حملت الأخبار قرار شروع الجيش اللبناني في بناء جدار إسمنتي عازل بطول ستة أمتار حول مخيم عين الحلوة، لكن عادت وحملت قرار تجميد البناء في الوقت الحالي. إن مجرد التفكير في بناء جدار عازل حول أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان يثير أكثر من علامة إستفهام حول الهدف من وراء ذلك القرار المريب وتوقيته والجهة التي تقف وراءه وتموله وتخطط لاستثماره والاستفادة منه على المستويين السياسي والأمني. كما أن الحجة التي سيقت في تبرير بناء الجدار وهي حماية الطريق الدولي وخاصة قوافل الأمم المتحدة لا تنطلي على أحد، إذ إن المخيم يربض في مكانه منذ عام 1948 ولم نسمع أنه تحول إلى مركز لتصدير العصابات المسلحة بل كان مصدر إلهام وإبداع لكثير من الكتاب والروائيين والرسامين وظل ينتج في أحشائه "زعترا ومقاتلين" وشعبا أمينا على ذاكرة الوطن الذي ولد في أبنائه ولم يولدوا فيه.
الواضح أن ظاهرة بناء الجدران حول الفلسطينيين انتقلت عدواها من الكيان الاستيطاني الاحلالي العنصري إلى بعض دول الجوار الذين تطوعوا لتشييد جدران تغوص عميقا في أحشاء الأرض وتحتضن المياه لإلغاء إمكانية حفر الأنفاق فرارا من السجن الإنساني الأكبر. كما أن الكيان وهو يكمل بناء جدار الفصل العنصري في فلسطين المحتلة قرر مرة ثانية أن يقلد إبداعات الجار العربي فيحفر جدارا آخر تحت الأرض أولا ثم يرتفع شاهقا على طول الحدود مع غزة كي يلغي أيضا إمكانية حفر الخنادق التي قد تعود بشلاليط جدد.
سر العداء للمخيم الفلسطيني متأصل في مسامات جلد النظام العربي لأنه يرفض النسيان ويعمل مولدا متجددا للذاكرة الجماعية الحية لشعب اقتلع من أرضه بغير حق ويأبى المساومة. فلا يكاد يستثنى نظام عربي واحد من التضييق على المخيم في دول الجوار.
لبنان والقوانين الجائرة
ما ينطبق على كثير من الدول العربية بالنسبة لفلسطين لا ينسحب على لبنان. فالتداخل بين البلدين تاريخيا لا مثيل له، فالأرض والعائلات والعادات والفولكلور تكاد جميعها تكون إمتدادا لبعضها البعض. فالكثير من العائلات اللبنانية تملك أراضي وأملاكا وعقارات في فلسطين. وتجد حتى اللحظة عمارة في وسط حيفا تملكها عائلة لبنانية معروفة وأراضي مرجع بن عامر كان بعض أصحابها لبنانيين يعيشون في بيروت. وكان شباب لبنان يأتون إلى حيفا بحثا عن عمل حيث كانت تعتبر أكثر مدن المتوسط ازدهارا وجذبا للعمالة الأجنبية. بيروت أيضا كانت أكثر مدينة تنجذب إليها النخبة الفلسطينية للدراسة خاصة في الجامعة الأمريكية. التزاوج بين الشعبين هو الأكثر انتشارا بين أي بلدين عربيين متجاورين وكم من العائلات اللبنانية تجد امتداداتها في فلسطين والعكس صحيح.
بقيت الأمور حميمية بين البلدين إلى أن حلت النكبة بالشعب الفلسطيني فاضطر الآلاف إلى اللجوء إلى الدول المجاورة ومن بينهم من استقر في لبنان ووزعوا على 12 مخيما وأعطيت مسؤولية رعايتهم لوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). كانت مفارز "المكتب الثاني" في تلك الفترة تمسك المخيمات من أعناقها حيث اعتبرت الطبقة الحاكمة أن الوجود الفلسطيني أصبح تهديدا لمكونات المجتمع اللبناني. وأجمعت النخب اللبنانية في حينها على ألا يتم دمج الفلسطينيين في المجتمع اللبناني حيث حرم أبناء المخيمات من العديد من التسهيلات والخدمات والوظائف وفي الوقت نفسه منحت الجنسية اللبنانية بطريقة انتقائية لشرائح معينة قليلة من الفلسطينيين وخاصة الأثرياء.
تغيرت أوضاع الفلسطينيين في فترة الثورة بعد توقيع إتفاق القاهرة عام 1969 ولغاية الخروج من لبنان عام 1982. بعد ذلك صدرت العديد من القوانين التي في ظاهرها تهدف إلى تنظيم العلاقات مع الأجانب لكن في جوهرها موجهة ضد الفلسطينيين بالتحديد.
لقد وضعت قوانين في لبنان تخص الفلسطينيين تتعلق بالعمل وحرية التنقل والسكن وحق الملكية والمقاضاة وحق ممارسة المهن الحرة والتجمع والاعتصامات السلمية وغيرها الكثير. لكن أود فقط أن أذكر ببعض تلك القوانين الجائرة التي تنتهك أبسط حقوق الإنسان:
قوانين العمالة – أصدرت وزارة العمل مرسوما وزاريا عام 1964 يحمل الرقم 17561 يقصر المهن في لبنان على اللبنانيين ووضعت لائحة من 70 مهنة ممنوعة على الفلسطينيين. ثم أصدرت السلطات اللبنانية القرار 189 عام 1982 والذي أقر منع الفلسطينيين من ممارسة 60 مهنة توسعت لتصل إلى 75 عام 1983. فالمهندس الفلسطيني يعتبر عاملا عاديا والطبيب يمارس مهنته في عيادات الأونروا أو الهلال الأحمر الفلسطيني. والفلسطيني يحتاج إلى رخصة عمل لممارسة أي مهنة لكنه يحرم من أي مردود تقاعدي أو ضمانات اجتماعية رغم إسهامه في المردود القومي. والحصول على إذن العمل أمر في غاية الصعوبة، ففي عام 2009 أصدرت وزارة العمل 261 رخصة عمل من مجموع طلبات وصلت إلى 145,679. ورغم صدور بعض القوانين التخفيفية عام 2005 ثم 2010 إلا أن أوضاع اللاجئين الفلسطينيين ما زالت مزرية إلى هذا اليوم حيث يعـيش 81% منهم في فقر مدقع. ولولا المساعدات التي تقدمها الأونروا وتشمل 95% من اللاجئين لحدثت كارثة إنسانية محققة.
قوانين التنقل – كان هناك العديد من القيود التي تقيد حركة الفلسطينيين داخل البلاد وخارجها، وخاصة في الفترة بين 1948 و 1969 ثم بين 1982 و 1998. وكانت المخيمات شبه معازل والحركة مقيدة وتتطلب رخصة تؤخذ من المكتب الثاني. وقد صدر قانون عام 1994 لا يسمح لحملة وثائق السفر الصادرة عن لبنان بالعودة إلى ديارهم إلا بالحصول على إذن خاص ثم ألغي من بعد. ودائما تستعمل السلطات اللبنانية حجة التمسك بحق العودة ورفض التوطين وكأن إصلاح بناء غرفة إضافية قرب بيت الصفيح الذي تسكنه عائلة من خمسة أفراد سيؤدي إلى التوطين.
حق الملكية – وكان معمولا به لغاية عام 2001 حين أصدر البرلمان اللبناني القانون رقم 269 المنشور رسميا يوم 4 أيار/مايو 2001 والذي يحرم الفلسطيني من أي حق في التملك وينص القانون في مادته الأولى على "لا يجوز تملك أي حق عيني من أي نوع كان لأي شخص لا يحمل جنسية صادرة عن دولة معترف بها أو لأي شخص إذا كان التملك يتعارض مع أحكام الدستور لجهة رفض التوطين". واعتبر هذا القانون نوعا من التمييز العنصري غير المبرر خاصة وأن لبنان كان من بين الدول التي صاغت "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" وأنه يتفاخر بالانضمام إلى العديد من الاتفاقيات الدولية المناهضة للتمييز.
علاقات معقدة ومتناقضة
قد لا يكون من بين الشعوب العربية من حمل السلاح من أجل فلسطين أكثر من اللبنانين ولا من احتضن الثوة الفلسطينية مثل اللبنانيين ولا من انخرط مع الفصائل الفلسطينية وقاتل معها ووجه سلاحه إلى لبناني آخر مثل اللبنانيين. لقد عاش لبنان عامة والجنوب خاصة مرحلة نهوض وانكسار الثورة الفلسطينية، دافع عنها وحماها وساهم في إلحاق الهزائم بالكيان الصهيوني. لكن هناك فئات أخرى من اللبنانيين ارتكبت مجازر بحق الفلسطينيين ودمرت مخيماتهم وحاصرت أخرى إضطر معها الأهالي أن يسفوا تراب الأرض أو يأكلوا حيواناتها. لقد وجد في لبنان من يقول "إن الفلسطيني الجيد هو من يكون تحت التراب لا فوقه" ولكن أيضا وجد في لبنان من يقول "إذا كنتم فلسطينيين بالمولد فنحن فلسطينيون بالانتماء".
لقد امتزجت الدماء الفلسطينية واللبنانية في كافة معارك الشرف والكرامة كما سفكت الدماء الفلسطينية واللبنانية من قبل أعداء الأمة وخونتها وانعزالييها. ولذلك فإن قدر الشعبين أن يستمرا في المسيرة التصالحية والتحالف ضد الكيان معا وحل المسائل العالقة بالحوار بما يضمن كرامة الفلسطينيين وحقوقهم المكتسبة وأمن لبنان وسيادته.
ودعني في النهاية أذكر أن للفلسطينيين أفضالا عديدة على لبنان لا ينكرها إلا متعصب أو جاهل. فقد حمل الفلسطينيون بعد النكبة ثرواتهم إلى لبنان واستثمروا أكثر من 15 مليون جنيه إسترليني فيه أي ما يعادل مليار دولار في قيم اليوم، أدت إلى الانتعاش الاقتصادي وأن انهيار ميناء حيفا ساهم في تنشيط ميناء بيروت وإغلاق مطار اللد أدى إلى توسيع مطار "بئر حسن" المتواضع كما يحول الفلسطينيون في الخارج ما قيمته 368 مليون دولار سنويا إلى لبنان. أنشأ الفلسطيني يوسف بيدس أول بنك في لبنان وهو الذي أنشأ كازينو لبنان. وأقام الفلسطينيون في لبنان أول مصنع للملابس الجاهزة وأول شركة تدقيق حسابات وأول محلات سوبر ماركت وأول من قاد طائرة جمبو لخطوط الشرق الأوسط اللبنانية فلسطيني وأول من رفع علم لبنان على القطب الجنوبي الفلسطيني اللاجئ جورج دوماني وكاد عدد الفلسطينيين الخريجين من الجامعة الأمريكية يضاهي عدد اللبنانيين، لمع منهم الكثيرون أمثال حسيب الصباغ وإحسان عباس ومحمد يوسف نجم وبرهان الدجاني ونقولا زيادة. هذا عدا عن عدد كبير من الصحافيين والكتاب وفرق الدبكة والمسرح ويكفي أن نذكر بالموسيقار العظيم حليم الرومي الذي أطلق على نهاد حداد لقب "فيروز". ألا يكفي كل هذا التداخل من توفير الأجواء الإيجابية لبناء الجسور بين الشعبين المبدعين بدل التفكير في إقامة جدران العزلة وسن القوانين الجائرة؟
د. عبد الحميد صيام
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة رتغرز بنيوجرسي