في ذكرى الهجرة النبوية وبعد سبع وثلاثين وأربعمائة وألف عام ما زال المسلمون غير قادرين على استيعاب أهداف الهجرة ومعانيها ، فلم تكن الهجرة مجرد الانتقال من قريش إلى يثرب ، ولم تكن الهجرة مجرد هروب من الخوف والقهر والظلم إلى الأمان والسلام والمحبة والمودة والتآخي ، لقد كانت الهجرة الخطوة الأولى في بناء دولة الإسلام والمسلمين ، الدولة التي تقوم على المشاركة بين كافة مواطنيها فيما يخص حياتها اليومية ، لذلك كان أمر المسلمين شورى بينهم ، والخطاب الإلهي لرسول الله أن شاورهم بالأمر ، هو الرسول النبي القائد المعلم الموحى إليه من رب العالمين يأمره الله بالشورى ( وشاورهم بالأمر ) ، مشاورة المسلمين في شؤون حياتهم اليومية الموازية للعقيدة والعبادات ، فالمسلمون ليسوا مجرد أرقام في دولة الإسلام ، أنهم بشر يملكون السمع والبصر والفؤاد ، وكل ذلك كان عند الله مسؤولا ، لذلك كانت الخطوة الأولى لرسول الله في اللحظة التي دخل فيها يثرب والتي تحول اسمها إلى المدينة المنورة هي حرية الرأي ، كل يريد أن يستضيف رسول الله ، وكل يريد أن يأخذ بخطام ناقة رسول الله ، فيقول لهم رسول الله ( دعوها فإنها مأمورة ) ، حتى الناقة لها حريّة الخيار والاختيار ، فبركت على باب أبي أيوب الأنصاري ، فأقام رسول الله عند أبي أيوب الأنصاري ، لم يحتج أحد من أهل المدينة على هذا الاختيار ولا سيما أنّ أبا أيوب لم يكن من سادة المدينة ، فالمسلمون في ظل الإسلام متساوون ، هي المساواة بين الناس ، فلا فضل في الإسلام لأبيض على أسود ، ولا فضل لعربي على أعجمي ، فميزان الفضل هو التقوى ، وما دامت التقوى هي ميزان الفضل ، فليكن التنافس بالتقوى ، وليس الفضل بالجاه والمال والنسب ، فلذلك كان التآخي بين المهاجرين والأنصار ، فإخوة المسلمين والتساوي بينهم هو العامل الأهم في بناء دولتهم ، والإخوة تعني المحبة والمودة والإيثار ، وأنهم سواسية كأسنان المشط ، وأنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى ، هي الوحدة العضوية المتكاملة بين المسلمين ، أن يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه ، فلا كراهية ولا شحناء ولا بغضاء بين المسلمين ، فكل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه ، فلذلك كانت قوة المسلمين التي نمت بتعاضدهم وتعاونهم على البر والتقوى .
ونحن اليوم بعد أربعة عشر قرنا ونيف لا نفقه ديننا ، فنسعى جاهدين لغرس الفتن فيما بيننا ، فلم يعد الواحد منا يقبل الآخر ، ولم تعد الشورى منهج حياتنا اليومية ، وأصبح الأفضل هو صاحب القوة والجاه والمال والنسب ، ولم يعد كتاب الله وسنة رسوله هي منهج حياتنا ، بقدر ما أصبحت الجاهلية تتحكم فينا ، رغم كل أدوات العلم المتطورة التي نملكها ، فانتفت المحبة والمودة بيننا ، ليس كمجتمع ودولة وحسب ، بل كأسرة وعائلة وحارة وحي ، فبدل التآخي عشعش العداء بيننا حتى أصبح جزءاً من حياتنا اليومية ، وبدل المحبة والمودة حلت الكراهية والبغضاء ، وأصبح التعاون على الإثم والعدوان ديدننا اليومي ، فتداعت الأمم علينا ، أم من قلة يا رسول الله ، لا بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ينزع الله المهابة من صدور عدوكم ويقذف في قلوبكم الوهن ، وها هم المسلمون اليوم يصبحون ضحايا أنفسهم الضعيفة الإيمان ، يتقاذفهم أعداؤهم فيضربون أعناق بعضهم بعضاً وهم بحالهم غير مبالين ، وكأنّ السيف وحده هو الدين كله ، إنها الهجرة من الإيمان إلى العصيان والكفر والفسوق وما أرادها الله كذلك .
واليوم في ذكرى الهجرة ، نهاجر إلى عدونا ننشد عنده الأمن والأمان ، وهو يفتك بنا ليل نهار ، يقتلنا حرقاً ، ويدمر بيوتنا ، ويقلع أشجارنا ، ويستولي على أرضنا ، ويطردنا إلى المنافي والشتات ، فنصبح الضحية التي تستنجد بقاتلها ، فلا تجد إلا العبودية والذل في بلاط عدوها ، وبدل أن نكون أسياد الأرض التي نحن أصحابها ، فنكشف عوراتنا لنسبح في سراب حسبناه بحراً لجياً فإذا هو الحميم يصب على رؤوسنا .
فهل نعود في ذكرى الهجرة إلى ديننا الحنيف نستقي منه طهارة النفس وصفاء القلب وحُسن المعاملة ومكارم الأخلاق ، فنتآخى على المحبة والمودة لندفع عن أنفسنا الأثم والعدوان ؟
2/10/2016 ( الأول من محرم 1438) صلاح صبحية