تبنت منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة قرارا بتاريخ 14/تشرين 1/20016 ينفي ارتباط اليهود بالحرم القدسي الشريف، وبالتالي عتبر أن كل الممارسات الإسرائيلية بحق الحرم القدسي والإجراءات غير شرعية ولا تستند إلى أي أساس تاريخي. دأبت إسرائيل على الادعاء بأن الحرم القدسي يقوم على أنقاض هيكل سليمان الذي يعتبره اليهود محط حجهم وتبركهم واستغفارهم، وإن لليهود الحق في المسجد الأقصى وساحاته، وأن اليهود لا يكتمل دينهم إلا إذا أقاموا الهيكل في مدينة القدس. وفي دعايتها العالمية تقول إسرائيل إن لليهود الحق في الأرض المقدسة والتي هي فلسطين لسببين وهما أن اليهود كانوا أول من أقاموا دولة في البلاد، وأن الرب قد اقتطعهم هذه الأرض لتكون لهم عبر الأجيال. هذا تسبيب واهي جداً، ومن السهل تفنيده على الساحة الدولية من خلال مؤسسات ترتكز على معايير علمية وليس سياسية في اتخاذ القرار.
قالت اليونيسكو إنه لا يوجد أدلة وبراهين تدلل على صدق الروايات الإسرائيلية، ولا تتوفر أدلة أثرية حول ادعاءات اليهود بوجود هيكل تحت المسجد الأقصى. ولهذا قضت اليونسكو أن مدينة القدس مقدسة للمسلمين والمسيحيين واليهود، لكن الحرم القدسي مقدس للمسلمين فقط. وعليه دعت المنظمة الدولية إسرائيل للتوقف عن ممارساتها التي تنتهك حرمة المسجد، وأن تتوقف عن كل الإجراءات التي من شأنها مضايقة المسلمين وحرمانهم من ممارسة شعائرهم في مكانهم المقدس. وطالبت إسرائيل بإعادة الوضع في القدس إلى ما كان عليه قبل عام 2000 وتمكين دائرة الأوقاف الإسلامية الأردنية التي تتمتع بحق الإشراف على الأماكن المقدسة وعدم عرقلة عملها في تنظيم التعبد في الأقصى. واستنكر قرار اليونيسكو الإجراءات القمعية التي تقوم بها إسرائيل بحق المسلمين والتي تؤدي إلى حرمانهم من ممارسة شعائرهم بحرية.
تم تقديم مشروع القرار بداية من قبل عدة دول وهي الجزائر، مصر، لبنان، المغرب، عمان، قطر والسودان. عُرض المشروع بداية على المجلس التنفيذي لليونيسكو الذي اجتمع في باريس بتاريخ 15/نيسان/2016 وأقر وثيقة لا تعترف بأي علاقة لليهود بالحرم القدسي، وكانت فرنسا من بين الدول التي وافقت عليها. وعلى إثرها نشطت إسرائيل على الساحة الدولية لثني الدول عن التصويت لصالح هذه الوثيقة في اجتماع مجلس أمناء اليونسكو المكون من 58 دولة، وقد نجحت في إقناع بعض الدول بوجهة نظرها وعلى رأسها فرنسا، لكن المشروع أُقرّ في النهاية من قبل مجلس الأمناء بأغلبية 26 صوتا مقابل اعتراض ست دول. وقد امتنعت 24 دولة عن التصويت. لم يكن من بين الدول الأوروبية من أيد مشروع القرار، وهي الدول التي تقف في الغالب مع السياسات الإسرائيلية. أما الدول التي صوتت ضد فهي: الولايات المتحدة، لاتفيا، بريطانيا، هولاندا، إستونيا وألمانيا. والمستغرب أن تركمنستان امتنعت عن التصويت.
ثارت ثائرة المسؤولين الإسرائيليين بعد صدور القرار، وأدلوا بعدد من التصريحات النارية ضد الأمم المتحدة وضد اليونسكو بالتحديد. قال رئيس وزراء الصهاينة نتنياهو إن من ينكر حق إسرائيل في جبل الهيكل (المكان الذي يقوم عليه الحرم القدسي) كمن ينكر حق الصين في سور الصين، وحق مصر في الأهرامات. وأبدى رئيس الصهاينة أيضا رفضه بتعليق أدان فيه القرار، ووجهت وزارة الخارجية الصهيونية رسائل إلى سفرائها بتكثيف جهودهم لدى الدول والجمعيات اليهودية والصهيونية على مستوى العالم لشرح وجهة النظر الإسرائيلية تمهيدا لإلغاء القرار مستقبلا.
من ناحية أخرى، عرضت إسرائيل قطعا أثرية قالت إنها تثبت الوجود اليهودي في القدس وفي الحرم القدسي. وأكثر ما استشهدت به هي تلك القطع الأثرية التي تقول إن القائد الروماني تيتوس قد استولى عليها من الهيكل الثاني، وهي معروضة على بوابة تيتوس في روما ومن ضمنها الشمعدان الذي يعتبر رمز اليهودية ورمز الدولة.
لم يكن قرار اليونسكو معزولا عن أبحاث علمية قد تمت حول الموضوع. فمثلاً أشار المؤرخ الأمريكي تومبسون (Thompson) منذ سنوات في كتابه حول الوجود اليهودي في الأرض المقدسة إلى أنه لم يعثر على أدلة تثبت وجود اليهود في زمن ما يسمى الهيكل الأول، لكنه أقر بهذا الوجود في زمن الهيكل الثاني، أي بعد إرسال اليهود من السبي البابلي على يد قورش الفارسي إلى الأرض المقدسة. أما السامريون الذين هم أحد مذاهب اليهودية والذين يرفضون وصفهم باليهود فينفون أي علاقة لهم بالقدس، ويقولون إن هيكل سليمان قد أقيم على الجبل الجنوبي المسمى بالطور بنابلس ولا علاقة للقدس بالموضوع. يقولون أيضا إن الرب قد كلم موسى على قمة ذات الجبل، وأقام إبراهيم عليه السلام مذبح إسحق على ذات القمة. أما المؤرخ اللبناني كمال الصليبي فينفي أي وجود لليهود في فلسطين، ويقول إن أغلب أسماء الجغرافيا الواردة في التوراة الموجودة الآن بين أيدي اليهود موجودة في منطقة عسير في الجزيرة العربية وليس في فلسطين.
التداعيات المتوقعة للقرار
لا شك أن قرار اليونيسكو يعزز الجدلية العربية والفلسطينية على الساحة الدولية، ويثير شكوكاً عميقة بالادعاءات الصهيونية، ويدعم مطالبات الفلسطينيين بحق العودة وتقرير المصير. اعتمدت إسرائيل منذ قيامها دعاية واسعة ومؤثرة على الساحة الدولية، واستطاعت أن تستميل مفكرين وأكاديميين وقادة سياسيين واقتصاديين واجتماعيين لجانبها، وصنعت لنفسها امبراطورية إعلامية من كبريات الشركات الإعلامية العالمية لتروج لوجهة نظرها وما تسميه حقوقها في الأرض المقدسة. أما العرب فعجزوا عن مجاراة الصهاينة، وربما أساؤوا للقضية الفلسطينية أكثر مما أفادوا. يأتي هذا القرار ليعوض للفلسطينيين والعرب عن ثغرة إعلامية واسعة تركوها خلفهم لتنفذ من خلالها الجمعيات اليهودية والصهيونية وتستقطب المؤيدين والداعمين لإسرائيل. الآن بإمكان العرب والفلسطينيين استغلال هذا القرار للتأثير على العديد من الدول لتغيير وجهة نظرها حول الحقوق الفلسطينية والحقوق الإسرائيلية واستقطاب مزيد من الدعم للجدلية العربية.
لكن الإشكال يكمن في السؤال: هل العرب والفلسطينيون راغبون في استغلال القرار ولديهم الدافعية لهجوم إعلامي واسع على إسرائيل وما روجت له عبر عشرات السنين؟ أذكّر أن الجمعية العامة للأمم المتحدة قررت عام 1975 أن الحركة الصهيونية حركة عنصرية لكن العرب لم يستعملوا هذا القرار بشكل يرفع من تأييد دول العالم للحقوق الفلسطينية، وعندما طُرح على الجمعية العامة موضوع إلغاء القرار عام 1991 صوت عرب لصالح الإلغاء. وحصل العرب على قرار من محكمة العدل الدولية بعدم شرعية الجدار الذي بنته إسرائيل حول الضفة الغربية، لكن العرب والفلسطينيين لم يعملوا على الاستفادة منه حتى الآن. ولم يجهد الفلسطينيون حتى الآن في الاستفادة من وجود محكمة الجنايات الدولية. القرارات تتكدس في الأمم المتحدة والهيئات الدولية دون أن يطور العرب والفلسطينيون قدراتهم ودوافعهم للعمل من أجل مصلحة وجهة النظر العربية والفلسطينية. يبدو أننا نكتفي بإعلان الانتصار في كل مرة نحصل فيها على قرار دولي لصالحنا، ومن ثم نتمدد على الأريكة لنأخذ قسطا وفيرا وطويلا من السبات.
تقديري أن العرب عموما والفلسطينيين خاصة لم يصلوا بعد إلى درجة من التطور الفكري والنضالي السياسي ليكونوا محامين صالحين وأوفياء لقضاياهم.