القيم المدنية رافعة السلم الأهلي (8)

بقلم: عدنان الصباح

 ( قيمة الآخر )

فيما تقدم تحدثنا بإسهاب عن قيمة الحياة كقيمة إنسانية أساسية لا يمكن الاستغناء عنها لصالح بناء مجتمع متماسك مواطنة ومدنية بأبهى صورها وبالتالي فان الاعتقاد بذلك سيقودنا تلقائيا للاقتناع بان الحق بالحياة لا يمكن له أن يكون حكرا على احد دون الآخر ونحن نقبل الآخر كوجود حي وحق فان علينا أن ندرك أن هذا الوجود سينتج عنه فعل أو رأي لان الحق في الحياة لا يمكن له أن يقتصر على الحق بالمأكل والملبس والمشرب والنوم بل الحق بالانتقال والحق بالعمل والحق بالتفكير والرأي والاعتقاد وبالضرورة فان اختلاف الناس يوجب اختلاف الآراء واختلاف الثقافات والرؤى لذا فان قبول حق الآخر بالحياة يوجب القبول بثقافة الاختلاف كأساس للعيش المشترك بين الناس.

• حين تجلس لتفكر وحدك بأمر ما فأنت بالتأكيد ستجد نفسك مضطرا لاستخدام نظريات علم الرياضيات كالتفاضل والتكامل والأبعاد والزوايا والمنحنيات والمخرجات وقطعا لست أنت من اكتشفت هذه النظريات ولا من وضع أصولها وحين تستخدم النظرية النسبية بأي درجة فأنت تدرك أنها من اكتشاف عالم مختلف عنك ومع ذلك تستخدمها, وحين تجد نفسك ملزما بكتابة أفكارك أو مخرجات التفكير التي توصلت إليها فأنت ستستخدم قلما وورقه صنعها آخر وأنت هنا تقبله إذن وتقبل منتجه مهما كانت مسبباته لوجود هذا المنتج وأيا كانت الوسائل التي استخدمها لإنتاجه فقط هي الحاجة هنا من ألزمتك باحترام هذا المنتج واستخدامه بغض النظر عن موقف الآخر كمنتج له وبغض النظر عن رأيه أيضا فهو هنا شكل قيمة مادية حقيقة لك وفائدة لم يعد بإمكانك الاستغناء عنها.

• أنت تلبس وتأكل وتنام وتسافر وتفعل كل ما تحتاج بأدوات الآخر وهذا الآخر المنتج أو المكتشف أو المخترع بالتأكيد له آراء وهذه الآراء واعتقادها والتفكير بها من قبله قادته إلى إنتاج ما هو بين أيدينا ولو منعناه لمنعنا أنفسنا عن الحصول على انجازه الذي نحتاج فنحن إذن قادرين على أن نختلف بالمعنى الإنساني وان ندع الآخرين يختلفون معنا مطلقين الإبداعات للجميع لصالح الجميع.

• الاختلاف الايجابي يختلف بالمطلق عن الاختلاف السلبي أو العدواني فحين يصبح الاختلاف مع الآخر على حقك بالحياة أو الوطن فانك ملزم بالدفاع عن هذا الحق بكل ما أوتيت من قوة وأدوات ووسائل فالاختلاف المقبول هو الاختلاف من اجل الحياة لا عليها وبالتالي فالاحتلال والاستعمار وسارقي ثروات الشعوب لا يمكن أن يندرجوا تحت بند الآخر وقبوله أو تحت بند ثقافة الاختلاف فهم لا يملكون سوى ثقافة الموت والنهب والتدمير التي ينبغي كل الثقافات والأفكار الايجابية أن تتوحد ضدهم وفي محاربتهم والتخلص منهم فمن يسلب الآخرين حقهم بالحياة هو من أعدائها ورافضيها ولا يجوز اعتبارهم آخر ولا رأي آخر.

• وجود الآخر المختلف معك حول الوسيلة أو الطريقة أو الأسلوب للوصول إلى الغايات الإنسانية الأسمى بالحياة والنمو والرفاهية هو ضروري لك فأنتما معا مكملان لبعضكما وهو بمجرد اختلافه معك سيدفعك لتحسين رأيك أو موقفك حتى تتمكن من هزيمة رأيه وبالتالي فان الاختلاف سبب رئيسي لرفع مستوى الوعي والإدراك والتطور وتنمية مفاهيم وثقافات البشر عبر تفاعل الأفكار والآراء والثقافات المختلفة لتنصهر جميعا في حضارة إنسانية عادلة لصالح البشرية على الأرض التي أرادها الله سبحانه شعوبا وقبائل لتعارفوا لا ليقتتلوا ولا ليسلب احدهم الآخر حقه بالحياة.

والسؤال هنا ما هي الأدوات والوسائل الممكنة لترسيخ ثقافة قبول الآخر ومن المفيد مثلا اعتبار الجامعة نموذجا للفعل العملي بين الطلبة لإشاعة ثقافة الاختلاف عبر وسائل بسيطة ولكنها أساسية ويمكن اعتبارها أسس النظام التربوي في الجامعة وسأورد هنا نماذج لذلك وهي على سبيل المثال لا الحصر:

1- يعتمد نظام الأبحاث المشتركة ويختار الشرف الطلبة في مجموعات من جهات مختلفة كان يكون في المجموعة الواحدة طلاب من قرية ومخيم ومدينة وبنفس الوقت من أكثر من اتجاه سياسي أو رأي ودفعهم للعمل معا كمجموعة واحدة لتحقيق هدف واحد وهو الفوز بعلامة متقدمة لهم جميعهم عن هذا البحث مما سيجعلهم مجبرين على الالتقاء والعمل معا واكتشاف قدرات بعضهم وتسخيرها لخدمة الجماعة المختلفة وخلال ذلك سيكتشف كل منهم ايجابيات الآخر وسيجدون وقتا كافيا للتعرف على الصفات الايجابية في كل منهم وقد يجدوا أنفسهم فيما بعد أصدقاء حقيقيين يصعب الفصل بينهم أو زجهم في صراعات شخصية عنيفة وسيجدون فرصة لمناقشة ما يختلفون عليه بشكل هاديء ورزين وبعيدا عن أي انفعال.

2- الفرق الرياضية والمسابقات الرياضية يمكن أيضا أن يتم تشكيلها بنفس الطريقة بحيث يجد اللاعبين المختلفين في الرؤية والفكر والاعتقاد ملزمين على التعاون معا وتحقيق الفوز معا عبر قيام كل فرد بالمجموعة بتسخير كل إمكانياته للنجاح الجمعي بغض النظر عن الاختلاف وهو تكريس لمفهوم أن في الاختلاف مصلحة فالمهارات التي يملكها ابن الريف قد تختلف عن مهارات ابن المدينة وكذا ستختلف ثقافة وقدرات ومهارات من تربى بحزب محافظ عن آخر تربى بحزب ليبرالي أو يساري وسيجد الجميع أنفسهم وقد اكتشفوا أهمية تجميع قدراتهم لصالح هدف واحد, هذه الايجابية ستنتقل تلقائيا لجمهور المشجعين فكلا الفريقين تم تشكيلهم بنظام الخلط بين كل ما هو مختلف وبالتالي فان المشجع لن يستطيع تشجيع جهة أو حزب بل سيجد نفسه مضطرا لتشجيع النجاح والفعل الجيد والأداء الجيد في الملعب.

3- تفعيل ثقافة الاختلاف على الرأي لا على الشخوص كأن تقام مناظرة حول موضوعة الانقسام بين فتح وحماس على أن يلعب ممثل حماس دور فتح ويلعب ممثل فتح دور حماس وبذا سيجد كل منهم نفسه مضطرا للدفاع عن موقف الآخر بينما لن يتمكن المشاهدين من تشجيع الشخوص أو التصفيق لهم بل تشجيع الرأي السليم والتحليل الصحيح فقد يتمكن ابن فتح من تقديم دفاع أفضل عن موقف حماس مما قد يدفع ممثلي حماس من الجمهور للتصفيق له والعكس صحيح وهنا تغيب الذات ويحضر الرأي فقط فالمتحدثين والجمهور جميعا سيجدون أنفسهم مترفعين عن الشتائم والسباب على الشخوص والرموز وغيرها لان حقيقة كل منهم انه يحترم أصلا ما يدافع عنه الآخر.

أنت واحد وكل ما عداك أكثر بكثير ولا يمكنك بأي حال من الأحوال أن تكون بديلا لكل الآخرين فالتنوع واحد من أسس الحياة ومكون رئيس من مكونات التنمية والمجتمعات المتنوعة هي الأكثر قدرة من بين الأمم على إحداث نقلات نوعية مهمة ومفارقة في مسيرة الإنسانية ونرى اليوم كيف لا زالت تتمكن الولايات المتحدة من الإمساك بزمام السيطرة على العالم وخصوصا في مجالات الاختراعات والتطورات النوعية ولا أكثر دلالة على ذلك من مركز السيطرة على كل منابع ومصادر الانترنت في العالم مملوكة لها بالمطلق, فالذي يعتقد انه البديل عن الجميع يقترف إثما خطيرا وهو حتما لم يدرك أهمية الآية الكريمة " وخلقناكم شعوبا وقبائل " ولا تفسيرها الأعمق عن أهمية ذلك وما له من ايجابيات على حياة البشر.

قبول الآخر الايجابي لا يعني بالتأكيد إلغاء الذات لصالح الآخر بل القبول بحقه بالعيش والتعبير والعمل ما دام ذلك يصب في مصلحة المجموع ولصالح التقدم والنمو وإعطاء الآخرين الحق بالعمل والعيش والتنقل والاعتقاد وحفظ كرامة الناس وحقوقهم متلازما مع التزامهم بواجباتهم لا يعني أبدا أننا سلمنا بمعتقد أيا منهم أكان المعتقد سياسيا وبالتالي فهي في مجتمع المواطنة المدني سوف يحصد ما قدمه عبر اعتقاده وفعله في صناديق الاقتراع سلبا أو إيجابا وفي حال كان الاعتقاد دينيا فهو حتما سيحصد ما قدمه في حياته أمام الله صاحب الحق الوحيد في محاسبة البشر على افعالهم ومعتقداتهم الدينية وخلاف ذلك فان القوانين والأنظمة كفيلة بإيجاد انتظام في حياة الناس في دولة المواطنة والحياة المدنية.

علينا دائما ان نتذكر ان الآخر والأنا مسألتان غير ثابتتان بل هن قابلات للتداول باستمرار فحيث اكون أنا سيكون هناك آخر بالنسبة لي وحين تكون أنا الآخر سأكون أناي بالتأكيد هي الآخر بالنسبة لأناه هو فلا فضل لآنا ما على الأنا الاخرى بأي شكل من الأشكال ومن يعتقد ان كل آخر ينتظر قبوله هو فهو يملك حدا من الغباء لا حدود له فكل دعوة لقبول الآخر تعني بالضرورة قبول كل أنا أيا كانت من قبل أنا الآخرين بما فيهم أناي والاعتقاد بان القبول هو بالضرورة تماهي مع الآخر ايا كان يفقد الامر معناه وجوهره, فالدعوة للقبول قائمة على المساواة لا على قبول الادنى للأعلى وهي ابدا لا تجعل من اعداء الشعوب وسارقي حريته آخر ينبغي قبوله ولا بأي حال من الأحوال.

بقلم/ عدنان الصباح