صحيح أن محمد أركون ومحمد عابد الجابري وهشام شرابي وآخرون قالوا بان التخلف الحضاري هو أساس الحالة التي نعيشها كعرب إلا أن الحقيقة تكمن في ما امسك بنا عن اللحاق بركب الحضارة وصاغ تخلفنا عن الركب وهو الذهنية العشائرية المسيطرة والنظام الأبوي الذي لم ننفك منه حتى يومنا فنحن لا زلنا نوغل في جاهلية العصبية القبلية رغم الحرب الضروس التي خاضها الإسلام ضد هذه العصبية ولا زلنا نعبد أصنامنا التي نصنعها بأيدينا كما فعل أجدادنا القدماء وبالتالي لم نأخذ الدين الحقيقي إلا لتزيين هذه العصبية المقيتة التي تصبح فيه القبيلة كل شيء وشيخ القبيلة ولي نعمة أبناءها والآمر الناهي الذي لا يرد له قول أو فصل ولا يناقش ولا يحاسب وبالتالي انتقلت صورة شيخ القبيلة إلى صورة الزعيم الرئيس أو الملك أو الأمير بدون أدنى تغيير اللهم في المظهر واللغة والتسميات ومنذ لحظة جلوس الزعيم على كرسيه تنهال عليه ألقاب لا حصر لها ولا حدود لخيالها اقلها انه القائد الذي لا يموت والملهم والمانح والمعطي وحتى أن الشعب يباشر فورا مهنة التسول منه وكان خزينة الدولة وثروة البلد تركة له من ارث والده وأجداده وان ما يعطيه للناس هو منحة شخصية منه ومن جيبه وبالتالي فان مثل هذه الصورة تستحيل معها أية معايير للمواطنة والمدنية والديمقراطية وما يسمى بالحكم الرشيد هي الذهنية العشائرية المقيتة إذن والتي لا زالت تعشعش في جيوب عقولنا جميعا بلا استثناء أيا كانت طوائفنا أو اتجاهاتنا أو أحزابنا أو عقائدنا دينية أو دنيوية وفي هذا يقول هشام شرابي "إن التخلف الذي نجابهه هو من نوع آخر، إنه يكمن في أعماق الحضارة الأبوية(والأبوية المستحدثة)، ويسري في كل أطراف بنية المجتمع والفرد، وينتـقل من جيل إلى آخر كالمرض العضال. وهو أيضا مرض لا تكشف عنه الفحوص والإحصاءات, إنه حضور لا يغيب لحظة واحدة عن حياتنا الاجتماعية، نـتـقبله من غير وعي ونتعايش معه كما نـتـقبل الموت نهاية لا مهرب منها، نرفضها ونتـناساها في آن" (هشام شرابي.. النقد الحضاري للمجتمع العربي ص 14) ومع أن الحضارة الأبوية تعبير غير دقيق إلا لجهة حضارة التخلف او حضارة عصور التخلف واعتبارنا ظهور الأسرة أساس البنية الحضارية للإنسان لكونها فقدت في عصرنا قيمتها وتأثيرها وأصبحت عائقا أمام أي فعل حضاري حديث, ويتابع الأستاذ هشام شرابي قائلا " وعلى الصعيد النفسي – الاجتماعي، ومستوى النظرية والممارسة يتخذ هذا التخلف أشكالا عدة تتميز عن بعضها بعضا بصفتين مترابطتين: اللاعقلانية والعجز؛ اللاعقلانية في التدبير والممارسة، والعجز في التوصل إلى الأهداف, اللاعقلانية في التحليل والتنظير والتنظيم، والعجز عن الوقوف في وجه التحديات والتغلب عليها, إنه التخلف المتمثل في شلل المجتمع العربي ككل: تراجعاته المستمرة، في انكساراته المتكررة، في انهياره الداخلي" (المصدر السابق نفس الصفحة)
ويعاني المجتمع العربي من قادة حتى الموت أو التوريث أو حتى الانتخابات المشكوك في نزاهتها وينحصر دور المواطن في الطاعة التي تصل إلى تقديس الشخص حتى لو خارج تعاليم الدين أحيانا وخارج مصالح الوطن والشعب ويتم علنا تغييب القوانين والدساتير وانعدام أسس المساواة بين الناس وتظهر المراتبية المقيتة القائمة على مدى الاقتراب من كرسي الحكم والسلطة ولا يبقى للقانون دور إلا كونه سكينا مسلطا على رقاب الفقراء والضعفاء وبالتالي يتراجع العرب في كل شيء ولو قارنا مشاركة العرب بناتج الثروة البشرية لوجدنا أن العرب مجتمعين والذين يفوق عددهم عدد سكان الولايات المتحدة يبلغ حجم إنتاجهم فقط 7% من إنتاج الولايات المتحدة الأمريكية وحدها
ما العمل إذن:
ينبغي لنا أن ندرك مشاكلنا ومعضلاتنا التي تتسبب في غياب منظومة السلم الأهلي والقائمة على غياب المشاركة العملية والاسهامية الحقة بالفعل الإنساني الملموس وبالتالي غياب العلاقة الجلية بين السلوك والفكر من حيث علاقة السلعة المنتجة والمتداولة بالمستهلك او المنتج فنحن أمام كم هائل من السلع الواردة إلينا ليس بمضمونها المحسوس بل وبتجلياتها الذهنية التي تنتقل إلينا حتما بانتقال السلعة ذاتها ولقد سبق ووضحت في أكثر من مقال بان الفكر هو وعي الفعل وان الذي ينتج السلعة ينتج فكرها والذي يستهلك السلعة يستهلك فكرها فلا وجود لسلعة متجردة من فكر صاحبها أو منفضة لذهنيته بل هي نتاج طبيعي لتلك الذهنية فالكمبيوتر والتلفاز وجهاز التكييف والغسالة والسيارة والهاتف وغيرها الكثير الكثير أنتجتها حضارة غربية متفاعلة ومتطورة وناظمة للعلاقة بين الفعل والفكر وبالعكس وهو ما لا نملكه نحن ولا بأي حال من الأحوال وبناء على ذلك فلكي نشفى من أمراض الفصام والاغتراب وما ينتج عنهما فلا بد لنا من أن ننخرط عمليا وفعليا في حضارة البشر كحضارة واحدة موحدة لناسها عبر فعلهم وفكرهم وان كان ذلك لا يمنع من وجود أية خصوصية او ميزات متباينة مع هذا او ذاك من مكونات هذه الحضارة الواحدة وحتى نتمكن من تحقيق ذلك فلا بد لنا شئنا أم أبينا من أن ننجز ما يلي:
1- قراءة الغير بضوء فعله لا بضوء فكره البحت فلا أفكار ولا بديهيات نظرية لا تجد مدعمات لها على الأرض.
2- نقل ثقافات الآخرين لغة حية بترجمات محكمة وموحدة الرؤى والمصطلحات لخلق قاموس معجمي عربي وقاموس مصطلحات عربية يواكب تطور العصر ومنجزاته باعتبارنا جزء منه لا عالة عليه وبهذا الخصوص تأخذ الترجمة الدور الأهم للوصول إلى ذلك الهدف, وفي سبيل ذلك لا بد أن تكون العملية تبادلية أي الترجمة من والى حتى تصل صورتنا الحقيقية للآخر الذي حشرنا في صندوق فصله هو ورسم صورتنا على الهيئة التي يريد في ظل غيابنا الكلي عن المشهد وعدم وجود سعي عربي جاد لتقيم صورة متماسكة حية وواضحة للآخر البعيد برغبته فنحن على سبيل المثال لم نقدم للغرب صورة الشرق العربي الحاضن للديانات السماوية الثلاث ومهد هذه الديانات وبالتالي فان أهل الشرق والشرق العربي تحديدا لهم شرف الريادة في رفعة البشرية وانتقالها من الجاهلية إلى النور وان كنا تخلفنا فيما بعد عن ركب الحضارة لأننا وقفنا هناك وقيدنا أنفسنا بأبعد لحظة انتمينا إليها معتقدين أن الثبات هنا هو صدق انتماء متناسين أن التطور هو الأساس الأسمى لكل حياة.
3- إشاعة ثقافة قبول الآخر والاستعداد لتبادل الأدوار والقدرة على الشعور بإمكانية الحلول عند الضرورة والمصلحة الجماعية العامة بمعنى استعدادي لقبول انجازات الآخر محليا وعالميا على قاعدة أن لا فرق بين إنسان وإنسان لجانب التطور البشري بغض النظر عن الاختلافات الذهنية وتجلياتها وبهذا نتصالح مع أنفسنا أولا ومع الآخرين ثانيا فقبول الآخر الذات بغض النظر عن الاختلافات هو ضرورة لقبول الآخر البعيد فكرا او منتجا او حضور حضاري باعتبار الحضارة نفسها منتج يمكن استهلاكها وفق المصالح والسمات الخاصة بالمستهلك لا مجرد متلقي فارغ من أي تأثير فحتى السلع التي نستوردها أو نجمعها هي سلع يمكن لها أن تحمل صفاتنا إن أردنا وهناك عديد البلدان اليوم التي باتت تؤثر في الفعل الإنساني من خلال مشاركتها في إنتاج الثروة البشرية برمتها خارج حدود بلدانها كالصين وغيرها وكذا يمكن لذلك أن ينتقل إلى الفكر الإنساني إن وجد الأساس العملي للحضور وبالتالي الانتقال.
4- العمل على نقل العلم الإنساني إلينا والتوقف عن ظاهرة الذهاب إليه لحد الانخراط بلغته وثقافته وناسه ومجتمعه والانسلاخ كليا عن واقعنا العربي كما يحدث مع سائر المبدعين العرب والطاقات العربية الخلاقة في كل المجالات ويدرك العرب العدد الكبير من أبنائهم المبدعين المنخرطين بصناعة الحضارة الإنسانية بما فيها حضارة الموت الرأسمالية وصناعة الأسلحة وأدوات الموت, وليس بالضرورة هنا أن نكتفي بالنقل الحرفي بعيدا عن أي إبداع أو تطوير بل يجب أن نطلق كل الطاقات الإبداعية والاكتشافات العلمية ونحفز كل العقول على النقد والإبداع والتفكير الخلاق غير المقيد والقادر بالتأكيد إن وجدت البيئة الإبداعية في المجتمع أن يضيف إضافات نوعية خلاقة للإبداع الإنساني وان يصنع إبداعات تقترب من إبداعات الثورة الرقمية ومن الاختراعات الأولى التي لا زالت تؤسس لمستقبل الإنسان فاختراع السيارة واكتشاف الوقود قد لا يكونا نهاية الكون فنحن لا زلنا بحاجة لوسائل نقل وستبقى البشرية بحاجة للطاقة ولا زال هناك من يكتشف مصادر جديدة للطاقة فلم لا نكون نحن السباقين لذلك لنعود مخترعين للطاقة لا مخازن بترول لغيرنا فقط.
5- التوقف عن حالة الرضا الغبي عن الذات والغناء على أطلال الماضي وهو ما تحاول الذهنية العشائرية تكريسه لصالح بقاء سلطتها وسلطة ناسها فالحضارة والانطلاق إليها هي بالضرورة كسر ثوري لقيود الذهنية العشائرية وإلغاء محتم لها وهو ما لا تريده بالتأكيد ولا يريده أعداء الشعوب السعداء بتكيسنا الدائم بماضي لم يعد له أدني قيمة عملية حتى في أوساطنا فنحن نغني عن الماضي في مايكات غربية ونكتب عنه على أجهزة حاسوب غربية فأي أمجاد هذه عن صلاج الدين الأيوبي وحالة الانتظار الغبية له لعله يعود في زمن بات فيه كل الوطن العربي محتل ومداس وبلاد صلاح الدين نفسه لم تعد أصلا موجودة بل تمزقت لدرجة نسي أصحابها حقهم في الاستقلال الوطني.
6- إشاعة الفكر النقدي والفكر المقارن والتفكير بضوء العلم لا بضوء الخرافات والوهم الراسخين في ذهن العشيرة المصلحي بالتخلف حتى نتمكن من التأسيس لغد ناهض متطور مدني بدولة المواطنة والحكم الرشيد وحتى في الحال الفلسطيني فان فكر المواطنة والحكم الرشيد ممكن حتى في الثورات ومسيرات الكفاح الوطني أينما كانت؟.
7- التشبع بثقافة القيم المدنية وتعميمها بها بضوء المصلحة الجمعية وعلى الأسس المدنية والمواطنة وهذا يتطلب حراك عملي ونشاط تثقيفي من خلال الفعل لا القول وبكل الوسائل العملية والفكرية المتاحة بكل مكونات المجتمع في البيت والحي والمدرسة والجامعة وأماكن العمل ومعتركات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فكرا وسلوك.
8- إشاعة التفكير العلمي في أوساط الأجيال القادمة واعتماد المنطق الرياضي أساسا للتفكير العلمي بعيدا عن تشوهات الماضي والإغراق في التجذر والالتصاق بما عفا عليه الزمن من خرافات وأوهام وجاهلية بحتة فالرياضيات التي يعتبرها العالم أساس العلوم وقاعدة التفكير المنطقي فالرياضيات هي اختزال الفعل الإنساني بكل محسوساته إلى مجموعة من الأرقام والخطوط تسهل على الإنسان القدرة على التفكير والتحليل والاختراع عبر تحويل الأرقام ذهنيا إلى صور ثم نقل الصور إلى الواقع فأنت إذن تجرد الأشياء من حدودها المطلقة حين ترسمها أمامك على الورق أرقاما وخطوط ويغيب عن عقلك شرط القبول بالقائم لصالح ابتكار الأفضل وبالتالي فلا يمكن لأمة لا تسود الرياضيات فكرها أن تتقدم بوصة واحدة إلى الأمام.
9- الثورة التربوية التي لا بديل عنها للتحرر من قيود الجمود والتعليم بالتلقين ولا بد في سبيل ذلك من قلب العملية التعليمية برمتها بدءا من شكل الصف ومكانه وطريقة الجلوس فيه وانتهاء بطريقة التخرج من المدرسة او الجامعة مرورا بشكل واليات قياس مستوى الطلاب التي تعتمد على آليات امتحان عقيمة جامدة لا تحتاج سوى حالة تذكر وخزن للمعلومة دون التفكير فيها أو تمحيصها وزيادة الاهتمام بالعلوم الرياضية وإطلاق القدرة على التفكير والتخصص المبكر للطلاب بدل الحكم عليهم بالفشل لأننا نلزمهم بالمرور بدراسات وامتحانات لمواد لا تتطابق مع قدراتهم ولا تنشط ما لديهم من مخزون إبداعي كامن في جانب ما ودون أن نحترم عدم قدرة طالب على الإبداع في الرسم إن كان مبدعا في الحاسوب أو عدم قدرته على حفظ النصوص الشعرية إن كان مبدعا بمادة عملية وقادر على التحليل والخروج بنتائج خلال قراءته لمادة أمامه لا محفوظة غصبا في دماغه فعلم حشو المعلومات ينتج لنا خزائن وأرشيف للعلوم لا مخترعين وعلماء وفاعلين حقيقيين في الحياة.
بقلم
عدنان الصباح