بيريز كان جيداً للإسرائيليين وسيئاً للفلسطينيين

بقلم: ماجد كيالي

رحل شمعون بيريز أحد أهم قادة إسرائيل بعد ديفيد بن غوريون، عن أكثر من تسعين عاماً، أي أنه مات بشكل طبيعي بسبب انتهاء أجله مثل أغلب الناس العاديين، بل إنه عاش عمراً مديداً وحافلاً لا يحظى به إلا قلّة، لذا لا مجال لأحد للتشفّي ولا للاحتفاء، على ما فعل البعض عندنا عن سذاجة أو عن قلّة حيلة، كما لا مجال للتأسّي، كما فعل بعض آخر عندنا عن تصنّع أو ادعاء أخلاقية ما، مجانيّة. ومعلوم أن هذا الرجل تصرّف كعدو بمعنى الكلمة، في أفكاره وممارساته وسياساته، من موقعه القيادي المديد في دولة استعمارية استيطانية وعنصرية تسبّبت بنكبة الشعب الفلسطيني، وفي مأساته المستمرة، كما قامت بشن حروب وحشية ضد لبنان وسورية ومصر.

ما تقدم يفيد بأننا إزاء رجل إشكالي، بمقدار ما هي إسرائيل إشكالية، فنحن إزاء دولة تعتبر نفسها دولة ضحايا ("الهولوكوست")، وتعتبر نفسها أيضاً صاحبة وعد "إلهي" بفلسطين باعتبارها "أرض ميعاد" خاصّة بيهودها، أي أن المحرقة مجرد تبرير وغطاء، وأن ضحايا الأمس بات لهم ضحاياهم اليوم. أيضاً إسرائيل دولة تدّعي العلمانية لكنها دولة دينية في الوقت ذاته، إذ تبرّر ذاتها، وتصوغ قوانينها، بأيديولوجية سياسية (صهيونية) تتأسس على الرواية التوراتية، وهذا يشمل تعريفها ذاتها ومفهومها عن شعبها، حيث ينص "قانون العودة" فيها على حق أي يهودي من أي دولة في العالم، بالمواطَنة في إسرائيل. فوق كل ذلك، نحن إزاء دولة تعتبر نفسها دولة حداثية وديموقراطية لكنها تشتغل كدولة استعمارية وعنصرية (على أساس ديني) ضد الفلسطينيين.

أما بخصوص تعريف بيريز كرجل سلام، فهذا تعبير لأغراض الدعاية والتلاعب، ولا دلالة عليه، إذ ثمة فارق كبير بين التسوية والسلام، لأن ما جرى هو مجرد محاولة تسوية، أثمرت اتفاق أوسلو (1993)، لكن حتى هذه جاءت مجحفة وناقصة ومذلة بحق الفلسطينيين، ورغم كونها كذلك إلا أن إسرائيل لم تنفذ حتى الآن، أي بعد 23 عاماً، الشق المطلوب منها (في 23 بالمئة من فلسطين). في المقابل، فإن السلام يقوم على ركيزتي الحقيقة والعدالة، أي على التكافؤ ولو النسبي في الحقوق، واعتراف الطرف المحتل أو الظالم بما اقترفه من مظالم بحق الشعب الآخر، وبهويته وروايته وحقوقه، فهذا ما يؤسس لسلام دائم وشامل وعادل، وهذا مختلف تماماً عما حصل.

ما يفترض كشفه في هذا التلاعب، أو ادعاء أن بيريز رجل سلام، أن النخبة الإسرائيلية منذ احتلال الضفة والقطاع (1967) انقسمت إلى اتجاهين، الأول يركز على وحدانية الشعب، أي الحفاظ على يهودية إسرائيل، تخوفاً من الكتلة البشرية الفلسطينية في الضفة وغزة ومناطق 1948 وفق مصطلحات، مثل: "الخطر الديموغرافي" أو "القنبلة الديموغرافية" و "الدولة الثنائية القومية". أما الثاني، فيركز على تكامل الأرض، أي فلسطين/ إسرائيل الكاملة، مع انتهاج سياسات فصل ونقل وإزاحة وطرد ضد الفلسطينيين. وقد تمثل الاتجاه الأول في حزب العمل، والثاني في حزب الليكود والقوى اليمينية والدينية المتطرفة. وبديهي أن بيريز كان من أبرز ممثلي الاتجاه الأول، لذا إذا تفحصنا مقولات هذا الاتجاه لوجدنا أنها في الحقيقة تؤسّس لحل عنصري مع الفلسطينيين، بإعطائهم مجرد كيان صوري، أو كيان محدود السيادة، أو مسيطر عليه، وفوقق شعار: "نحن هنا وهم هناك"، لتبرير أو لتغطية الفصل وتجميل الواقع الاستعماري، ولتحرير إسرائيل من ورطتها الأخلاقية والقانونية باعتبار الفلسطينيين غير مواطنين، أو أتباع دولة أخرى، ما يحسّن صورتها على الصعيد الدولي، ويخفّف تناقضاتها ومشاكلها الداخلية على خلفية هذا الموضوع، وهذا ما تجسّد في إقامة كيان السلطة عبر اتفاق أوسلو. الفكرة هنا أن سعي بيريز هذا لم يأت لقناعة منه بضرورة إنصاف الفلسطينيين، ولا كاعتراف منه بالمظالم التي ارتكبتها إسرائيل بحقهم، وإنما من أجل سلامة المشروع الصهيوني، وتحقيق يهودية الدولة، ولحل التناقض بين كون إسرائيل دولة ديموقراطية وعنصرية، وللتغطية على الواقع الثنائي القومية المتشكل، في إطار دولة استعمارية عنصرية تهيمن على شعب آخر بواسطة القوة، وإن بواسطة أنظمة مختلفة.

يبرز في هذا الإطار أيضاً، مشروع بيريز عن "الشرق الأوسط الجديد" الذي طرحه في مطلع التسعينيات، والذي رأى فيه إسرائيل كدولة متميزة في المنطقة، تقيم علاقات تعاون مع الدول العربية المجاورة، اقتصادية وتكنولوجية وأمنية وفي مجال البنى التحتية (مواصلات، طاقة، مياه، تكنولوجيا)، مع إقامة مؤسسات إقليمية، لكن هذا كله كان بمثابة مشروع تجاري لا أكثر، لأنه لم يقم على فكرة السلام (الحقيقة والعدالة)، ولم يقدم شيئاً بالنسبة إلى حقوق الفلسطينيين، أي أن بيريز كان يرى فيه مجرد جائزة تستحقها إسرائيل على وجودها في المنطقة ومن دون أي مقابل!

والحال إن سيرة بيريز لا يمكن اختصارها باتفاق أوسلو أو بمشروع "الشرق الأوسط الجديد"، فهذا الرجل لعب دوراً كبيراً وخطيراً في تاريخ إسرائيل، ولا سيما تاريخها العسكري، بدءاً من إنشاء مفاعل ديمونا (بالتعاون مع فرنسا)، إلى إقامة مجمع الصناعات الحربية، من موقعه مديراً عاماً لوزارة الدفاع، وهو عين نائباً لوزير الدفاع بن غوريون وعمره 33 عاماً. بيريز أيضاً، كان رجل استيطان في الضفة الغربية، وهو المسؤول الأول عن إنشاء مستوطنات في منطقتي القدس والخليل. وبين هذا وذاك، فقد كان من أهم زعماء المعسكرات السياسية والحزبية في إسرائيل، وعضواً دائماً في برلمانها (الكنيست)، وترأس حكوماتها مرتين (1984 و1996) وكان رئيساً لدولتها أخيراً.

على ذلك، مفهومٌ أن يبجّل الإسرائيليون هذا الرجل، فهو أحد زعمائهم، وحقق إنجازات كبيرة لهم ولدولتهم ومجتمعهم، لكن غير مفهوم ولا مقبول، من أي زاوية، تبجيله من بعض الفلسطينيين أو العرب، الذين لم يجلب لهم بيريز ودولته سوى الحروب والكوارث واغتصاب الحقوق، والتي لم تكن مجزرة قانا أولها ولا آخرها.

نعم، بيريز كان جيداً للإسرائيليين لكنه كان سيئاً للفلسطينيين، مثل دولته، وصحيح أنه حقق إنجازات لشعبه، ولكنه جلب الكوارث والويلات لشعبنا الفلسطيني، فالتسامح لا ينبني على النسيان، لأنه يتأسس على الحقيقة، والغفران لا يعني القبول بالظلم وإنما يعني تحقيق العدالة، والواقعية أو الحضارية والحساسية الأخلاقية لا تعني الدونية أو غياب الإحساس بالكرامة أو القابلية للاستعمار والاضطهاد.

طبعاً، يمكن تبجيل أي شخص لشخصية من شعب آخر، لكن ذلك يأتي لأن هذه الشخصية حققت إنجازات علمية أو تكنولوجية أو فكرية أو أدبية أو سياسية للبشرية جمعاء، أو بسبب دفاعها عن قيم الحرية والعدالة والمساواة في العالم، أو بسبب إنصافها شعباً آخر تعرض لمظالم من دولته، بيد أن هذا كله لا ينطبق على بيريز، كونه أحد قادة إسرائيل الاستيطانية والعنصرية والاستعمارية.

هكذا، فإن تبجيل بيريز من عرب، وبخاصة من قادة فلسطينيين، يدل على نجاحه في تطويعهم، كما على تصرفهم بدونية وليس بحضارية أو أخلاقية مع عدوهم، في ما يمكن تفسيره بتماهي المغلوبين مع الغالبين. من ناحية أخرى، فإن هذا التبجيل دليل عجزهم عن تقديم إنجازات لشعبهم وتضعضع إيمانهم بعدالة قضيتهم وإزاحتهم سرديتهم عن النكبة (1948) لصالح تفهّم سردية إسرائيل. هذا دليل آخر على فوز هذه الدولة وأفول الحركة الوطنية الفلسطينية، بتحولها مجرد سلطة تحت الاحتلال، وبانفصامها عن قضية شعبها وحقوقه وذاكرته وضميره.

قصارى القول، أن مشاركة وفد فلسطيني يترأسه الرئيس محمود عباس في جنازة بيريز لم تكن في محلها، ولا مفيدة، بل إنها مسيئة، وتشوش على كفاح الفلسطينيين من أجل عدالتهم، كما أنها تضعف مصداقية القيادة الفلسطينية أمام شعبها، فحتى هذه رفضها نتانياهو، بتجاهله وجود رئيس الفلسطينيين في كلمته، انسجاماً مع نسيانه وجودهم كشعب ومصادرته حقوقهم. وكان حرياً بهذه القيادة الامتناع عن هذه المشاركة، وأن تذكّر العالم بالمظالم التي ارتكبتها إسرائيل بحق شعبها، وضمن ذلك تملصها من عملية التسوية، وإصرارها على الاستمرار بانتهاج السياسات الكولونيالية والعنصرية ضد الفلسطينيين، لأن تلك المشاركة هي التي شجعت أوباما على تشبيه بيريز بنلسون مانديلا.

كل التقدير لقادة المجتمع العربي في إسرائيل، الذين لم يشاركوا في الجنازة.

ماجد كيالي

* كاتب فلسطيني