لا تدخر الحكومات الألمانية المتعاقبة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وسعاً في محاولة استرضاء الكيان الصهيوني وكسب وده واستدرار عطفه، وتقديم كل شئٍ ممكنٍ له وللشعب اليهودي في الكيان الصهيوني وخارجه، ليرضى أو لينسى، أو ليغفر ويعفو، في محاولاتٍ منه مستميتة للتكفير عن الجريمة التي ارتكبها زعيم بلادهم إبان الحرب العالمية الثانية أدولف هتلر، الذي قام بحرق آلافٍ من يهود أوروبا، فيما يعرف بــ"الهولوكوست"، والتي يدعي فيها اليهود أن هتلر قد حرق في أفران ألمانيا النازية أكثر من ستة ملايين يهودي من الرجال والنساء والأطفال.
منذ ذلك الحين وحتى اليوم تقوم الحكومات الألمانية بمحاولة التكفير عن جريمتها، والتعويض عن فعلتها، وقد أعطت الكثير وما زالت تعطي، وعوضت المتضررين الأحياء، والورثة الباقين، والأحفاد الجدد الذين لم يشهدوا المحرقة، والأبناء الذين نجوا منها، وما زالت تدفع وفق السجلات اليهودية عن كل القتلى والمحروقين، وتستجيب لكل دعوى يهودية، ولا تعترض على كل شكوى من وكالتهم ومنظماتهم، وكأن ما يقولونه الحق، وما يدعونه هو الصواب، وما على الحكومات الألمانية إلا أن تلبي طلباتهم كلها، أياً كانت صعبة وقاسية، واستفزازية أو ابتزازية، إذ لا تملك غير القبول، ولا تستطيع غير الالتزام.
لا تكتفي الحكومات الألمانية بالتكفير عن جريمتها من حسابها الخاص، وبموجب سياستها الوطنية، التي يؤديها المواطن الألماني من قوته الشخصي، ومن كد عمله اليومي، فيدفع للحكومة ضرائب باهظة وهو يعلم أنها تؤخذ من جيبه وتدفع إلى جيوب اليهود في كل أنحاء العالم، بل تسعى لإجبار العالم كله على المضي معها، والالتزام وإياها تجاه الشعب اليهودي، الذي ترى أنه شعبٌ قد ظلم واضطهد، وأنهم أمةٌ قد تعرضت للتعذيب والتنكيل، وعلى العالم كله أن يقف إلى جانبهم تكريماً لهم، واعتذاراً إليهم، وتعويضاً لأبنائهم وأجيالهم عما عانى منه آباؤهم، فالجريمة وإن نفذت بأيدي ألمانيا النازية، فإن العالم الذي كان يخوض غمار الحرب العالمية الثانية، يتحمل جزءاً من المسؤولية، ويشارك نسبياً في الجريمة، ولذا فإن عليه أن يشارك بقدر ما يستطيع في التعويض والاعتذار.
الحكومات الألمانية لا تكتفي تجاه الكيان الصهيوني والشعب اليهودي بالاعتذار عن الجريمة، ولا تتوقف محاولاتها لاسترضاء يهود العالم بالتعويض المادي والاعتذار المعنوي، ولكنها تلتزم بتقديم المساعدات المادية السنوية لهم، وتزودهم بالسلاح المتطور والتكنولوجيا الحديثة، وتساندهم في المحافل الدولية، وتقف إلى جانبهم في التحقيقات والمساءلات العالمية، وتهب لمساعدتهم في الحروب والأزمات، وتستجيب إلى نداءاتهم وتلبي استغاثاتهم، وتتوسط من أجلهم، وتفاوض نيابةً عنهم، ويحزنها ما يصيبهم، ويؤلمها ما يقع لهم، وهي التي أشرفت على كل عمليات تبادل الأسرى التي تمت معهم، لا حرصاً على تحرير الأسرى الفلسطينيين، بل حرصاً على حياة ورفات الجنود الإسرائيليين، الذين وقعوا أسرى بين أيدي المقاومة العربية والفلسطينية، أو الذين بقيت جثتهم أو بعضها على أرض المعركة واحتفظت بها قوى المقاومة.
ورغم كل ما تقوم به الحكومات الألمانية التي تبدو أحياناً ذليلة، وتقف قيادتها باكية حزينة، وتعتمر القلنسوة اليهودية دلالة الاعتذار والمواساة، وتدخل مبنى النصب التذكاري للمحرقة وهي مطأطأة الرأس حزينة، دامعة العين باكية، حيث تحرص على أن تحيي معهم كل سنةٍ ذكرى المحرقة، وتشاركهم طقوسها وتستعيد معهم آلامها وأحزانها، وتقف معتذرةً أمام من نجا من يهود أوروبا، وتعاقب وتحاسب كل من ينكر هذه المحرقة، أو يستخف بها ويقلل من حجم أرقامها، وتتهم كل من لا يبدي ندماً أو يظهر حزناً إزاء هذه الجريمة بأنه معادٍ للسامية، فيحرم ويجرم، ويحاسب ويعاقب، حتى بات الاعتراف بالمحرقة بوابة كل منصب والمدخل إلى كل وظيفة.
ومع كل ما تقوم به ألمانيا وتقدمه فإنها لا تكتفي ولا ترضى عن نفسها، ولا تغفر لأسلافها ما قاموا به، ولا تنكر مسؤوليتها عما حدث في بلادها وعما ارتكبه قادتها، وفي الوقت نفسه فإن اليهود لا يرضون ولا يشبعون، ولا يسكتون ولا يهدأون، ولا يتوقفون عن الشكوى ولا يمتنعون عن السؤال، ولا يترددون في الطلب، وما على الحكومات الألمانية إلا أن تستجيب لهم وأن تخضع لطلباتهم، وهي تشعر بالأسى والحزن تجاههم، وأنها عاجزة ومقصرة ومذنبة بحقهم.
أما بريطانيا سبب نكبة الشعب الفلسطيني والأمتين العربية والإسلامية جميعاً، التي احتلت فلسطين واستعبدت شعبها، وكانت السبب في ضياعها، إذ أصدرت حكومتها لليهود وعداً بإقامة وطنٍ قومي لهم في أرض فلسطين، فيما عرف تاريخياً بوعد بلفور، وقامت في الوقت نفسه وهي سلطة انتدابٍ في فلسطين بتسهيل هجرة يهود العالم إليها، واستيطانهم فيها، وزودتهم بالسلاح والعتاد، وفتحت لهم مخازنها ومعسكراتها للتدريب والتأهيل، ومكنتهم من السيطرة على الأرض الفلسطينية قبل رحيلها عنها، وتسببت في لجوء مئات آلاف الفلسطينيين ونزوحهم عن أرضهم، وخلقت معاناةً لشعبٍ بأكمله وأمةٍ بأسرها.
إنها رغم هذه الجريمة التي ما زالت تداعياتها قائمة، وآثارها بادية، وخسائرها حاضرة، فإنها لا تبدي الندم تجاه ما قامت به، ولا تعترف بجريمتها ولا تعتذر للشعب عما سببته لهم، بل إنها تكابر وتعاند، وتصر وتعارض، وتأبى أن تعترف بأنها ظلمت الشعب الفلسطيني، وأنها كانت سبب محنته وأساس مصيبته، وأنها المسؤولة عن خلق وتأسيس دولة الكيان على حساب وحقوق الشعب الفلسطيني، وبدلاً من أن تعتذر وتسوي المشكلة التي خلقتها، وتحل الأزمة التي صنعتها، فإنها تقف إلى جانب لقيطتها التي زرعتها، وتساند حليفتها التي خلقتها، وتصر على أن تؤيدها وتساندها، تارةً بالسلاح وأخرى بالسياسة، بينما تغمض العين على معاناة شعبٍ وعذاب أمةٍ وخراب منطقةٍ وعدم استقرار العالم، الذي لن يغفر لها يوماً أنها المجرمة الأولى، والمسؤولة الأكبر عن جريمة العصر المهولة، نكبة فلسطين التاريخية.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 8/11/2016
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]