عاصفة في البيت الفلسطيني

بقلم: الياس سحاب

عندما كان أنصار حركات التحرّر في العالم يتابعون بإعجاب منقطع النظير أحداث الثورة الجزائرية للتخلص من قرن وثلث القرن من الاستعمار الفرنسي لتغيير هوية ذلك البلد العربي، كانت "جبهة التحرير الجزائرية" تمثل عنوان الحدث ذاك. وقد تألفت الجبهة من مجموعة متماسكة من خمس قيادات لتلك الثورة، بينهم المناضل أحمد بن بلة الذي تمّ انتخابه فيما بعد رئيساً أول للجمهورية الجزائرية، بعد انتصار ثورتها عبر كفاح مسلح بطولي ومفاوضات سياسية شاقة.
وعندما كان هؤلاء يتابعون بإعجاب ثورة الشعب الفيتنامي للتخلص من الاستعمار الفرنسي أولاً، ثم الاستعمار الأميركي الذي تلاه، كان لتلك الثورة حزب سياسي واحد وقائد تاريخي هو هوشي منه، وقائد عسكري أعلى هو الجنرال جياب.
ومع أن ظروف الثورة الفلسطينية لم تسمح منذ البداية بتكرار هذه الصورة لناحية توحيد الجهود على الشاكلة ذاتها في إطار حركة التحرر الوطني الفلسطيني، فإن "منظمة التحرير الفلسطينية"، منذ عهدها الثاني بالذات بقيادة ياسر عرفات، لعبت دوراً مماثلاً ومقابلاً للدورين الجزائري والفيتنامي، وإن بشكل يختلف في تفاصيله.
حتى أن سنوات طويلة مرت على الثورة الفلسطينية، كانت "منظمة التحرير الفلسطينية" تجمع خلالها تحت قيادة ياسر عرفات سائر منظمات الكفاح الفلسطيني المسلح، على اختلاف انتماءاتها السياسية، على اعتبار أن ما جمع هذه الفصائل، سواء ذات المنشأ الوطني الفلسطيني أو القومي العربي أو الماركسي أو الخليط من هذا وذاك، كان برنامجاً موحداً يحدد أهداف وأساليب النضال من أجل تحرير فلسطين.
بيد أن ظروفاً سلبية كثيرة أثرت على هذا التماسك المبني على تصورات كانت أقرب إلى المثالية، خلال أكثر من محطة تاريخية. ويمكن تحديد المنعطف الأساس الذي بدأ يعصف تدريجياً بالصورة الوحدوية لحركة النضال الفلسطيني، بتلك اللحظة التي بوشر إثرها بتعديل ميثاق العمل الوطني لـ "منظمة التحرير الفلسطينية". لكن المنعطف الأهم تمثل بعد ذلك في توقيع الزعامة التاريخية الفلسطينية "اتفاقية أوسلو"، التي حكم عليها البعض منذ البداية بأنها تعكس انسياقاً فلسطينياً في المسلسل التنازلي الذي بدأ باتفاقية كامب ديفيد، والذي دشنه الرئيس المصري أنور السادات نهاية السبعينيات من القرن الماضي. ثم جاءت السنوات بعد ذلك لتثبت صحة ما قال به المتوجّسون منذ البداية عن اتفاقية أوسلو، لناحيتي الشكل والمضمون.
تلت ذلك لحظة تاريخية أخرى لكن في الاتجاه النقيض، بدا إثرها كما لو أن القيادة الفلسطينية التاريخية ممثلة بياسر عرفات أصيبت بخيبة كبرى من النتائج العملية لتطبيق "أوسلو"، وهو أمر دفع عرفات إلى اتخاذ موقف تمثل برفع سقفه السياسي، توازياً مع اشتعال الانتفاضة الثانية وتمدّدها، إلى حدود قصوى.
منذ تلك الانعطافة الثالثة، أصبح الرئيس الفلسطيني قيادة غير مرغوب فيها من المجتمع الدولي، الذي كانت قوته المهيمنة، ممثلة بإدارة بوش الابن في واشنطن، تعتقد بإمكانية التخلص من المشكلات الناجمة عن القضية الفلسطينية عن طريق تصفيتها وفق ما يتناسب مع شروط المشروع الصهيوني. هذا الوضع أوجد ظروفاً سمحت بمحاصرة عرفات سياسياً وجغرافياً في رام الله، حتى اضطرته الضغوط الدولية والإقليمية لاستحداث منصب رئيس لوزراء فلسطين، شغله محمود عباس، الأكثر استعداداً للانحناء أمام تلك الضغوط.
العملية ذاتها تتكرّر اليوم في وجه أبو مازن، بعدما استنفد دوره من وجهة نظر القوى الداعمة للمشروع الصهيوني، حيث أخذت تبحث عن خليفة له. والواضح أن أبرز الأسماء المرشحة لخلافة أبو مازن هو النافذ "الفتحاوي" محمد دحلان، الذي يُهيَء لعودته عبر مؤتمرات في الخارج (مصر مثالاً) ومسيرات في الداخل (غزة تحديداً). بينما راحت في المقابل تسري أخبار عن خطة مضادة لأبي مازن، تقتضي تعيين ناصر القدوة في مركز يستحدثه الأخير، عنوانه "ئائب الرئيس"، وذلك لقطع الطريق على دحلان.
المُحزن في أجواء العاصفة التي تهبّ هذه الأيام على البيت الفسطيني، أنها تأخذ اتجاهاً معاكساً لصلابة موقف أسرى التوقيف الإداري، والصحوة المحدودة لضمير جزء في المجتمع الدولي، متمثلاً بقرار "الأونيسكو" الأخير. حمى الله فلسطين.

الياس سحاب