خواطر على هامش السياسات الإسرئيلية إزاء القضية الفلسطينية

بقلم: هاني المصري

شاركت، على مدار يومين، في ندوة نظّمتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في لارنكا، بعنوان "مراجعة للسياسات الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية". وكانت ندوة مفيدة جدًا حول فهم السياسات الإسرائيلية، لكن يبقى ما هو أهم، وهو وضع السياسات الفلسطينية في مواجهتها. فالمعرفة مهمة ليس من أجل المعرفة فقط، بل لتوظيفها في خدمة تحسين وتغيير حياتنا إلى الأحسن، أو الأقل سوءًا على الأقل.

إن مهمة المثقف والمفكر ألا يطرح طرحًا يقفز كثيرًا عن الواقع، لأنه يتحول إلى تبشير غير قابل للتحقيق، ولا يطرح طرحًا يقبل من خلاله بالواقع كما هو، بحيث لا يطمح سوى إلى تحسينه، وهذا في أحسن الأحوال تبرير. فالمطلوب من المثقف المساعدة على معرفة الواقع معرفة صحيحة كما هو في الحقيقة من أجل التغيير من دون تبشير لا ينتهي سوى إلى التبرير.

تعرفنا إلى التحولات في الصهيونية واليمين الإسرائيلي وانعكاساتها على الحالة الفلسطينية وبعض منظومات السيطرة الاستعمارية الاستيطانية والسيناريوهات المحتملة لتطور الصراع، وكيف تفكر إسرائيل وتخطط وتعمل ضدنا، ونريد أن نتعلم كيف نخطط ونفكر ونعمل ضدها، بمعنى ما هي الإستراتيجيات الفلسطينية الأكثر جدوى وفعالية على مختلف المستويات لمواجهة المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني؟ وتراوحت الآراء حول ما إذا كانت إسرائيل لا تزال تدير الصراع بدلًا من حله، أم أنها انتقلت، خصوصًا منذ بدء المرحلة الثالثة التي سيطر فيها اليمين واليمين الديني المتطرف، إلى حل الصراع من خلال الضم الزاحف، مستفيدة من الضعف والانقسام والتيه الفلسطيني، وتردي الأوضاع العربية بصورة غير مسبوقة، وانشغال العرب والإقليم والعالم كله بقضايا أخرى.

ما هي السيناريوهات المطروحة، وهل هناك إمكانية لاستمرار الوضع الراهن في البقاء، أم سيتم الانتقال إلى مرحلة سيناريوهات أخرى بسبب تدخل مبادرة فلسطينية لا تقبل أن نبقى تحت احتمالين، الموت البطيء والموت السريع، بل لا بد من شق الطريق لاحتمال ثالث يفتح أفق الحياة؟ فعلى الرغم من تعمق الاحتلال والاستيطان والعنصرية، لا تزال هناك عناصر قوة لدى الفلسطينيين، أهمها استمرار وجود وصمود أكثر من ستة ملايين فلسطيني على أرض الوطن، وكذلك استمرار مقاومة الشعب الفلسطيني، وغير ذلك من عوامل قد يتطور تأثيرها في مسار السيناريوهات المحتملة، فهناك الانتفاضة التي يمكن أن تندلع وتغير قواعد اللعبة مثلما غيرتها الانتفاضات السابقة، بالرغم من أن المكاسب لم تكن بحجم المعاناة والتضحيات والألم. وتحتاج الانتفاضة حتى تندلع وتنتصر إلى قيادة ووحدة وطنية ومؤسسة جامعة وبرنامج وطني قابل للتحقيق، ويفتح الطريق لتحقيق أهداف أخرى.

لا يمكن أن تنتصر الانتفاضة مع بقاء السلطة على وضعها الراهن، لأنها باتت عبئًا على النضال وعقبة في طريقه، لذلك لا بد من تغيير شكل السلطة ووظائفها والتزاماتها لتصبح سلطة خدمية تساعد على صمود الشعب على أرضه، وتكون بذلك سلطة مجاورة للمقاومة، لا سيما أنها لا يمكن أن تكون سلطة مقاومة، خصوصًا إذا كانت المقاومة مسلحة، لأن إسرائيل والدول المانحة لا يمكن أن تقبل أن تتحول إلى سلطة مقاومة، فضلًا عن أن المواجهة المسلحة تعني الانجرار إلى الملعب الذي تفضله إسرائيل في ظل الاختلال الفادح في ميزان القوى لصالحها.

إن انتصار الانتفاضة بحاجة إلى تقييم وضع المنظمة، وهل يمكن إصلاحها أو إعادة بناء مؤسساتها على أساس ميثاق وطني جديد يحفظ الحقوق والمبادئ والأهداف ويستجيب للحقائق الجديدة، أم أن المنظمة التي تأسست في الستينيات من القرن الماضي انتحرت عندما اعترفت بحق إسرائيل في الوجود، والتزمت أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا مع إسرائيل، فلا يمكن إحياء العظام وهي رميم؟

إذا سلمنا جدلًا بأن المنظمة غائبة لدرجة لم يعد يشعر بها أحد تقريبًا، فهذا لا يلغي الحاجة إليها، بما تشكله من كيان تمثيلي موحد، لأن ما يجمع الشعب الفلسطيني يبقى أقوى بكثير مما يفرقه. وليس من الصحيح أن لكل تجمع فلسطيني أولوياته وحله بمعزل عن بقية التجمعات الأخرى، إذ إن هناك علاقة لا تنفصم بين النضال من أجل تحقيق الأهداف الوطنية المشتركة والكفاح لمعالجة المشكلات والهموم اليومية لكل تجمع. فقد أثبتت التجربة أنّ محاولة أسرلة شعبنا في الداخل لم تنجح، لأن عنصرية وعدوانية إسرائيل ضدهم قد زادت بشكل كبير، كما أن تغليب الوطنية والهوية على حساب الحقوق المدنية يضيّع ما يمكن تحقيقة لصالح معالجة الأوضاع الخاصة بما لا يتعارض مع الحقوق الوطنية.

إضافة إلى ما سبق، المهم ألا يكون الكفاح من أجل الحقوق المدنية هو سقف النضال، وإنما مرحلة على طريقه، بحيث يكون تحقيق ما يمكن تحقيقه خطوة على طريق تحقيق الهدف النهائي. كما أن محاولات القيادة لإنجاز دولة على حساب أو عن طريق الفصل بين الدولة والعودة والمساواة، وبينها وبين التمسك بالحل التاريخي الذي يحقق مجمل الحقوق الفلسطينية لم تنجح، ما يجعل إمكانية تحقيق أي حل لتجمع من تجمعات الشعب الفلسطني بشكل جوهري وحاسم مرهونة ومرتبطة بقدرة التجمعات الأخرى على تحقيق أهدافها، وإذا اقترب شعبنا في أراض 48 من تحقيق المساواة فهذا سيقرب إنهاء الاحتلال وتحقيق حق العودة.

إن الخبرة الفلسطينية المرة تدفع باتجاه الجمع لا الفصل بين الدفاع عن المبادئ والحقوق والأهداف، والعمل على تحقيق المصالح الخاصة بكل تجمع، لأن تغليب مصلحة تجمع على مصالح التجمعات الأخرى يؤدي إلى حلول المصالح الفردية محل مصلحة التجمع، بما يخدم أهداف الاحتلال في تعميق تجزئة الشعب الفلسطيني، وضرب وحدة مشروعه الوطني وكيانه التمثيلي الموحد، تمامًا مثلما يظهر في جوهر السياسات الإسرائيلية المنفذة على أرض الواقع. كما أن تغليب المبادئ من شأنه إضاعة ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة، وهذا حصل أيضًا عندما تم التخلي عن الدور الخاص للشعب الفلسطيني بالتحرير والعودة، لأن تحقيق الوحدة العربية أو انتصار الأممية أو قيام دولة الخلافة الإسلامية أولى. هناك بعد فلسطيني وطني لا يمكن أن يستغني عن الأبعاد العربية والإسلامية والمسيحية والأممية، ولا يمكن الاستغناء عن أي بعد من هذه الأبعاد.

بقلم/ هاني المصري