اليوم، يعقد مؤتمر حركة فتح السابع، وبالرغم من أنه مؤتمر انتخابي بامتياز إلّا أنّ هناك قضايا ستطرح نفسها عليه بقوة، ويتوقف الحكم على نتائجه فيما إذا كان خطوة إلى الأمام، أو إلى الخلف، أو البقاء في نفس المكان، من كيفية تعامله مع هذه القضايا.
إن أهم هذه القضايا المطروحة – إذا وضعنا النظام الداخلي جانبًا على أهميته - البرنامج السياسي لحركة فتح. فبعد وصول برنامج أوسلو إلى طريق مسدود، في ظل انغلاق آفاق استئناف المفاوضات وما سمّي زورًا وبهتانًا "عملية سلام"، وفي ظل التنافس بين الإسرائيليين بين برامج تتفاوت بين ضم الضفة مع سكانها أو من دون سكانها، أو ضم بعض سكانها من الفلسطينيين المستعدين للأسرلة، وبين من يكتفي بالمطالبة بضم مناطق (ج)، وسط خلاف بينهم أيضًا هل الضم يكون مع سكانها أو بعضهم أو من دونهم، وبين من يفضل الوضع الراهن وما يعنيه من استمرار الضم الزاحف إلى حين الوصول للحظة المناسبة للضم الرسمي، وبين من يوافق على "دولة" مؤقتة على جزء من الضفة الغربية، أو على إقامة هذه الدولة في غزة وضم جزء من سيناء لها حتى تستوعب الفلسطينيين من مناطق أخرى، وبين من يريد انفصالًا من جانب واحد، أو إقامة الدولة الفلسطينية في الأردن، أو إشراك الأردن في التحكم بالسكان الفلسطينيين، بينما تبقى الأرض تحت السيادة الإسرائيلية.
لا يكفي أن يكرر البرنامج السياسي ما سمعناه من الرئيس محمود عباس وعدد من قيادة "فتح" طوال السنوات الماضية عن ضرورة إعادة تحديد العلاقة مع إسرائيل، وتكرار التمسك بقرارات المجلس المركزي حول وقف التنسيق الأمني وغيره من تلك القرارات التي ستمر الذكرى الثانية على اتخاذها وبقيت حبرًا على ورق، حتى لم نعد نسمع الأصوات المطالبة بتنفيذها في القريب العاجل.
لم يعد ينطلي على الشعب الفلسطيني الحديث عن اعتماد مسار جديد يستند إلى التدويل والمقاومة الشعبية والمقاطعة وأولوية المصالحة ويروج للإنجازات الكبرى، في وقت ما زال فيه المسار القديم هو المهيمن، والحديث عن المسار الجديد مجرد تكتيك للضغط لإعادة إنتاج المسار القديم نفسه كما هو أو بتحسينات طفيفة لا أكثر، وفي وقت ما زال فيه الانقسام مستمرًا ويتعمق أفقيًا وعموديًا، وفي ظل تهميش القضية وضياع القدس والأرض، وتجاوز المؤسسات وتهميشها، وتآكل الشرعيات، وتغليب المصلحة الفئوية والفردية على المصلحة الوطنية العامة.
كما أصبحت المقاومة الشعبية شعارًا يردد للاستهلاك الشعبي وليس للتنفيذ ضمن خطة، والمقاطعة مقزمة ورمزية ومحدودة وتستخدم للتكتيك ومشروطة بألّا تمس بشرعية إسرائيل، بينما يستخدم التدويل والانضمام إلى المؤسسات الدولية، بما فيها محكمة الجنايات الدولية، للتهويش من دون تفعيل حقيقي.
نعم، الوضع صعب، وليس الوقت مناسبًا لتجسيد الدولة وتحقيق إنجازات كبرى، وما هو متاح هو الصمود والحفاظ على التواجد البشري الفلسطيني على أرض فلسطين وإحباط المخططات والبدائل الإسرائيلية، وهذا لا يمكن من دون استعادة الوحدة الوطنية على أساس القواسم المشتركة والديمقراطية التوافقية التي تنسجم مع الشرط الاستعماري الذي تعيشه فلسطين، وعلى أساس مشاركة سياسية حقيقية في التمثيل واتخاذ القرار، وعلى وضع إستراتيجية سياسية كفاحية تقوم على تحديد هدف وطني جامع قابل للتحقيق، واعتبار قرار السلم والحرب وجميع القرارات المصيرية شأنًا وطنيًا لا يقرر بشأنه الرئيس وحده، ولا مجموعة أفراد أو فصيل، وإنما تبحث وتتخذ ضمن مؤسسة وطنية جامعة ينبثق عنها قيادة وطنية موحدة، تنطلق من مراجعة التجربة واستخلاص الدروس والعبر التي أهمها الخروج من خيار أوسلو وعدم الاكتفاء بالحديث، أو التهديد، بالخروج منه، وضمن هذه الإستراتيجية تحتل المقاومة والمقاطعة حجر الأساس الذي من دونه لا يمكن للتحرك السياسي أن يحصد شيئًا، وإنما يقودنا من تنازل إلى تنازل أفدح منه، ومن مصيبة إلى كارثة.
نقطة أخرى ستفرض نفسها على مؤتمر "فتح"، وهي العلاقة بين الحركة والسلطة، وبين السلطة والمنظمة. وعلى المؤتمر أن يحدد: هل ستبقى "فتح" حزب السلطة، وبالتالي لن تقوى على فتح الطريق لخيار آخر يتجاوز اتفاق أوسلو والتزاماته، أم ستعود حركة تحرر وطني وتتعامل مع مهمات بنائية وديمقراطية بسبب وجود السلطة، ولكن على أساس العمل لإعادة النظر بطبيعة السلطة وشكلها ووظائفها والتزاماتها لتكون سلطة خدمية مجاورة للمقاومة، وتكون أولوياتها توفير مقومات الصمود، على أن تنقل كل مهماتها السياسية للمنظمة بعد إعادة بناء مؤسساتها على أسس جديدة تأخذ الحقائق والمستجدات والخبرات المستفادة والمتغيرات بالحسبان، على أساس قناعة بأن ما يجمع الفلسطينيين لا يزال أكبر وأعمق مما يفرقهم، بسبب الظروف الخاصة بكل تجمع بعد عشرات السنين من المرور في ظروف مختلفة تفتح الطريق لتباين في الاحتياجات والأولويات.
كما لا بد أن تكون السلطة سلطة تعيد الاعتبار للقضاء بعد أن تم القضاء عليه، وتكافح الفساد، وتعيد النظر في موازنتها لتلبية احتياجات الصحة والتعليم والإنتاج الوطني ومكافحة الفقر والبطالة ودعم الفئات الضعيفة والمهمشة والمعرضة لمصادرة الأراضي والاستيطان وهدم المنازل والحصار ... إلخ. وأداة لخدمة البرنامج الوطني ومنظمة التحرير، وإلا تستمر بوصفها سلطة حكم ذاتي دائمة يغطي وجودها على تطبيق السيناريوهات الإسرائيلية المطروحة.
ويوجد أمام مؤتمر "فتح" مسألة أخرى تتعلق بمعالجة الأضرار الناجمة عن فصل وإقصاء اعداد من الكوادر والعناصر من المحسوبين على محمد دحلان واعداد ممن لا علاقة لهم به. فكان ولا يزال يمكن التفريق بين دحلان والمحسوبين عليه، ففتح كانت ويجب أن تتسع لآراء وتيارات متعددة، وهذا ما ميّزها سابقًا وجعلها حركة الشعب الفلسطيني.
وكذلك أمام مؤتمر "فتح" تحديًا يتعلق بمعالجة الأضرار في العلاقات الفلسطينية مع عدد من الدول العربية من أطراف ما سميت "اللجنة الرباعية العربية"، فلا يمكن التعامل مع مسألة بهذه الأهمية بخفة وعدم مسؤولية، مع أهمية الاحتفاظ بالقرار الفلسطيني المستقل الذي لا يعني التخلي عن العرب ولا يتعارض مع عدم أخذ مخاوف الأشقاء والجيران، وتحديدًا ممن يتأثر سلبًا أو إيجابًا بما يجري في فلسطين أو بين الفلسطينيين، فلا يمكن أن تستمر الفوضى ومقدمات الفلتان الأمني والانقسام المرشح لانقسامات جديدة، وربما اقتتال داخلي، في الضفة وفي أماكن تواجد الشعب الفلسطيني، لأن ما يجري عندنا سيلقي بتداعياته على مصر والأردن والعرب جميعًا، لذا لا مانع من تدخلهم لإنقاذ الوضع الفلسطيني بشكل عام، وليس لخدمة شخص أو مجموعة أشخاص.
إنّ أسوأ ما يمكن أن يقرره مؤتمر "فتح" عقد المجلس الوطني بعد شهر، لأن هذه الدعوة الانفرادية من دون تشاور وتنسيق مع العرب، ومن دون تحضير فلسطيني تشارك فيه مكونات المنظمة ومن هم خارجها من فصائل وقطاعات ومجموعات مختلفة ومتنوعة؛ تعني عقد مجلس وطني تحت حراب الاحتلال، الأمر الذي يحرم عددًا كبيرًا من أعضائه القدامى أو الجدد من الحضور حتى لو أرادوا ذلك، ويجعله مجلسًا بمن حضر، وهذا يحوّل المنظمة إلى فصيل أو فريق صغير، بينما هي من أهم إنجازات الشعب الفلسطيني التي يجب المحافظة عليه، من خلال أن تبقى الممثل الشرعي الوحيد له، وما يقتضيه ذلك من إعادة بناء شاملة لمؤسساتها ودوائرها، فلا يكفي مجرد ضم فصائل، ولا الإصلاح والتفعيل.
إذا مضت "فتح" بعقد المجلس الوطني بمن حضر، فهذا سيفتح الباب لمزيد من التدخل الإسرائيلي في الشأن الفلسطيني، ولعودة الوصاية العربية التي يمكن أن تبدأ بعقد مؤتمر موازٍ لمؤتمر "فتح" وآخر موازٍ للمجلس الوطني. فالدعوة المسؤولة لعقد مجلس وطني ضمن الوصول وعلى أساس توافق وطني فلسطيني سيمنع دعوات عربية للحوار الوطني من دون تنسيق مع القيادة الفلسطينية، وتجاوزًا للمؤسسات أو لما تبقى منها.
وهذه الدعوات إذا حدثت يعني أن هناك من سيلبي الدعوة، وهناك من يرفضها، وهذه وصفة مضمونة للمزيد من الشرذمة والانهيار وفقدان الكيانية الفلسطينية الواحدة، فهل نتعظ قبل فوات الأوان؟ وهل يتحرك الشعب صاحب المصلحة بالحفاظ على قضيته الوطنية وحقوقه ومصالحه، أم نبقى نسير ضمن براثن المسار الذي قادنا ولن يقود سوى إلى التهلكة والكارثة المحدقة؟
هاني المصري
2016-11-29