مرت الذكرى الثانية عشرة لرحيل القائد الرمز، صانع الاعجاز، ابو الثوار الاحرار، الاخ الشهيد الخالد ياسر عرفات. فأي رهبة ممكن ان تتناب روح واحد من رفاق مسيرته الطويلة، وأي قشعريرة تسري في بدنه، وهو يستعيد قبساً ضئيلاً من ذكرياته مع هذه الشخصية الاستثنائية، التي كان قدرها المقدّر ان تحمل الاثقال الثقيلة، وان تقطع المسافات الصعبة الطويلة، بجرأة عز نظيرها، واقتدار استحق عليه لقب صانع الثورة المستحيلة.
ومن قال اننا لا نتذكر الزعيم الفلسطيني الراحل الا في يوم غياب شمسه عن فضائنا السياسي وعن حياتنا الوطنية؟ ومن ذا الذي يعتقد ان الشهداء الاحياء عند ربهم، يموتون هكذا كما يموت بقية الناس؟ فما بالكم اذا كان صاحب هذه المناسبة الموجعة حقاً، هو النخلة الفلسطينية الباسقة، الشهاب الذي لا يزال الى اليوم يضيئ لنا الطريق الموحش في عتمة الليل الفلسطيني الطويل؟
ذلك ان يوم وفاة الزعيم الخالد هو يوم للأسى فقط، ويوم اللوعة ليس الاّ، فيما كل الايام التي تعاقبت علينا منذ تلك اللحظة الكابوسية قبل اثني عشر عاماً، كان ابو عمار خلالها حاضراً فينا ملء عين الشمس، وكان حضوره الوارف لا يقل بلاغة عن ايامه الممتدة من زمن القواعد مع الفدائيين في الاغوار، الى قاعة الامم الجمعية العام للأمم المتحدة في نيويورك عام 1974، الى حديقة الورود في فناء البيت الابيض في واشنطن عام 1993.
ومن ذا الذي يشبه ابو عمار في حياته، او يدانيه منزلة في وجدان شعبه؟ ومن في وسعه ان يملأ كل هذا الفراغ، او ينسينا الرجل الذي استحق بجدارة لقب "ابو الوطنية الفلسطينية"، لذلك فإنني اعتقد جازماً ان كل يوم مضى منذ فراقنا له، هو يوم ملائم لاسترجاع تلك اللحظات الباهرة، والمشاهد الحافلة بالمواقف التي تفيض حكمة وشجاعة وقوة بصيرة.
لقد كان ابو عمار، وهو يقود الركب بجسارة القادة التاريخيين الكبار، شجاعاً في قول الحق، واتخاذ المواقف، وصنع اللحظة المواتية، وكان القائد المبادر دون وجل او تهيّب، عزيز النفس، كبيراً ونبيلاً في اختصامه مع رفاق المسيرة، ظهيراً قوياً لكل صاحب رأي خلافي يحتمل الصواب، لكل مبدع ومثقف ثوري، وراعٍ لكل زهرة تتفتح في بستان الثورة.
انه ابو عمار الذي خضنا معه والى جانبه كل معارك الثورة المجيدة، من معركة التأسيس والانطلاقة عام 1965، الى معركة الكرامة عام 1968، الى معركة الصمود الاسطوري في لبنان عام 1982، الى معركة القرار الوطني المستقل، الى معركة السلام والعودة الظافرة الى ارض الوطن، الى معارك السياسية والدبلوماسية في الامم المتحدة، ونزع الاعتراف بعضوية المنظمة الاممية، الى معركة اقامة السلطة الوطنية ووضع اللبنات التحتية لإقامة الدولة المستقلة.
ومن منا، نحن اخوته ورفاق دربه، من لا يحمل ذكرى خاصة، ظل يحتفظ بها في سويداء قلبه للزعيم الذي خضنا واياه كل هذه المعارك. واذا كان لي ان اتذكر شيئاً قليلاً من بين صفحات دفتر ذكرياتي الحميمة مع القائد الفارس، فلن يتسع المقام ابداً، وذلك منذ ان التحقت بحركة فتح في اوائل ستينات القرن الماضي، الى تأسيس صامد، الى تكليفي بقيادة مفاوضات اوسلو، الى رئاستي لأول مجلس تشريعي منتخب، الى اسناد منصب رئاسة الحكومة.
وفي كل صفحة، او قل في كل محطة من هذه المحطات، التي كان فيها ابو عمار قائدي وملهمي دون منازع، كان الزعيم الخالد معلمي وظهيري وقدوتي، وكنت في المقابل محل ثقته العميقة، وموضع اسراره الدفينة، الامر الذي يثير في نفسي مشاعر الاعتزاز والفخر، ويحملني على استذكاره بكل الأسى واللوعة والألم.
ومع ان الكل الفلسطيني ظل يستذكر ابا عمار في كل المناسبات، ويفتقد قيادته الفذة على كل المفارق والمنعطفات، خصوصاً عندما كانت تدلهم الخطوب وتشتد النازلات، الا ان ذكرى رحيله تزيدنا، في هذه الآونة، تزيدنا احساساً بفداحة هذا الغياب، وشعوراً ممضاً بالخسارة التي لا تعوض، لا سيما واننا نواجه كل هذا القدر من التشتت والمصاعب والتحديات والانقسام، الامر الذي ينطبق معه قول الشاعر:
سيذكرني قومي اذا الخيل اقبلت
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
نعم نستذكرك يا ابا عمار عشية انعقاد المؤتمر السابع لحركة فتح، ونشتاق الى دأبك في مثل هذه المناسبة، وانت تنظّم الصفوف، وتقف على كل التفاصيل، وتؤلف بين القلوب، وتوسع صدرك للمختلفين معك، أولئك الذين لم يختلفوا عليك في اي يوم.
نستذكرك اليوم بشدة ايها القائد الراحل، على نحو ما بقينا نستذكر حضورك الساحر في كل المناسبات والمواقف والتطورات التي توالت علينا بعد رحيلك، ونترحم عليك وعلى حسن قيادتك، ونقاء معدنك، وثاقب نظرك، وقوة مراسك في الملمات، وطول بالك مع رفاق المسيرة، من اصغر مقاتل الى اكبر قائد كان يصطف الى جانبك في كل المعارك والمواجهات المصيرية.
في مناسبة رحيلك التي لا تنقضي في يوم واحد، نقف خاشعين في محراب الشهداء وانت إمامهم بامتياز لا حد له، نستلهم من روحك الطاهرة ومن ارواحكم المحلقة في علياء السماء، انبل المواقف واجزل التضحيات، ونستمد من حضوركم القوي بيننا، العزم والاصرار والصمود الذي لا حد له.
كيف لا وانت يا زعيمنا الخالد، قد اضأت لنا الدرب، وعبرت بنا جدار المستحيل، وتربعت في سمائنا كالبدر الذي يهدينا سواء السبيل، ويمدنا بالشجاعة والإقدام والصلابة في الدفاع عن حقنا المشروع في الحرية والاستقلال وبناء الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف.
لقد كنت يا ابا عمار مدرسة في الوفاء، كنت الدرس الاول الذي تعلمناه في ابجدية حب فلسطين وشعب فلسطين، كنت مثالاً في الفروسية عندما يختصم المتخاصمون عندك، كنت رأس الرمح، وحد السيف، وصاحب الكلمة الفصل اذا احتدمت الآراء من حولك.
سلاماً الى روحك الطاهرة، وسقياً لأيامك العطرة. وسلاماً ايضاً الى ارواح كل الشهداء الابرار، والى جراح ومعاناة أسرانا وجرحانا الابطال، وعاشت فلسطين، وانها لثورة حتى النصر، واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، بعاصمتها الابدية، قدسنا الشريف، ان شاء الله.
بقلم/ احمد قريع