برحيل كاسترو يكون قد رحل آخر العمالقة السياسيين في القرن العشرين،فكاسترو واحد من القيادات التاريخية التي يصعب على كل دول العالم حتى التي اختلفت معه او ناصبته العداء كأمريكا وحركات التحرر والشعوب المضطهدة والمظلومة،أن تتنكر لكل ما حققه من منجزات وما تركه من إرث وتاريخ نضالي طويليين، حيث كان له حضوره الطاغي في كل المناسبات والإحتفالات التي تقيمها فصائل وقوى المقاومة وحركات التحرر،تسترشد بفكره وتستلهم تجربته وتتشرب قيمه ومبادئه،والنهج الذي اختطه واختاره لتحرير كوبا أرضاً وإنساناً من ظلم وطغيان الإقطاعية والرأسمالية المتوحشة والمتغولة،والتي حولت سكان جزيرة كوبا الى مجرد عبيد وخدم،في ظل حالة من الفقر والجوع المدقعين،،نعم انتصر كاسترو وحفنة من الثوريين المالكين للإرادة والمتسلحين بالأمل والمؤمنين بعدالة قضيتهم على نظام "باتيستا" الديكتاتوري عام 1959،وليقوموا جمهورية اشتراكية،تصبح رمزا وعنواناً ومثالاً يحتذى به،لكل دول أمريكا اللاتينية على وجه الخصوص،ولكل المطالبين بالحرية والعدالة والخلاص والإنعتاق من نير الإستعمار والظلم والطغيان،ولعل الثورة الفلسطينية وخاصة قواها اليسارية،كانت تنظر بمهابة شديدة لهذا القائد الثوري،والذي أصبح بفكره وتعاليمه وتجربته،بمثابة الهادي والنبراس لها،ولذلك توثقت أواصر وروابط العلاقة بين كوبا في عهد كاسترو والثورة الفلسطينية،فكوبا حتى ما قبل الثورة كانت الدولة الوحيدة في أمريكا اللاتينية التي وقفت ضد قرار تقسيم فلسطين،ولتتطور تلك العلاقة للمستوى الإستراتيجي بين الثورة الفلسطينية بكل مكوناتها ومركباتها السياسية،وبين قادة الثورة الكوبية،حيث دعيت منظمة التحرير الفلسطينية لحضور إحتفالات كوبا بالثورة عام 1970 ،ومن ثم جرت مصادرة محتويات المركز الثقافي الصهيوني عام 1972 في هافانا والذي استخدم لبث سموم الدعاية الصهيونية ضد شعبنا وثورتنا الفلسطينية،ولتصل الأمور الى حد قطع العلاقة مع دولة الإحتلال في التاسع من أيلول عام 1973، وعلى الرغم من شحة وضعف إمكانيات كوبا بفعل الحصار الأمريكي الذي فرض عليها،إلا ان كوبا لم تكن الى جانب شعبنا وثورتنا معنوياً فقط،بل دعمت ثورتنا بالسلاح والتدريب والدورات العسكرية،والمنح الدراسية للطلبة الدارسين في كوبا.
بإنتصار الثورة الكوبية على يد كاسترو ورفاقه الشيوعيين،أدركت أمريكا بان حدود الثورة لن تكون فقط داخل الأراضي الكوبية،بل هي مثل النار في الهشيم ستمتد لتطال كل دول أمريكا اللاتينية ،تلك القارة التي تشكل حديقتها الخليفة،وهي بمثابة المزرعة لها،تنهب خيراتها وثرواتها،ويقف على رأس دولها أنظمة مغرقة في الديكتاتورية والإستغلال والتعفن والفساد،تخدم مصالح أمريكا وأهدافها هناك،ولذلك سعت مباشرة ومن بعد إنتصار الثورة الكوبية الى فرض حصار اقتصادي شامل على كوبا،من اجل إسقاط كاسترو وحكومته الشيوعية،عبر زعزعة امن واستقرار كوبا الداخلي من خلال الدعم العسكري والمالي للقوى المضادة للثورة،ومن خلال تململ وتمرد الجماهير الكوبية على كاسترو وثورته،بسبب الفقر والحصار،ولكن تلك الجماهير رأت في هذا القائد الثوري بمثابة المنقذ والمخلص لها،وقفت الى جانبه وساندته،لأنها رات فيه الوفاء والإخلاص والمنقذ والمخلص لها والمعبر عن همومها وطموحاتها في التخلص من إستغلال ونهب قوى الإقطاع والرأسمالية واللصوص،وهي لمست التغيير الكبير على حياتها من خلال ما أقره واتخذه كاسترو من قرارات وإجراءات من شأنها تغيير واقعهم الإجتماعي،ورفع مستوى معيشتهم وتحسين شروط وظروف حياتهم الاقتصادية،من خلال مجانية التعليم والصحة ودورات محو الأمية،وتأميم الشركات والمصانع الكبرى.
كاسترو عندما قاد الثورة مع رفاقه كان متشرباً لمبادئها،مؤمناً بانها قاطرة للتغيير،وأي تراجع عن ذلك يعني الإنتحار وضياع المشروع الثوري وحتى اندثاره،ولذلك بقي صامداً وثابتاً على مبادئه ولم تتسرب إليه ما تسرب الى الزعماء والحكام العرب،الذين تحمي أمريكا عروشهم وتسلطهم على رقاب شعوبهم بالحديد والنار،عقدة "الإرتعاش" السياسي المستديم في التعامل معها،لم تهزه لا ازمة خليج الخنازير والتهديدات الأمريكية بإجتياح كوبا،فهناك من الحلفاء من وقفوا الى جانبه وبالذات الإتحاد السوفياتي،وليستمر الحصار الأمريكي لأكثر من خمسين عاماً،دون ان يقدم كاسترو ورفاقه أي تنازل لا على الصعيد السياسي او المواقف،او التراجع عن القرارات والإجرءات الاقتصادية الداخلية،او التوقف عن التحريض على أمريكا وعدوانيتها ،بل وجدنا بان أفكار وتعاليم ومبادئ كاسترو تزهر في أكثر من دولة من دول أمريكا اللاتينية،وحتى في دول القارة الأفريقية "غانا وغينيا بيساو ..الخ،والتي أرسل لها كاسترو جنوداً وأسلحة للمساهمة في ثورتها،لإيمانه وقناعاته بتصدير الثورة.
لم يغير قناعاته ومبادئه أو مواقفه كحال العديد من فصائلنا واحزابنا العربية والفلسطينية،التي مع اول هزة غادرت قناعاتها ومواقفها وتحولت من النقيض الى النقيض،حتى ان البعض منها ادان تاريخه، خمسين عاماً لم يتراجع،لكي تعلن أمريكا عن تراجعها عن مواقفها وحصارها لكوبا،تلك هي المواقف التي تحترم وتجبر الاخر على إحترامها،وليس الميوعة السياسية أو الخوف والإرتجاف والهزيمة من الداخل،عبر استدخال ثقافة "الإستنعاج " والهزائم وتصويرها بأنها طرق واقعية من اجل إسترداد الحقوق وصون وحماية الأمن القومي العربي،تلك السياسة التي لم تجر على شعبنا وامتنا سوى المزيد من الذل وإمتهان الكرامة وضياع الحقوق والإستعباد، حتى أصبح الجميع طامع في امتنا.
كما صمدت كوبا،صمدت ايران في الحصار خمسة وثلاثين عاماً،لم تتراجع عن حقها المشروع في إمتلاكها لبرامج الطاقة النووية،فرض عليها حصار اقتصادي ومالي وتجاري ودبلوماسي امريكي واوروبي استعماري غربي ظالم،بمشاركة العديد من البلدان العربية،ولكن القيادة الإيرانية بقيت ثابتة على مواقفها وحقها في إمتلاك الطاقة النووية،لكي تتراجع أمريكا ودول الغرب الإستعماري المجرم عن مواقفها،وتوافق على توقيع اتفاق مع ايران يضمن حقها في استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية،مع رفع للعقوبات عنها بأشكالها المختلفة.
نعم رحل كاسترو جسداً،ولكن كغيره من العمالقة الثوريين عبد الناصر،تيتو هوشي منه،جياب، ماوتستنغ،مانديلا،حبش ،أبا عمار، تشافيز وبومدين،وتلك القائمة الطويلة من الثوريين،ستبقى مبادئهم وكلماتهم ومقولاتهم حية وخالدة عند أتباعهم ومريديهم وكل المضطهدين والمظلومين،وكل التواقين للحرية والإستقلال،الثوريون راحلون جسداً خالدون فكراً ومبادئاً وأرثا ونهجاً.
بقلم/ راسم عبيدات