(10)تشتت الشعب الفلسطيني
خلال المقالات الثلاث السابقة: (فلسطين والمؤثرات العربية)و (سياسة عربية ثابتة) و(تجفيف عربي لخيار المواجهة) فإنه يتضح لنا أن الشيء المؤكد هو استقواء وتمدد المشروع الصهيوني وزيادة وكثافة في الدعم الذي حصل عليه من الدول العظمى والكبرى، وهذا أمر لا يختلف معي أحد عليه، وأمر آخر مترسخ في قناعتي، وهو زيادة مطردة في مدى ارتهان القضية الفلسطينية إلى النظام الرسمي العربي، فالدول العربية كانت تستقل، ولو بالمفهوم العسكري، عن الاستعمار الأوروبي ليزداد الفلسطينيون ارتهانا لخياراتها...وقد يبدو أنني فقط أقدم عرضا تاريخيا لأحداث معروفة، ومع أن هذا ليس خطأ، ولكن ليس الهدف فقط تقديم سرد تاريخي للقضية الفلسطينية، بل التوقف عند كل محطة أراها مهمة، وتبيان مدى تأثير الخيارات الرسمية العربية على القضية.
وعندما نتحدث عن النكبة الكبرى في أيار/مايو 1948م لا يجوز إنكار بطولات واستبسال قوات جيوش عربية، وأنا في جنين ما زلت أرى مقبرة شهداء الجيش العراقي شاهدة على بطولة هذا الجيش، خاصة القائد المغوار (محمود شيت خطاب) رحمه الله، ولكن النتيجة والمحصلة أن ثلثي فلسطين الانتدابية صارت تحت قبضة العصابات الصهيونية وأعلن بن غوريون عن قيام (دولة إسرائيل) والتي حظيت باعتراف سريع ومباشر من الدولتين العظميين آنذاك؛ الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفياتي، وهو تجسيد واضح لمدى اللؤم والخسة من القوى الدولية لتمكين المشروع الصهيوني في الأرض الفلسطينية، وشرعنة للمجازر والتهجير التي هي أبرز معالم النكبة.
وقوع النكبة شتت الشعب الفلسطيني بكل ما للكلمة من معان ومفاهيم؛ فبقوة السلاح أمام شعب أعزل لم يقم العرب بإمداده ولو بقليل من السلاح ليذود عن أرضه ونفسه، أخرج حوالي 700 ألف فلسطيني من مدنهم وقراهم ومضاربهم إلى مناطق أخرى؛ مثل ما تبقى من فلسطين(ما يعرف حاليا بالضفة الغربية وقطاع غزة) وإلى الدول العربية المجاورة وغير المجاورة كالأردن وسورية ولبنان والعراق، فلم نعد بعد النكبة نتحدث عن شعب كتلته البشرية الكبرى تعيش فوق أرضه، أيضا فإن تداعيات اللجوء الإنسانية والمعيشية لها مفاعيلها على أهلها، فيصبح توفير الحد الأدنى من متطلبات العيش والبقاء مقدما على الأمور الأخرى، وفي أعمال المبدع (غسان كنفاني) ما يصوّر طبيعة الحياة القاسية في مخيمات اللجوء، صحيح أن ظروف الحياة في تلك المخيمات لم تمنع البتة أن تتحول تلك المخيمات إلى بؤرة مركزية لمقاومة المشروع الصهيوني، وأن تمثل خزانا بشريا كبيرا للمناضلين، ولكن اللجوء له ضرائبه وأكلافه السياسية والاجتماعية التي لا يتسع المجال للتحدث عنها.
وجزء آخر من الشعب الفلسطيني هم الذين لم تقم العصابات الصهيونية باحتلال مناطقهم وانضم إليهم لاجئون من المناطق المحتلة المجاورة، إنهم سكان شرقي مدينة القدس ومدن الوسط الشرقي(الضفة الغربية) الأخرى كالخليل ونابلس وجنين، ومنطقة أخرى هي قطاع غزة ذاك الشريط الساحلي الضيق الذي جاءه –مثل الضفة- اللاجئون من مناطق عسقلان والمجدل وغيرها.
ولما خلقه الاحتلال من واقع جغرافي على الأرض فإنه لا يوجد تواصل مباشر بين غزة والضفة؛ وإذا أراد ابن غزة زيارة الضفة أو العكس فإن المسار يكون عبر الأردن ومصر، علما بأنه بين المصرارة في القدس وشمال القطاع ساعة سفر فقط...وهناك الفلسطينيون الذين لم يخرجوا من ديارهم في فلسطين المحتلة، داخل ما سيعرف بالخط الأخضر (حوالي 156 ألف فلسطيني) والذين سينضم إليهم لاحقا سكان المثلث الشمالي بعد اتفاق الهدنة، وسيخضعون للحكم العسكري حتى سنة 1966م ثم سيحملون الجنسية الإسرائيلية، وسيكون لهم وضعهم الخاص المختلف سياسيا ونفسيا وحياتيا عن إخوانهم، وكلمة (إخوانهم) ليست مجازية فقط، فهنا قد تجد رجلا من جنين له شقيق/ة في أم الفحم أو الناصرة مثلا، وكل منهما له ظروف حياة مختلفة عن الآخر من شتى النواحي، ولم يكن لسنوات طويلة بينهما أي اتصال من أي نوع، فلم يكن وقتها تقنيات اتصال مثل أيامنا!
أي أن الشعب الفلسطيني بعيد النكبة بلا هوية سياسية وطنية ولو رمزية، وتوزع الناس في داخل فلسطين وخارجها وكل مجموعة ومنطقة لها قوانين خاصة تحكمها وتضبط مسارها؛ فقد دخلت الضفة الغربية تحت راية الأردن، وخضع قطاع غزة لإدارة عسكرية مصرية، وطبعا اللاجئون الذين أنشئت (الأونروا) للتعاطي مع تداعيات نكبتهم يقيمون في دول لها قوانينها وضوابطها وطريقة تعاطيها معهم...ولست أدري هل كلمة نكبة أو شتات أو مأساة تكفي لوصف الحال أم في اللغة تعبيرات أخرى أشد قسوة!
(11)لحظة تاريخية ضاعت
وفوق كل ذلك فإن لحظة تاريخية لإعلان دولة فلسطينية، فوق ما بقي من الأرض الفلسطينية كانت متاحة، وضاعت ولا أدري هل سيكشف السبب الحقيقي يوما ما عن سبب ضياعها الحقيقي أم لا، فقد كان العالم –على إجرامه-على استعداد بعد المجازر والتشريد والاعتراف بقيام إسرائيل فوق مساحة أكبر من التي دار الحديث عنها وفق قرار التقسيم، للقبول بأمر واقع هو الإعلان عن قيام دولة فلسطينية، فلم يكن ينقصنا سكان ولا أرض-مع أنها فقط 22% من فلسطين-ولا مؤسسات قابلة للتطور...ونحن اليوم نرى كل فصائلنا وقوانا وفعالياتنا على استعداد أو سعي لإقامة هذه الدولة، وخلافاتها حول التفصيلات والصيغة، لا حول مبدأ فكرة إقامة الدولة على هذا الجزء.
قد يكون التعليل المعروف هو أن القيادة الفلسطينية آنذاك والمتمثلة بالحاج أمين الحسيني كانت على وعي بخصوصية اللحظة التاريخية، ومن هنا انبثقت فكرة(حكومة عموم فلسطين) ولكن العرب عطلوا المشروع وجففوا الدعم ولم يسمح المصريون للحكومة بالعمل في غزة حيث أعلنت الحكومة، إضافة إلى المعارضة السياسية من دول عربية أخرى، وهذا صحيح ويثبت فكرة ارتهان الحالة الفلسطينية قبل النكبة وبعدها للنظام العربي الرسمي، الذي منع بلورة هوية وطنية فلسطينية تتولى مباشرة الدفاع عن مصالح الشعب الفلسطيني، يكون العرب داعمين ومساندين لها، لا مهيمنين على قرارها كما حصل...ولكن القيادة الفلسطينية آنذاك ظلت حتى وهي تشكل الحكومة تطلب الدعم والتأييد والشرعية من الجامعة العربية، ولم تأخذ زمام المبادرة، وهنا قد يكون التبرير أن هناك واقعا مفروضا بالقوة العسكرية العربية يحول دون هذه الخطوة، ولكن النظام العربي الرسمي، لو رأى نزعة استقلالية حقيقية، ونفسا قويا ينزع إلى استقلال حقيقي ما كان بمكنته منع إقامة دولة فلسطينية مستندا إلى قوته العسكرية فقط، فالقوة العسكرية استقوت نظرا إلى ليونة بل ضعف وتردد موقف القيادات الفلسطينية، والتي كانت الجماهير يمكن أن تسندها بكل ما تملك.
على أية حال فإن مصر التي لعبت دورا سلبيا أيام نظامها الملكي في تعطيل وحصار حكومة عموم فلسطين، وبالتالي عدم السماح بتكوين هوية فلسطينية مستقلة، قد دخلت هي الأخرى مرحلة تاريخية مفصلية بعد سنوات قليلة من النكبة الكبرى....في المقال القادم إن شاء الله تعالى سنتحدث عن هذا الموضوع المفصلي أيضا في مسار قضيتنا.
،،،،،،،،،،
الجمعة 4 صفر الخير 1438هـ ، 4/11/2016م
من قلم:سري عبد الفتاح سمّور(أبو نصر الدين)-جنين-أم الشوف/حيفا-فلسطين