أشغلتهم غزة، وأرقت مضاجعهم، يخافون صمتها، ويرتبكون من فعلها، فتراهم في قلق دائم على مصيرهم المرتبط بمصيرها، يقلبون صفحات التاريخ فتقبل عليهم غزة عملاقة، ويدققون في معالمها الجغرافية فتدق لهم غزة أجراس العودة، وهي أصغر مساحة من قمر في يوم غائمٍ، ترقد على حافة الهاوية الاقتصادية، وتنبض وفاءً في مفاصل القضية الفلسطينية.
يخاطبها وزير الحرب الصهيوني "ليبرمان" قائلاً: إن أوقفت حماس حفر الأنفاق وإطلاق الصواريخ؛ فإسرائيل أول دولة ستساعد في بناء الميناء البحري لغزة، والمطار، والمنطقة الصناعية"، فيغضب لهذا التصريح نحو 400 حاخام إسرائيلي، يطالبون نتنياهو بإقالة "ليبرمان" الذي يشكل خطراً على أمن "إسرائيل"، ويشجع من يكرهونها، وأن مصطلح حل الدولتين يجب أن يتم نسيانه من قاموس الإسرائيليين.
ولم يكن "ليبرمان" يقصد إغضاب حلفائه اليمينين، ولا تزحزح عن خطه السياسي، بمقدار ما كان يناور سياسياً، على طريقة القادة الإسرائيليين الذين ربطوا بين الأوضاع الاقتصادية المتردية لسكان قطاع غزة وبين انتمائهم للمقاومة، لذلك طالب "ليبرمان" من غزة أن تقلم أظافرها، وأن تقلع أسنانها، وتقييد خطواتها، ومن ثم تعترف بإسرائيل، مقابل الشفقة الإنسانية عليها، ويعرف "ليبرمان" أن غزة تعرف أن منظمة التحرير الفلسطينية قد وقعت في الفخ الإسرائيلي حين تخلت عن سلاحها، ووقعت على اتفاقية أوسلو، واعترفت بإسرائيل مقابل ميناء لم يتحقق، ومطار تم تدميره بغارة من طائرة واحدة.
تصريحات ليبرمان السياسية لا تعكس تحولاً ملحوظاً في رؤية الإسرائيليين لمستقبل قطاع غزة، بمقدار ما تعكس قلقاً إسرائيلياً من المقاومة في غزة، بعد أن أضحت عصية على الكسر والتطويع، وهذا ما عزز القناعة لدى القيادتين السياسية والعسكرية بأن لغة القتل والتدمير والقضاء على المقاومة بالقوة العسكرية لم تعد هي اللغة الوحيدة المجدية، وإنما هنالك لغة أخرى تحدث بها "يائير لبيد" زعيم حزب هناك مستقبل" ، خلال جولة قام بها مع عشرات السفراء على حدود قطاع غزة، قبل فترة، وقال لهم: إنه سيساعد في بناء مطار وميناء لغزة في حال تم وقف إطلاق الصواريخ، وتوقف حفر الأنفاق، وتم سحب سلاح الفصائل في القطاع.
ومع تواصل المنولوج الداخلي للنخب الإسرائيلية، تواصل حركات المقاومة الفلسطينية العمل ليل نهار، فهي تعرف أن صراعها مع الصهاينة صراع وجود، وأن المواجهة لا مفر منها، وأنها تسير على هدي حركات التحرر والمقاومة؛ التي رفضت المساومة على حقوقها، وهذه حقيقة تاريخية أدركها المفكر الصهيوني" يحزكيل درور" من قبل، حين سخر من دعوة القيادة الإسرائيليّة لتحسين الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة، بهدف تقليص رغبة الفلسطينيين في المقاومة، فقال في مقال نشرته صحيفة “هآرتس": لقد دللت تجارب التاريخ المتتالية على أن الناس يبدون استعدادًا للقتال من أجل تحقيق تطلعاتهم القومية، مدفوعون بمحفزات عقائدية وأيديولوجية، حتى عندما تكون أوضاعهم الاقتصادية جيدة.
وأضاف أبو الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي: لقد دللت الحرب الأخيرة على قطاع غزة أنّ تفوق الجيش الصهيوني الكبير لم يضمن تحقيق نصر سريع، ولن يضمن ذلك في المستقبل، ولا في أية مواجهة قادمة، حيث ستواصل حركة حماس المس بالواقع الأمني الداخلي الإسرائيلي.
وأزعم من خلال الواقع الأمني في قطاع غزة بأن المقاومة ستفاجئ قادة إسرائيل في المواجهة القادمة، بالشكل الذي سيؤثر سلباً على النواة الصلبة للقرار السياسي الإسرائيلي.
د. فايز أبو شمالة