مؤتمر فتح السابع وترتيب الأوضاع الداخلية

بقلم: عبد الحميد صيام


نكتب هذا المقال قبل أسبوعين من انعقاد مؤتمر حركة التحرير الفلسطيني "فتح" السابع في قاعة أحمد الشقيري برام الله بحضور نحو 1300 من شرائح وقطاعات وقيادات وأطر وأقاليم الحركة الخارجية، بالإضافة إلى ممثلين عن الأسرى والمعتقلين والمتقاعدين ومنظمات العمل المدني وبعض الكفاءات العسكرية. وسيصدر عن المؤتمر بيان ختامي من المفروض أن يحدد مسيرة الحركة ويعزز وحدتها ويحدد مواقفها من كافة القضايا والتحديات التي تواجه مجمل العمل الفلسطيني في هذه المرحلة الأخطر ليس فقط بسبب الانقسام الجغرافي والأيديولوجي بين حركتي فتح وحماس، بل بسبب مظاهر التصدع الداخلي في جسم الحركة نفسها وصل أو كاد يصل حد المواجهة المسلحة.
ملاحظات على المبنى وليس على المعنى
إولا- إن اختيار 29 نوفمبر ليس اعتباطيا بل لأنه يصادف الذكرى التاسعة والستين لقرار التقسيم الشهير (181) الذي أقر بإيجاد دولتين واحدة للعرب الفلسطينيين على 42% لأكثر من ثلثي السكان العرب الفلسطينيين و 46% للمهاجرين الجدد الذين كانوا لا يزيدون عن ثلث السكان. وقد اعطى ذلك القرار الظالم القدس وضع "الكيان المنفصل".
ثانيا- ينعقد المؤتمر في رام الله وهي ما زالت تحت الاحتلال وأن كل من سيشارك في المؤتمر من خارج الضفة الغربية فإنه سيدخل بإذن سلطات الاحتلال، سواء جاء من غزة أو من أي مكان في العالم.
ثالثا- إن حركة فتح هي الفصيل الفلسطيني الوحيد الذي يعقد مؤتمراته علنا وأمام وسائل الإعلام، وتحت سمع وبصر العدو الإسرائيلي، وبحضور عدد كبير من الضيوف وكأن الحركة لم يعد لها أي نشاط سري ويقتصر الحديث فيه على أشكال النضال الجماهيرية السلمية.
رابعا- ينعقد هذا المؤتمر بعد سبع سنوات من انعقاد المؤتمر السادس في بيت لحم عام 2009 أي أنه تأخر ثلاث سنوات عن موعده. ولكن بمقاييس مؤتمرات فتح الأخرى فقد عقد في زمن قياسي، فبين المؤتمرين السادس والخامس عشرون سنة.
ليس سرا أن حركة فتح تمر في حالة احتقان داخلي يكاد ينفجر على شكل صراعات بين الأجنحة، خاصة التيار الدحلاني المتعاظم داخل الحركة الذي بدأ يأخذ شكل التنظيم/الفصيل المدعوم من قوى إقليمية مهمة. وهناك سببان رئيسان لنجاح التيار الدحلاني باختراق حركة فتح في الداخل، أولا غياب أي حياة تنظيمية جادة داخل الحركة وتحولها إلى ما يشبه الجمعية الخيرية أو النادي الاجتماعي، حيث تتصرف القيادة بمعزل عن القاعدة التنظيمية وكأنها غير معنية تماما بمشاعر أبناء الحركة، ما يهمها أساسا رضى القوى الإقليمية والدولية. وإذا ما عبر أحد أبناء التنظيم أو أحد التجمعات الإقليمية للتنظيم عن أي نوع من المعارضة لقرار ما، يتم التعامل مع المعترضين بالفصل أو التجميد أو قطع الراتب أو السجن والتعذيب. هذه المسلكية في غياب أي إنجازات على المستوى الوطني وتنامي الشعور بالإحباط وضياع البوصلة وانسداد بصيص الأمل وغياب أي أطر سليمة للنقد الذاتي التي تتيح لقادة الحركة الاستماع إلى أنين القاعدة ومعاناتها وهو ما عمق حالة الاحتقان داخل التنظيم وأصبح الانفجار الداخلي قاب قوسين، خاصة بعد مشاركة وفد فلسطيني بقيادة الرئيس عباس في جنازة شمعون بيريز الذي يعتبره الشعب الفلسطيني أحد أكبر مجرمي حرب الكيان الصهيوني.
أما السبب الثاني فهو اقتصادي بحت. ليس سرا أن دحلان يتربع على عرش شركات استثمارية كبرى قد تنطلق من دبي لكنها تتجاوز حدود صربيا والجبل الأسود. وهذه الاستثمارات الكبرى قد بدأت منذ أكثر من عشرين سنة وبعد عودة السلطة إلى البلاد وتسلم دحلان مسؤوليات أمنية. فقد أصبحت فضيحة كارني (كما تسمى) أمرا معروفا، فقد كان يتم تحويل مبالغ هائلة من جمارك معبر كارني لحسابات شخصية. (وأنا أكرر ما قيل ولست معنيا بمسألة التحقق من صدقية الاتهامات). لقد بدأت أموال دحلان تتسرب إلى أتباعه في غزة والضفة الغربية بطريقة لافتة للنظر، حيث تم تأسيس العديد من الجمعيات الخيرية التي يتم تحويل الأموال إليها. يجب ألا نستهين بعامل المال في بلد تصل البطالة فيه إلى 27% في الضفة الغربية و42 % في غزة حسب الأرقام الرسمية. لقد وجد الفتحاويون الغاضبون من قياداتهم أو المهمشون طريقة للتكتل عن طريق الخيط السري الذي مده دحلان لهم واعتبروه أمرا طبيعيا لأن دحلان عضو لجنة مركزية منتخب من مؤتمر فتح السادس وكان طرده من الحركة في يونيو 2011 مخالفا لكل الأعراف والتقاليد والنظم الداخلية للحركة.
اتخذت القيادة قرارين مهمين أثناء التوجه لعقد المؤتمر، دون أن تفصح القيادة عن أسباب هذين القرارين: قرار الانضمام إلى البوليس الدولي (الإنتربول). وقرار المحكمة الدستورية إعطاء الرئيس الصلاحية الكاملة لرفع الحصانة عن أي عضو في المجلس التشريعي في غير أدوار انعقاد المجلس. وللعلم فإن الإنتربول رفض الطلب بضغط من إسرائيل.
والقرار الثاني هو منح المحكمة الدستورية الفلسطينية في قرار اتخذته بشأن طلب التفسير الدستوري رقم (3) لعام 2016 في تاريخ الثالث من نوفمبر من العام الحالي، الرئيس محمود عباس الصلاحية الكاملة لرفع الحصانة عن أي عضو مجلس تشريعي في غير أدوار انعقاد المجلس. وهذه سابقة قد لا تحدث في العالم أن تقوم السلطة التشريعية بالتنازل عن صلاحياتها للسلطة التنفيذية ممثلة في شخص الرئيس، ليجمع في شخصه من خلال هذا القرار السلطتين الأهم التشريعية والتنفيذية، ولا نستغرب بعدها إن منحت له السلطة القضائية ليحاكم من يريد ويصدر أحكاما لها قوة الإنفاذ، وبالتالي يتحول الرئيس إلى "ديكتاتور" وهو الذي ما فتئ يرفض هذا ويقول لو خرج ثلاثة يصيحون الشعب يريد إسقاط الرئيس لما ترددت بوضع استقالتي على الطاولة فورا.
ولا يخفى على عين مراقب أو متابع أو مهتم بالشأن الفلسطيني أن هذه القرارات الثلاثة: عقد المؤتمر وتفويض المحكمة الدستورية للرئيس برفع الحصانة عن أي عضو في المجلس التشريعي ومحاولة الانضمام إلى البوليس الدولي، كلها تتعلق بالخلاف بين الرئيس عباس وعضو المجلس محمد دحلان الذي يعمل منذ أكثر من عقد من الزمان على إعداد المسرح لخلافة عباس.
وأشارت المحكمة الدستورية، وهي أعلى هيئة قضائية في فلسطين وأنشئت بقرار سياسي، إلى أن القرار بقانون رقم (4) لعام 2014 الصادر بتاريخ الثالث من ديسمبر 2012 المتضمن رفع الحصانة عن عضو المجلس التشريعي محمد يوسف شاكر دحلان قد صدر وفقا للأصول والصلاحيات المخولة للرئيس بموجب القانون. يذكر أن الرئيس عباس مدعوما باللجنة المركزية لحركة فتح، فصل دحلان من الحركة في يونيو 2011، ورفع عنه الحصانة البرلمانية عام 2012. فما زادت هذه القرارات دحلان إلا تصميما وخطورة وتدخلا في أمور فتح والعمل على تكوين تنظيم داخل التنظيم.
على هذه الخلفية سيعقد المؤتمر ونتوقع أن يصدر إدانة مباشرة أو غير مباشرة لمحاولات دحلان شق حركة فتح، كما سيكون المؤتمر فرصة للقيادة لتعزيز شرعيتها داخل الحركة من جهة وتوجيه رسالة للدول الأربع الداعمة لدحلان وهي مصر والأردن والسعودية والإمارات.
إن الذي يعزز الوحدة الداخلية وينهي الانقسام ويعيد الحيوية للشعب الفلسطيني ليس قرارات الطرد وإنفاذ قانون العقوبات، ولا إعطاء المحكمة الدستورية صلاحيات إضافية للرئيس ولا إثارة النعرة العصبوية التي تربى شباب فتح عليها، مرددين شعارات من أمثال "غلابة يا فتح يا ثورتنا غلابة"، كما أن يخرج العمل الوطني من أزمته القاتلة الآن والتي تكاد تطيح بالمشروع الوطني برمته، خاصة في ظل الانقسامات الفلسطينية والحروب العربية وتمادي اليمين الإسرائيلي الممثل بحكومة نتنياهو- ليبرمان التي على وشك تحريم الأذان خطوة على طريق التهويد، وصعود اليمين الأمريكي إلى السلطة والتطبيع العربي مع الكيان "عينك عينك" وما دعمهم لدحلان إلى لاستخدامه جسرا لتطبيع شامل وعلني ومستدام، هو برنامج نضالي حقيقي يتضمن مجموعة نقاط نترك توسيعها للمؤتمرين:
أولا – يجب أن تتم مراجعة كارثة أوسلو وما جرته على الفلسطينيين وقضيتهم العادلة من مآس. وهذا يتطلب الاعتراف ثم الاعتذار من المسؤولين عن الكارثة.
ثانيا- يجب الاعتراف بان المفاوضات من أجل المفاوضات قد انتهت وإلى الأبد، وأن الاحتماء بالمجتمع الدولي والصراخ في مجلس الأمن لن يعيد وطنا ولن يوقف مستوطنة ولن يفكك حاجزا ولن يخرج أسيرا ولن يهدم جدارا.
ثالثا- إعادة تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية حقيقة لا قولا. وهذا يعني إعادة الاعتبار لمؤسساتها، خاصة المجلس الوطني الذي لم يجتمع منذ عام 1988 عند إعلان بيان الاستقلال وإعلان دولة الوهم، وإعطاء مناطق الشتات دورا أساسيا في العمل الوطني والتعبوي والنضالي وانتخاب الأطر الشاملة التي لا تستثني فصيلا أو نقابة أو اتحادا أو حزبا أو شخصيات وطنية رفيعة.
رابعا- الإعلان عن برنامج نضالي واسع وشامل ومتواصل يستخدم الوسائل المتاحة بهدف إنهاء الاحتلال في ذكراه الخمسين – وهذا البرنامج يضع في صلبه تحركا دوليا لا على مستوى مجلس الأمن المضبوط على إيقاع الفيتو الأمريكي، بل على مستوى الجماهير المؤيدة والداعمة لحركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (بي دي إس) التي بدأت تحاصر الكيان الصهيوني في كل مكان. إن النضال السلمي الجماهيري الحاشد والمتواصل والمتعاظم سيقلب كل موازين القوى لصالح عدالة القضية الفلسطينية، فلم يحدث أن كانت إسرائيل مكروهة ومعزولة ومنبوذة في العالم مثل هذه الأيام، ولذلك تسعى إلى فتح ثغرة في الجدار العربي بأياد فلسطينية.
هذه هي الخطوات التي تذوب الظاهرة الدحلانية وتنهي الانقسام بين حماس وفتح وبين الضفة وغزة وتعزز الوحدة الداخلية أمام تدخلات الجوار. كما سترى الجماهير العربية تنتفض لتتضامن مع إخوتهم وأخواتهم في فلسطين وبالتالي يعود الوهج للقضية المركزية الأولى التي ظلت هكذا لأكثر من 60 سنة إلى أن بدأ برنامج التهميش الذي يقوده العرب مساندة لإسرائيل وبرنامجها الاستراتيجي في تغييب القضية الفلسطينية وإنكار وجود الشعب الفلسطيني.

د. عبد الحميد صيام
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز