فيما بدا أنه أعنف تعبيرٍ عن حالة الغضب والهستيريا والهوس التي أصابت المستوطنين الإسرائيليين في فلسطين المحتلة، والحركة الصهيونية عموماً في مختلف أنحاء العالم، فشملت أبناء الديانة اليهودية جميعاً، المستوطنين اليهود في فلسطين، واليهود الذين يعيشون خارجها، وغيرهم من المنتسبين إلى الصهيونية فكراً وعقلاً، وسلوكاً وممارسة، وتأييداً ومناصرة، وإن لم يكونوا يهوداً في دينهم، أو إسرائيليين في جنسيتهم، فقد أصابهم قرارُ منظمة العلوم والثقافة الدولية "اليونيسكو" بما يشبه المس، فبدو في ردود أفعالهم الهستيرية أقرب إلى الجنون منهم إلى العقل، فقد راعهم بعد قرابة سبعة عقودٍ على تأسيس كيانهم على أسسٍ باطلةٍ من الأساطير والخرافات، التي آمن بها قادة العالم، وسهلوا هجرتهم إلى فلسطين على أساسها، أن العالم يقوض بنيانهم، ويعلن هذيان قيادتهم، وبطلان روايتهم، وكذب وخيال أسطورتهم.
وبدا بنيامين نتنياهو رئيس حكومتهم وزعيم أكبر الأحزاب في كيانهم، والذي يتطلع لأن يكون ملكهم العتيد وطالوتهم المنتظر، مصدوماً مشدوهاً، ومشوشاً مضطرباً، وكأن القرار فاجأه بما لا يتخيل، وصدمه بما لا يتوقع، فأخرجه عن طوره فغضب، وأنساه دبلوماسيته فأخطأ، وتجاوز لباقته في مخاطبة المجتمع الدولي فخشن خطابه، وأساء أدبه وفحش في ألفاظه، فهدد الأمم المتحدة ومؤسساتها، وانتهك سيادتها واعتدى على اختصاصها، ووصفها بما لا يليق، ونصحها بغير لباقةٍ ودون دبلوماسيةٍ لائقة، بأن ما تقوم به ليس من اختصاصها، وهو تجاوزٌ لعملها، واتهمها بأنها تزور التاريخ، وتعمي عيونها عن الواقع، وتنحاز في قرارتها إلى الطرف الفلسطيني، الذي –بادعائه- لا يملك ما يؤكد حقه في القدس، التي هي في حقيقتها "أورشاليم"، وفيها الهيكل وحائط المبكى وبقايا ملك بني إسرائيل.
أنكر نتنياهو بعنجهيةٍ وفوقيةٍ لافتةٍ وسماجةٍ أقرب إلى قلة الأدب، حق العرب الفلسطينيين والمسلمين في القدس، ونسبها وما فيها إلى اليهود تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، وأكد أن إنكار منظمة اليونيسكو لا يعنيه، ولا يغير من الواقع شيئاً، متهماً إياها بالانحياز وعدم النزاهة، وأنها انقادت إلى المجموعة العربية وخضعت لابتزاز مساهماتها المالية، وقال بأن من ينكر حق اليهود في القدس، وينفي وجودهم التاريخي فيها، وينكر مقدساتهم وقبورهم وممالكهم كمن ينكر حق مصر في الأهرام التي بناها الفراعنة، أو ينكر حق الصين في سورها العظيم وينسبه إلى غيرها من الشعوب، معتبراً أن القرار لا يغير من الواقع شيئاً، ولا يعيد كتابة التاريخ كما يريدون، ودعا السلطة الفلسطينية والدول العربية إلى المفاوضات المباشرة، بدلاً من السجالات في أروقة الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة، التي من شأنها أن تزيد الكراهية والتعصب.
إلى جانب تصريحاته السياسية التي نثرها بعصبيةٍ في أكثر مكانٍ، فقد دعا الشباب اليهودي إلى الصلاة في حائط المبكى، للتأكيد على الحق اليهودي في المكان، وأنكر بغضبٍ إطلاق منظمة اليونيسكو على المكان المقدس اسم "المسجد الأقصى"، الذي يعني أنه للمسلمين وحدهم، ويجرد اليهود من ادعائهم ملكيته، حيث نسف القرار أسطورة "جبل الهيكل" ونفى تبعية "الحائط الغربي" لليهود، في الوقت الذي كان نتنياهو وحكومته يشعرون بأنهم قد اقتربوا كثيراً من تهويد القدس، وأن زمن إعادة بناء الهيكل الثالث قد أظلهم، وأن علاماته قد ظهرت بينهم، ولهذا فقد جاء قرار اليونيسكو صادماً لهم.
ومن فرط العصبية والتهور التي اجتاحت نتنياهو إثر القرار، فقد أعلن أنه سيذهب إلى "جبل الهيكل" بنفسه، وسيعمل في الحفريات تحت الأرض بيديه، للبحث عن دلائل وشواهد، تؤكد الحق اليهودي فيه، ودعا أعضاء منظمة اليونيسكو لزيارة زيارة بوابة تيتوس في روما، حيث سيشاهدون ما أحضره الرومان بعد تخريب وتدمير الهيكل قبل 2000 سنة، وسيجدون محفوراً عليها الشمعدان، الذي يعتبر رمزاً للشعب اليهودي ودولة اليهود في عصرنا"، وكان قد اتهمهم بأنهم لا يعون التاريخ، ولا يعرفون شيئاً عنه، ولكنهم أيضاً لا يستطيعون تغييره أو كتابته من جديد.
وأمر نتنياهو وزيرته لشؤون الثقافة ميري رغيف، وهي المعروفة بتطرفها وتشنجها وهستيريتها الدائمة إلى قطع علاقة كيانه باليونيسكو، في خطوةٍ تدل على حالة التخبط وعدم الاتزان التي سادت نتنياهو وحكومته وأركان كيانه إثر صدور القرار، الذي علق عليه رئيسهم روؤفين ريفلين بأنه قرار كاذبٌ ويزيد الكراهية، واتهم اليونيسكو بأنها تخون دورها وتشوه الدبلوماسية الدولية، بينما قال وزير داخليتهم أرييه درعي بأن منظمة اليونيسكو قد وضعت بصمة عارٍ على الأمم المتحدة، وأنه لا علاقة لها بالعلوم والثقافة كونها تنفي الحق اليهودي في "الحائط الغربي".
مما لاشك فيه أن قرار اليونيسكو قد أربك نتنياهو، وحشره في زاويةٍ دوليةٍ حرجةٍ، وأظهره على حقيقته الفجة الصاخبة، وجرده من دبلوماسيته الناعمة، وابتسامته الصفراء المخادعة، وجعله يتصرف كالفأر المذعور لا يدري أين يتجه وكيف يفر وينجو بنفسه، فهو لا يستطيع أن يطعن في مصداقية الأمم المتحدة التي تعترف بوجود كيانه، وترعى أمنه وتدعو إلى سلامة حدوده وأمن مستوطنيه، وفي الوقت نفسه يجد أنه من الصعب عليه أن يقبل بقراراتٍ تنسف أصل حكايتهم، وتبطل كل روايتهم التاريخية التي تقوم على الوجود المقدس في فلسطين، وعلى الوعد الإلهي لهم في الأرض الموعودة التي كتب الله لهم.
رغم أن قرار اليونيسكو بالنسبة لنا كان رائعاً، إلا أننا نحن المسلمين عموماً والفلسطينيين خصوصاً، قد لا نكون في حاجةٍ إلى قراراتٍ دوليةٍ ولا إلى شهاداتٍ أممية لتؤكد حقنا في فلسطين، وتنسب ملكيتها لنا وحدنا، إذ يكفينا شهادة الله عز وجل الخالدة في كتابه الكريم، فهو وعدٌ منه سبحانه وتعالى غير مكذوبٍ لأمته، "فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًاً"، وإنه لا شك إفسادهم الثاني، وعلوهم الكبير في الأرض، وإنه يقيناً للوعد الآخر لنا بالنصر والعودة والتمكين، وعدٌ من الله قاطعٌ وسيتحقق، وبإذنه سبحانه وتعالى سيكون النصر والعودة والتحرير، ورفع الأعلام الفلسطينية في ربى القدس وعلى قمم جبالها وفوق قباب مساجدها، ومن على مآذنها سيصدح صوت الآذان والتكبير.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 24/10/2016
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]