مررنا في الحلقات الأربعة السابقة على أحداث ومواقف وشخصيات ومنعطفات كثيرة من حياة الدكتور نبيل شعث، ونشهد أنه قد وثقها للتاريخ بكل شفافية وصدق، وعالجها بكل ابداع وحنكة قيادية ولا ننس الأسلوب الجميل في سرد كثير من الوقفات التي عبرت ذاكرتنا وحجزت لها مكانا يستحق صاحب هذه المذكرات تلك المكانة الرفيعة والاهتمام الجميل.
اليوم سنكون مع الحلقة الخامسة والأخيرة والتي يذكر د.نبيل فيها أن مرحلة الدبلوماسية وانتهاء المعركة العسكرية الفلسطينية، كانت نتيجة للكثير من التغيرات والمتغيرات والمؤثرات الداخلية والعربية والاقليمية والدولية، وفي كل تلك المنعطفات استطاعت م.ت.ف وحركة فتح الاحتفاظ بالقرار الوطني الفلسطيني المستقل، وبدأت أفكار العمل الدبلوماسي "الخطوة خطوة"، و " الحل المرحلي" و " الفكر الواقعي"، وإنهاء استيراتيجية " كل شيء او لا شيء" وأمام كل ذلك وكثير من المتناقضات مع أفكاره وقناعاته لم يكن رفضويا ولكنه وقف موقف المعارض الايجابي، مع تأكده أن حلمه وفكره في الدولة الفلسطينية الديمقراطية اللاطائفية يبتعد يوم بعد يوم.
وكلف بمهمة الاعداد لمؤتمر القمة العربي السادس في الجزائر 1973 حيث تم فيه اعتبار م.ت.ف الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وتعززت الكيانية السياسية لفلسطين، ومهد هذا القرار العربي، لانطلاق م.ت.ف الى المحافل الدولية وحصولها على العضوية الكاملة في منظمة التعاون الاسلامي، وسُمي الأخ ياسر عرفات نائبا دائما لرئيسها، وتلى ذلك في 1974القرار الفلسطيني بإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية على أي جزء من الأراضي الفلسطيني يتم تحريره، وصدور قرار قمة الرباط في المغرب بإعتبار م.ت.ف الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، و تلى ذلك أهم حدث سياسي في تاريخ الثورة الفلسطينية، وهو خطاب القائد ياسر عرفات في الأمم المتحدة 1974، ويذكر الدكتور نبيل توليه مهمة متابعة كتابة وأفكار الخطاب وظهر تأثير تأثره بمارتن لوثر في خطابه "لدي حلم" وانعكس هذا في قوة خطاب ابوعمار أمام العالم، ويذكر أن دموعه قد انهمرت بعد الخطاب وبعد قرار الأمم المتحدة بإعتبار م.ت.ف عضوا مؤقتا فيها، وكان لهذا عظيم الأثر في استنهاض حركة فتح في كافة أماكن تواجدها، وازيلت كبوة اليأس وجلد الذات التي سادت بعد الخروج من الاردن، وأصبح العالم يتحدث بلغة ابوعمار "الحررب تندلع من فلسطين، والسلام يبدأ من فلسطين".
و أجهضت محاولات اقحام الثورة في الحرب اللبنانية في بدايتها، وكان لأبوعمار الدور الكبير في ذلك، لولا المؤامرات الدولية والهمجية الإسرائيلية، وتقاعس الدول العربية وخذلانها، وانجراف كثير من القوى اللبنانية للدخول في حرب أهلية، وانزلق فيها المقاتل الفلسطيني، ودفعت المخيمات الفلسطينية الثمن الباهظ والآلاف من الدماء وأرواح الشهداء من الكوادر والقيادات والشيوخ والنساء والأطفال، واشتعلت لبنان وبدأ الغزو الإسرائيلي وصمدت القوات الفلسطينية 88 يوما، وفقد دخله المالي الشهري من وظيفته في الجامعة الأمريكية بعد إغلاقها، و رفض ان يتقاضى راتبا من حركة فتح، مواصلا عمله التطوعي فيها وغير متفرغ.
وفي كل فصول كتابه لا يخلو فصل من الحديث عن رفيقه دربه زوجته صفاء، حيث قال عنها: أنها كانت له خير معين في كل عمل وطني واكاديمي، حيث قام بانشاء "دار الفتي العربي" التي تخصصت في نشر كتب الأطفال،وبعد أن غادر بيروت قام بتأسيس مؤسسة"تيم" الخبراء العرب في الهندسة والادارة حيث انطلقت من طرابلس 1975م، وبالاتفاق مع شركائه اللبنانيين قام واستمر بعد ذلك بدعم حركة فتح ماليا من أرباح مؤسسة "تيم" لسنوات طويلة.
واشتدت الحرب وغادر بيروت الى فرنسا "وقد شعر بعد ذلك بالذنب على قراره" وقد استمرا عضوا في المجلس الثوري والوطني، وكلفه أبوعمار ليكون مستشاره الأول للعلاقات الخارجية، وكانت أعوام 1976،1978، صعبة على الثورة الفلسطينية، فمصر التي دعمت الثورة أصبحت تعمل منفردة بإتجاه السلام مع اسرائيل، وزار الرئيس السادات القدس، وسوريا انهت دعمها للثورة، وظهرت ظاهرة المنشقين في داخل الحركة، وأصبحت صبري البنا أبونضال القائد السابق في الثورة منشقا وقاتلا مأجورا لمن يدفع أكثر، وأضر كثيرا بسمعة الثورة وكفاحهم ورسالتهم السياسية، واغتال قيادات في حركة فتح، ومنهم الأخوة ابواياد وابو الهول وابو محمد الغمري ومحاولته الفاشلة لإغتيال الأخ أبومازن، لأنه تبنى قراره طرده وفصله من حركة فتح، وتم كل ذلك بجانب ما تقوم به اسرائيل من اغتيالات ومجازر رهيبة.
وستبقى بوصلة الثورة الواضحة تشير الى القدس الى فلسطين، وان الثورة مستمرة وسوف تنتصر، فقرة نسجها من عمق الثورة والايمان الكامل بانتصار الحق على الباطل، خاتما بها الفصل الأخير من مذكراته يتحدث عن الثورة الايرانية وان ابوعمار أول من زار ايران وتسلم مكان السفارة الاسرائيلية التي طرد طاقمها لتقام فيها السفارة الفلسطينية، واستشهاد حسن سلامة، من ثم ترأسه للمؤتمر الحركي العام الرابع لحركة فتح، والذي عقد في دمشق 1980، وبقانون المحبة أنجز مصالحة بين الأخ ابوعمار والأخ أبواياد، واعتراف الاتحاد الأوروبي بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بعد المؤتمر الرابع، وكتب عن دوره الفاعل في بناء وإدارة العلاقات الدبلوماسية مع الأوروبيين وتأثير تلك العلاقات على الانجازات الفلسطينية لاحقا، وتأثيره في الرأي العام الأمريكي بعد تكليف ابوعمار له بهذه المهمة وقيادة حراك شامل في الدول العربية والدولية، حيث أصبح مبعوثا شخصيا لقائد الثورة الأخ ابوعمار، وتأمين الحماية الكاملة لخروجه من بيروت متجها الى اليونان، ويذكر أن أبوعمار رفض الخروج الى دمشق، حفاظا على القرار الفلسطيني المستقل ورفضا لما قامت به دمشق من دعم للمنشقين وتشكيل تهديد مستمر للثورة في الحرب اللبنانية وما بعدها، ولازال يذكر قول قائده ومعلمه وينقل دموع ابوعمار لنلمس الوفاء الكامل فيها للبنان وللحق الفلسطيني ولمأساة الشعب الفلسطيني قائلا للصحفيين "أنه عائد الى فلسطين، وأن الضربة التي لا تصيب الرأس تقوي الجسد".
ولأن ما حدث في معركة بيروت لا يمكن وصفه حتى في مجلدات، وكذلك الأحداث التي تنقل فيها الأخ الدكتور نبيل شعث في فصول كتابه الثري والذي يعتبر مرجعا موثقا وبلغة سلسلة وعميقة، ومن الأهمية أن يعود من يقرأ سلسلة مقالاتي هذه الى الكتاب وسيجد فيه أبعاد المواقف والأحداث والتحليلات والمذكرات التي كان في ذكرها في أعلى مستوى من الشفافية.
ملاحظة : يحتوي الكتاب على ملاحق هامة وخاصة به، ومنها رسالة الدكتوراة ومقال يسجل أفكاره فيه رؤيته للدولة الديمقراطية اللاطائفية وملحق للصور العائلية ومسيرته السياسية.
بقلم/ د. مازن صافي