مشاركة عباس في جنازة بيريز: ما لا يُمكن تبريره

بقلم: هاني المصري

من جملة المبررات التي قُدّمت دفاعاً عن مشاركة الرئيس الفلسطيني محمود عباس في جنازة الرئيس الإسرائيلي السابق شيمون بيريز، وهي قليلة جداً، مقابل الانتقاد الواسع الصائب لها، هناك رأي يستحق التوقف عنده. يقول أصحاب هذا الرأي إن مشاركة عباس في الجنازة باتت واجبة بعدما تحوّلت الجنازة إلى حدث سياسي ضخم بإعلان عدد كبير من الرؤساء والمسؤولين على امتداد العالم عزمهم حضورها، لأن غياب عباس سيجعله يخسر، برغم أن أي مكاسب لن تترتب على حضوره.
نقطة الضعف في هذا الرأي، أنه لا يريد الاعتراف بأن نهج المفاوضات الثنائية، والمراهنة على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي من دون إمساك أوراق القوة والقدرة على مواجهة السياسة الإسرائيلية، وما ترتب عليها من احتلال واستيطان وعدوان وعنصرية؛ أديا إلى خسارة الفلسطينيين كل شيء تقريباً، حتى لم يعد هناك ما يخشون خسارته. كما أن سياسة إبداء حسن النيات، وإثبات الجدارة، والتعامل مع إسرائيل كجار وشريك سلام؛ لم تؤد إلى شيء سوى إلى فتح شهية إسرائيل للحصول على المزيد من التنازلات.
ويعكس هذا النهج المستمر الذي أدى إلى المشاركة في الجنازة استمرار السياسة المتبعة فلسطينياً وعربياً، التي تظهر من خلال اهتمام الحكام بالدرجة الأساس بردود الأفعال الدولية حيال قراراتهم، في مقابل إهمالهم ردة الفعل التي تبديها شعوبهم.
إن عدم المشاركة كان سيبعث برسالة قوية مفادها أن القيادة الفلسطينية جادة في التخلي عن النهج الذي سارت عليه منذ "مؤتمر مدريد"، مروراً بـ "أوسلو"، وصولًا إلى سياسة الانتظار الحالية. علماً أن المعارضة الواسعة للمشاركة شكلت بحد ذاتها رسالة مدوية، مفادها أن الشعب الفلسطيني برغم واقعه السيئ متمسك بكرامته وبحقوقه، وأنه مصمم على الدفاع عنها، وهذا مصدر قلق لإسرائيل برغم نجاحاتها الباهرة.
لا حاجة لترداد ما قيل خلال الأيام الماضية لإثبات أن بيريز لم يكن رجل سلام، برغم حصوله على جائزة "نوبل" في هذا الصدد. فهذا مثبت بعشرات الدلائل التي تؤكد أن يديه ملتطختان بالدماء، وأنه رجل حرب، وأن ما يميزه عن اليمين واليمين المتطرف أنه "يعطيك من طرف اللسان حلاوة" ويفعل ما يعلن عنه المتطرفون في بياناتهم أو أسوأ، أي أنه يدسّ السم في الدسم، وهو لذلك أخطر. فهو القائل مرة إن من حق الفلسطيني أن يحيي ذكرى "النكبة" وأن يحلم بالعودة والاستقلال، لكنه يفعل في المقابل ما يستطيعه لعدم تمكينه من تحقيق ذلك.
ما سرّبته الصحافة الإسرائيلية بعد وفاة بيريز يثبت ما ذهبنا إليه حول براعته في تمرير سياسات إسرائيل بعد تغليفها بشعارات جذابة. إذ إن التقارير أفادت بعرضه أو توصله إلى اتفاق مع الرئيس عباس (أفشله نتنياهو) على إقامة دولة فلسطينية مؤقتة، تحتفظ فيها إسرائيل بالكتل الاستيطانية الكبيرة، فيما تبقى بقية المستوطنات ضمن نطاق الدولة الفلسطينية مع بقاء الأخيرة تحت السيادة الإسرائيلية، على أن تحتفظ إسرائيل بحق الدخول إليها أسوة ببقية "الأراضي" الإسرائيلية.
إن مثل هذه الأفكار التي تخدم مصلحة إسرائيل في مقابل ظهور بيريز بمظهر الباحث عن سلام، تعكس شخصيته التي تولي أهمية كبرى للحفاظ على صورة جيدة لإسرائيل أمام العالم. فهو يُعطي أو يعرض الفتات، في مقابل حفاظه على جوهر المشروع الإسرائيلي الاستيطاني، القائم على فكرة الإبقاء على تفوّق الدولة العبرية ويهوديتها الخالية قدر الإمكان من الأغيار. وهذا الأمر طبيعي. فبيريز صاحب نظرية إقامة "شرق أوسط جديد"، يجمع "العبقرية اليهودية" برأس المال واليد العاملة العربية. وهو دافع دوماً عن "التسوية" الإقليمية، وعما يُسمّى بـ "الخيار الأردني". وهو أيضاً صاحب خطة "التقاسم الوظيفي"، وما يجري حالياً تجسيد لها بشكل أو بآخر. وما يتمّ تداوله خلال الفترة الأخيرة من حلول إقليمية تجمع إسرائيل بالدول العربية على حساب الفلسطينيين وقضيتهم، يعود أساساً إلى جهود بيريز، صاحب براءة اختراعها.
لا يمكن تبرير المشاركة في جنازة بيريز من خلال تشبيهها بمشاركة وفد فلسطيني رفيع المستوى في جنازة إسحق رابين، برغم رفض تلك المشاركة حينها من جانب قطاع فلسطيني عريض، علماً أن الرئيس الراحل ياسر عرفات لم يحضر آنذاك. إذ إن المشاركة الأخيرة أسوأ بكثير، لأن رابين اغتيل على يدي يهودي متطرف بعد اتهامه بالتفريط بأرض إسرائيل. وفي ذلك الحين كانت "التسوية" في ذروة مسارها، وكان وهم الوصول إلى اتفاق نهائي بانقضاء الفترة الانتقالية لا يزال مسيطراً على النخبة الفلسطينية الحاكمة. أما الآن، فحتى الرئيس الفلسطيني، صاحب خيار المفاوضات، أصبح مدركاً عدم إمكانية بقاء الوضع على ما هو عليه. وقد هدّد مراراً بالخروج على هذا الواقع، مع أنه لم ينفّذ تهديده برغم أن الوقت يكلّف دماً وضياع حقوق.
أسوأ ردود الأفعال على المشاركة في جنازة بيريز تمثل بتوظيف الدين لخدمة أغراض سياسية، كما ظهر من خلال تصريح محمود الهباش بأن النبي محمداً لو كان حياً لشارك في الجنازة، في مقابل تصريح محمود الزهار الذي كفّر فيه الرئيس. إن توظيف المشاركة في الجنازة في سياق المزايدات والصراع على القيادة وتمثيل الشعب الفلسطيني، في ظل تعمّق الانقسام عمودياً وأفقياً، لا يساعد على حماية القدس والقضية وخيار المقاومة كما يدّعي البعض، بل هو أقصر طريق لوقوع الفتنة.
المشاركة في الجنازة خطأ فادح، والأهم فيه هو دلالاته، وما يعكسه من استمرار الرهان على استئناف ما يُسمّى "عملية السلام" التي ماتت منذ زمن - وإكرام الميت دفنه -، وهذا رهان يمنع الفلسطينيين والعرب من اعتماد خيارات بديلة لتلك التي أثبتت عجزها عن تحقيق نتائج.
ختاماً، ومع التسليم بأهمية التعبير عن الغضب من المشاركة في جنازة بيريز، التي لم يشارك فيها لا الرئيس المصري ولا العاهل الأردني برغم أن بلديهما يرتبطان بمعاهدتي سلام مع إسرائيل، إلا أن الأَولى بالاهتمام أن ينصبّ على مخطط يجري الإعداد له ويرمي إلى تصفية القضية الفلسطينية في الحد الأقصى، أو تجميدها في الحد الأدنى، بما يؤدي إلى الإجهاز عليها في النهاية، كما يظهر في ملامح عودة الوصاية العربية والإقليمية التي تشمل إسرائيل. إن إحباط هذا المخطط يكون بترتيب البيت الفلسطيني على أسس وطنية واقعية، تحفظ الحقوق، وتمنح القدرة على الحركة، وتجسد قدراً من الديموقراطية التوافقية والمشاركة السياسية الحقيقية لألوان الطيف السياسي كافة.

هاني المصري