ثق بالله تنل "قصة"

بقلم: سلامة عودة

توجه إلى عمله في مصنع ، وغلالة سوداء تخيم على فكره ، يريد أن يتعلم ويحطم بوتقة الجهل ، لكن الظروف المادية تنشب بأظفارها في سيرورة حياته ، تناول زوادة الصباح ، وهو يفكر في مستقبله الذي رمى به في خضم العمل ولما يشتد عوده ، ما عساه يفعل .
ما لبث أن صادف في طريقه عمال يشاطرونه العنت والتعب ، ويسردون على مسامعه مأساتهم ؛ لأنهم لم يتعلموا ، راشقينه بعبارات تلتهب جمرا ، بقولهم : لقد ضيعت نفسك ، واخترت العمل على العلم .
شط به الخيال ، واستحضر المشهد : إنني لم أفزع للعمل ، إلا لضيق ذات اليد ، فأبي شيخ هرم يتقاضى مبلغا زهيدا لا يفي بقوت العيال ، صحيح أنني حاصل على معدل عال يؤهلني للدراسة في أية جامعة ، ولكن الظروف تحكم أحيانا .
كان متعلما حتى الثانوية العامة ، وحاصل على درجة الأوائل ، وله منحة ، ولكن تلك المنحة لا يحظى بها إلا بعد إتمام فصل دراسي ، ومن أين له كي يلتحق ، لا بد من الدين .
حمل زوادته ، ويمم شطر العمل بهمة ونشاط ، وهو يرسم مستقبلا ، لا بد أن يناله بإذن الله ،توجه إلى المصنع ، استقبله صاحب المصنع بفتور ، لكنه تعالى على جراحه ، وانخرط يمسح قضبان الألمنيوم التي تطلى بالطلاء الكهربائي ، وأعجب صاحب المصنع بمهارته في العمل ، فقد تعلم ربط الرزم بالطريقة النابلسية التي تقوم على ربط علب الحلوى ، بسرعة ومهارة .
لمح صاحب المصنع ، من خلال مراقب العمل أن هذا العامل الذي يعمل ثماني ساعات، لديه قدرة على إدارة العمل من على ماكنة صقل آلية إن تدرب عليها .
ُنقل العامل ليتدرب على الماكنة ، وصدق ظن المراقب فيه ، ما جعله يطلب إليه أن يعمل ساعات إضافية ، بواقع عشر ساعات يوميا ، فلم يرفض والأمل يقوده في جمع المال ليتغلب على فقره ، ويكمل دراسته التي حرم منها .
بات يتقاضى مبلغا كبيرا ، لكن صاحب المصنع ولشدة إعجابه بعمله طلب إليه أن يعمل ساعات إضافية أخرى تصل إلى الساعة التاسعة مساء ، نزل الخبر بردا وسلاما عليه ، وأخذ يتقاضى راتبا رائعا ، توجه تلقاء المصرف كي يفتح حساب المستقبل .
أصبح لديه مبلغ من المال ، وأخذ يفكر في التعليم ، لكن الجامعات مغلقة الأبواب ، ولا تعطي سوى تعويض لمساق أو اثنين في عمارات خارج الجامعة ، فالاحتلال قد أطبق فكيه وأغلق الجامعات ، والانتفاضة الأولى في أوجها .
نظر إلى والده ،وقال : ألا تود زيارة أخواتي في الأردن ، سر أبوه بالخبر ، وقد أومأ إليه بإصبعة ، في إشارة إلى الحاجة إلى الأموال ، تبسم وقد استل جزدانه ، وانتقده المال ، والهدايا وقال له : على بركة الله توجه للزيارة ، ولكنّ لي شرطا لا بد منه ، هذه شهادة الثانوية العامة ، قدم بتقديم طلب التحاق بالجامعات الأردنية ، لم يرفض الأب الطلب ، وهو يدرك أن دراسته في الأردن مكلفة ، بيد أنه نزل عند رغبة ولده .
عاد الأب من السفر ، و قدم له بطاقات تدل على تلبية الطلب ، لكن الأمل بعيد كل البعد .
قدم طلبة الثانوية العامة امتحاناتهم ، وخرجت النتائج ، وقد اشترطت الجامعات الأردنية في تلك السنة 1990 م على الطلاب تجاوز الخامسة والتسعين معدلا يؤهلهم للالتحاق ، وهنا مات في نفسه طموح الدراسة ، وعاد أدراجه إلى المصنع ، لا يلوي على شيء ، سوى ندب الحظ العائر .
وإذا باتصال تلفوني يأتيه من صديق قد انهى الثانوية العامة ، يبشره بقراءة اسمه في الصحيفة اليومية وأنه مقبول في الجامعات الأردنية ، تقبل الخبر بشيء من الهزل ، لكن صديقه ، سرعان ما أحضر له الصحيفة ليقرأها بنفسه ، لم يصدق الخبر ، وأبرق إلى مديرية التربية للتحقق من الخبر .
وقف أمام مدير التربية ، وهو غير مصدق ، ما حدا بالمدير أن يطلب إليه الهدوء، ثم شرع يقول : لقد تسلم وزارة التربية في الأردن وزيرا جديدا ، ومن توصياته تجاه أهله في الضفة الغربية إضافة إلى المعدل العالي ، طلب الأوائل من سنة 1986م وحتى 1990 م، تحت منحة خاصة ، وقد كنت من الأوائل فشملتك المنحة ، مبارك .
عاد غير مصدق ، وراح يحزم أمتعته ، والأموال التي حصل عليها من العمل ، ليعلن أن من يثق بالله ينل .