصر للقوى الدينية في إسرائيل، تسري الديموقراطية على اليهود فقط، بمعنى أنه إذا احتاج قرار ما الى غالبية فإنها بالضرورة تكون غالبية يهودية خالصة. فهناك حتى اليوم في إسرائيل من يرفض الديموقراطية عموماً، وهناك قطاع عريض يرفضها ارتكز على غالبية تضم أصواتاً من فلسطينيي الـ48 في شكل خاص!
ما لفت الانتباه أيضاً في خصوص هذا النشاط غير المحمود للسفير الجديد، تقرير منشور في جريدة "يديعوت أحرونوت" عن تلك الجولة، حيث أشار إلى لقاء السفير أيضاً "ممثلي الطائفة المسيحية في الإسكندرية"، في إعلاء لنعرة طائفية وقاموس مصطلحات غريب على مصر لا يذكرنا سوى بضرورة المقارنة بالأوضاع في العراق أو سورية قبل إعلاء تلك المصطلحات الطائفية الممجوجة وبعده. كل ما سبق يذكرنا بقيم ومبادئ "داعش" وأفكاره وليس أي نموذج آخر، ويجعلنا نتساءل مجدداً حول سبب عدم تصادم النموذجين أو حتى تبادل التهديدات بين "دولة اليهود" وتنظيم "الدولة الإسلامية"، ويجعلنا كذلك نتساءل حول جدية إسرائيل في التوصل إلى حل سلمي للقضية الفلسطينية على المدى المنظور. وهل الترويج للنموذج الطائفي الداعشي في مصر والإلهاء المتكرر عن المسار الجاد لعملية السلام المنشودة لا يعدان تجاوزاً يستحق الاحتجاج عليه؟.
أحمد فؤاد أنور
* أكاديمي مصري