قد لا أكون مؤيداً لإجراء الانتخابات البلدية الفلسطينية في هذا الوقت بالذات، وإن كنت من أحرص الناس على الديمقراطية واحترام رأي الشعب، وتداول السلطات بموجب القانون، وعدم فرض المؤسساتِ بالقوة ولا تسمية المسؤولين بالمحسوبية، أو احتكار السلطات إلى الأبد، والبقاء في المناصب والمواقع حتى الموت، إلا أنني كنت أتمنى عدم إصدار مرسومٍ رئاسيٍ يحدد موعد الانتخابات وآلياتها، ويسمي لجنتها ويعين رئيسها ويحدد صلاحياتها، رغم أن البعض كان يترقب صدوره، ويبنى آمالاً عريضة على خوض الانتخابات، سواء لتغيير الواقع القائم أو تكريسه وتأكيده.
حاولت بيان موقفي الرافض الذي هو في حقيقته تخوفٌ وقلقٌ من نتائج إجرائها، وعواقب وتداعيات الفائزين فيها على المجتمع الفلسطيني، والآثار والمتغيرات التي من المتوقع أن تلي إعلان النتائج، وقد استشرفتها وتنبأت بالفائزين فيها، تخميناً أقرب إلى اليقين، وتوقعاً يشبه الواقع، إذ كنت وما زلت أعتقد أن مرشحي حركة حماس، أو المرشحين المدعومين منها على اعتبار أن الترشيحات تمت على أسس وقواعد مهنية، ووفق معايير الاستقلالية وعدم الانتماء السياسي، هم الذين سيفوزون في هذه الانتخابات، وسيحصلون على أعلى الأصوات، وستتجاوز نسبة التصويت لهم كل التوقعات، بغض النظر عن المعايير التي اعتمدتها في استشراف النتائج، أهي تأييدٌ لحماس، أم نقمةٌ على الآخرين ورغبةٌ في الانتقام منهم.
أما وقد صدر المرسوم الرئاسي بتنظيم الانتخابات، وباشرت لجنة الانتخابات المركزية بعد تسمية رئيسها بمزاولة أعمالها، وبدأت في استقبال أسماء المرشحين، وقبول أو رفض ترشيحهم، والتدقيق في قوائم الشطب، ومعرفة عدد وأسماء أصحاب الحق في الاقتراع، وبدأت في تنظيم اللجان الانتخابية والهيئات الرقابية وغير ذلك مما يلزم الانتخابات كالمحاكم والقضاء وأشكال الطعن والمهل القانونية، والمخالفات والتجاوزات التي ينبغي الابتعاد عنها والحذر منها، وقام رئيس اللجنة وبعض أعضائها بزيارة قطاع غزة واطلع على المقرات الانتخابية، واطمئن إلى القدرات والإمكانيات والتجهيزات المتوفرة في القطاع لضمان سير العملية الانتخابية بسهولةٍ ويسر.
لهذا كله ورغم موقفي المسبق من نتائج الانتخابات التي قد تشكل مزيداً من الحصار والتضييق على الشعب الفلسطيني، عقاباً له على خياراته الديمقراطية وآرائه الحرة، وانتقاماً منه على نزعاته الوطنية وتوجهاته المقاومة، فقد رأيت المضي في العملية الانتخابية حتى النهاية، وإن بحكمةٍ وعقلانيةٍ، ودراسةٍ واعيةٍ متأنيةٍ، تحقق الخير للشعب وتقصي عنه كل شرٍ مرتقبٍ، خاصةً وأن الشعب الفلسطيني قد تهيأ للانتخابات واستعد لها، وأخذت وسائل الإعلام المحلية والأجنبية في تغطيتها ومواكبة فعالياتها، ولم يعد ثمة معوقات أو عقبات تعترض المباشرة فيها، بعد أن احتدمت الدعاية الانتخابية وتنافست برامجها وتعددت مخططات ووعود المرشحين فيها.
فجأةً جاء قرار محكمة العدل العليا الفلسطينية بتجميد إجراء الانتخابات إلى حين صدور القرار النهائي بشأن الطعون التي تقدمت بها إليها نقابة المحامين الفلسطينيين في رام الله، فكان القرار عاماً وشاملاً، وفيه مساواة وعدم تمييز، إذ شمل القدس والضفة الغربية وقطاع غزة على السواء، وساوى بينها وعدل، فأرضى المواطنين وكظم غيظهم، وحال بينهم بين الثورة والغضب، إذ لا يبدو في القرار ما يشي أنه يستهدف منطقةً دون أخرى، أو أنه ينحاز للضفة على حساب غزة، رغم أن الطعن في أصله كان على أساس ظنٍ بمخالفة القوانين وعدم اختصاص المحاكم في قطاع غزة.
رغم أن قرار محكمة العدل العليا الفلسطينية بتأجيل الانتخابات البلدية كان صدمةً على البعض، ممن كانوا يطمعون ويتطلعون، أو تطميناً لغيرهم، تحسباً من خطرٍ محتملٍ، أو تطويقاً لنتائج غير مقبولة، إلا أن وحدة الأرض الفلسطينية لم تتعرض للخطر، ولم يبدُ من قرار المحكمة أنها قسمت أو جزأت بعضاً من أرض الوطن، ولهذا سكت المواطنون ولم يعترضوا على قرار المحكمة ظناً منهم بعدالتها واستقلالها، واعتقاداً بمهنيتها ونزاهتها، وأن قرارها يأتي استجابةً للمصالح الوطنية، وينبع من الحرص على سلامة الشعب ووحدة أرضه، الأمر الذي قلل من حجم الانتقادات التي تعرضت لها، حيث رأى البعض أن التأجيل أسلم الخيارات وأقل الأضرار، وأدعى إلى المواصلة والاستئناف في أقرب الآجال وأكثرها مناسبةً.
إلا أن قرار محكمة العدل الفلسطينية الأخير، الذي قضى بإلغاء الانتخابات في قطاع غزة، واقتصار إجرائها على الضفة الغربية فقط، واستثناء القدس الشرقية منها، غريبٌ وعجيبٌ، ومستنكرٌ ومرفوض، وهو لا يستند إلى وقائع موجبة ولا حيثيات مقنعة، ولا يوجد ما يدفع هيئة المحكمة إلى إصدار هكذا قرار أقل ما يمكن وصفه بأنه قرارٌ غريب، لا يخدم المصالح الوطنية الفلسطينية، ولا يحافظ على الثوابت الوطنية الموروثة، ولا يقف عند الطموحات الشعبية المشروعة، بل هو قرارٌ خاطئٌ لا يقي من النتائج المخيفة، ولا يحمي من التوقعات المرتقبة، ولا يضمن النتائج المرجوة، ولا يطمئن الرعاة والحلفاء، ولا يضمن عدم اختراق التشكيلات واللوائح من المنافسين، لتكون خاليةً من الغير ونقيةً من الخصوم كلهم.
للأسف إن قرار محكمة العدل العليا الفلسطينية لا ينسجم مع عقلانية محاكم العدل العليا في العالم كله، التي يفترض فيها دائماً العقل والحكمة، والرزانة والاتزان، والحصافة واللياقة، والمهنية والمصداقية، والقراءة السليمة للأوضاع والتقدير الحكيم للظروف، ذلك أنها حصن الشعوب الأخير، وملاذها الآمن، وقلعتها المنيعة التي تقوم على أسس العدل والحكمة والمنطق، إلا أنها هنا أثبتت أنها أداة السلطة الجائرة، وعصا الجلاد الظالمة، وصافرة الحاكم المنحازة، وبوابة السجان القادرة.
إذ لا يعقل أن تقوم محكمة العدل العليا بتقسيم الوطن، وتجزيئ الأرض، وتكريس واقع الانقسام والتشرذم الذي يعاني منه الشعب ويشكو منه الأهل، وترزح تحت وطأته عجزاً وقلة حيلة قوى الشعب وفصائله، التي لا نبرؤها من جريمة الانقسام ولا ندعي طهارتها من رذيلة الخلاف، ولهذا فقد كان مستغرباً جداً أن يأتي قضاة المحكمة بمفرداتٍ مقيتةٍ يكرهها الشعب وتعافها نفسه، وتشكو منها نخبه، تقضي بإجراء الانتخابات في شطرٍ من الوطن عزيزٍ، وتعطيله في مناطق أخرى غالية، اللهم إلا إذا كانت أهواؤها سياسية، ومصالحها حزبية، وتطلعاتها شخصية، وقراراتها مرهونة بإرادة أصحاب السلطة وقادة أجهزة الأمن فيها، الذين يتخوفون من هوية القادم، ويتحسبون من انتماء الفائز.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 4/10/2016
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]