تفجير الكنيسة البطرسية والمسيحيون العرب

بقلم: فايز رشيد

تفجير إرهابي مؤلم وقبيح، ذلك الذي حصل أثناء قدّاس ديني في الكنيسة البطرسية في القاهرة، وقد ذهب ضحيته 25 من المصلّين، أغلبهم من النساء والأطفال. التفجير يعيد إلى الأذهان تفجيرات سابقة، كالذي حصل عام 2011، عندما استهدف تفجير إرهابي كنيسةً في الإسكندرية، وحوادث أخرى مشابهة.
وكلها تهدف إلى تخريب النسيج الاجتماعي للشعب المصري، على أساس ديني هذه المرة، بين المسلمين والمسيحيين المشرقيين (الأقباط) الذين هم إخوة أحباء لنا، لم يكن تاريخهم، إلا جزءا مهما من تاريخنا العربي الموغل في الحضارة والتاريخ.
بالطبع، فإن وضع دولنا وجماهيرنا العربية، في أسوأ أحواله، إن في افتقاده للحد الأدنى من التكامل، في أجواء من تفشي التفكك وتعمق القطرية، إلى افتقاد حتى مشروع مشترك للأمن القومي، بغض النظر عن التنافر الحاصل بين دوله، ونفتقد مشروعا نهضويا عربيا من المفترض وجوده، انسجاما مع متطلبات العصر. إن أحد أوجه المؤامرة الحالية، هو إشعال الصراع بين المسيحيين والمسلمين، وهو ما دأب عليه الكيان الصهيوني منذ إنشائه وحتى اللحظة. نعم، إن الصراعات البينية العربية الحالية، لم تلحق ضرراً بالدول العربية التي تشتعل فيها هذه الصراعات حسب، ولا بتغييب الصراع الرئيسي مع العدو الصهيوني فقط، وإنما تسهم بإلحاق أفدح الضرر بالقضايا العربية ككل، وبالاستحقاقات الشعبية العربية، كاستحقاق الديمقراطية على سبيل المثال لا الحصر، إلى جانب خلخلة النسيج الاجتماعي الداخلي للشعوب العربية في أقطارها، الأمر الذي سيحتاج سنوات طويلة، لعودة هذه البلدان إلى ما كانت عليه، قبل بدء الصراع فيها، وبالتالي، فإن الأضرار والكوارث والمآسي تلحق بالأمة العربية قاطبة.
من أشد هذه التداعيات، الضرر الذي يلحق بالمسيحيين العرب واستهدافهم كمكون رئيسي من مكونات المنطقة العربية. ورغم كرهي الشديد للخوض في ما، قد يُفهم بأنه قضايا طائفية، لكن للواقع أحكامه! ومع الكره الشديد أيضاً، لإلقاء تبعة ما يحصل على نظرية المؤامرة، التي لا تشكل نظرية من الأساس، بقدر ما هي مزاج سياسي عاجز عن التحليل السببي للحدث، إلاّ أن جزءاً من الصحة ينطبق على هذه النظرية! والجزء الآخر يعود إلى التحليل السببي بالتأكيد. كان لافتاً للنظر، التصريح الذي أدلى به الرئيس جورج بوش الابن بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، بأن ما سيقوم به "هو حملة صليبية" جديدة، ضد ما سماه بالإرهاب الدولي. بالمقابل فإن أسامة بن لادن، أعلن في تصريح قديم له، "الجهاد ضد الصليبية والمسيحية". من جانب آخر، فإن كثيرين من سياسيي الغرب ومفكريه، مثل بريجنسكي، هنتنغتون، كيسينجر وغيرهم، يؤكدون في كتاباتهم، على ارتباط المسيحية العربية بالغرب، لذا فمن وجهة نظرهم، فإن المسيحية في المشرق العربي، هي ظاهرة غريبة على العرب، وينكرون بالتالي عروبة المسيحية، من خلال عزلتها وادعاء غربيتها، أو يحاولون تصويرها بأنها "دخيلة ومستوردة على البلاد العربية".بالمقابل، فإن جزءاً لا يستهان به من بعض الكتّاب والمحللين والإيديولوجيين العرب، إضافة الى بعض الحركات الاسلامية، ترى مثل هذا الارتباط العضوي وتؤكده.
في السياق نفسه، تجيء تصريحات غربية كثيرة تعمل على إقحام الدين بالسياسة، من خلال الدعوة إلى حماية المسيحيين العرب عبر تهجيرهم إلى الغرب. مثلما حوّلت إسرائيل الدروز في منطقة 48 رسمياً إلى قومية أخرى غير عربية. الكيان بدوره دخل على الخط، فهو يخطط لمسح عروبة المسيحيين العرب في منطقة 48. لقد أعلنت إسرائيل عن استعدادها لاستقبال كل المهاجرين المسيحيين أو المُهجّرين من الحرب في سوريا. نعم، الكيان وكما أعلن رئيسه ريفلين، بصدد تشريع مجموعة من القوانين، تسعى لإسقاط عروبة المسيحيين، ، وتوزيعهم الى طوائف، واختلاق قومية جديدة لهم، تماماً مثلما فعلت مع الدروز العرب.
إن ما يجري من تفرقة مؤخراً، بتقسيم المجتمعات العربية إلى طوائف وأديان ومذاهب وإثنيات، لا يخدم إلا العدو الصهيوني. وبالفعل، فإن العديد من الطروحات التي تقسّم الأمة العربية إلى سنة وشيعة ومسيحيين، بمختلف جماعاتهم تلتقي بشكل واضح مع ما يريده الكيان الصهيوني. ويبقى القول إن أمتنا العربية وأهلنا في المنطقة المحتلة عام 1948 أوعى من التعامل مع هذه التقسيمات، التي تهدف إلى تخريب النسيج الاجتماعي لأبناء أمتنا ولأهلنا الفلسطينيين في منطقة 48.
إن المسيحية هي إحدى الظواهر العربية، كما تبين الأحداث التاريخية، وأبحاث كثيرة، نشأت في فلسطين والمشرق العربي، ويسمي البعض المسيحية بـ "النبتة الوطنية العربية، التي ظهرت ونشأت في التربة الوطنية العربية"، وفقا لجورج حداد. في ما بعد، تم نقل مركز القرار المسيحي إلى روما، في عهد الإمبراطورية الرومانية البيزنطية. لا يستطيع أحد إنكار دور المسيحيين العرب في النهضة العربية، منذ القرن التاسع عشر وحتى اللحظة. ولا دورهم الأساسي في الحركة القومية العربية، ولا في الثقافة العربية، باعتبارها، المفهوم الأشمل من العقيدة الدينية، ولا في الحضارة العربية، التي تعتمد على البنية المؤسسة في حياة الشعوب. وأيضاً في حركة التحرر الوطني العربية، بمعنى أن المسيحية هي إحدى البوتقات الأولى لظهور حركة القومية العربية. وعلى الرغم من اتفاقي المطلق مع ما يصل إليه المفكر العربي جورج قرم في كتابه القيم "انفجار المشرق العربي"، وفيه يتحدث، عن استحالة كتابة التاريخ العربي من منظور الدولة القطرية، فأيضاً من الضروري التأكيد على أن بعض الاتجاهات الغربية، وانطلاقاً من مبدأ (تغريب المسيحية في العالم العربي)، ترى أيضاً أن فلسطين هي قضية إسلامية، من خلال الترويج للصراع بأنه صراع ديني، وفي الأساس إسلامي الوجه ضد القضية اليهودية المدعومة، لأسباب عقيدية من المسيحية. وفي الرد على هذا الادعاء وإنصافاً للحقيقة، نقول:
لقد شكّل المسيحيون العرب ما يقارب الـ50٪ من عدد سكان مدينة القدس، وفقاً لإحصائية 1922. وقد استشعر المسيحيون العرب، الخطر الصهيوني منذ نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين (كتابات الأب هنري لامنسي اليسوعي، كتاب نجيب العازوري بعنوان: يقظة الأمة العربية، صدر في باريس في عام 1905، الذي بيّن بوضوح، حقيقة الصراع العربي الصهيوني، وهذا على سبيل المثال لا الحصر). دعونا نذكّر منع البابا شنودة منذ احتلال 1967، للأقباط. حتى وفاته، من الحج إلى فلسطين المحتلة، ومنع الذهاب إلى القدس ما بقيت تحت الاحتلال الصهيوني. وكان يؤكد في كل تصريحاته على، أن الأقباط لن يدخلوا القدس إلا مع إخوانهم المسلمين، وظل هذا الموقف قائماً، رغم اتفاقيات كامب ديفيد السيئة الصيت والسمعة، التي أخرجت البلد العربي الأكبر والأهم من مجمل عملية الصراع مع العدو الصهيوني.، منذ توقيع الاتفاقيات حتى اللحظة.
لقد شارك المسيحيون العرب في كل الثورات الفلسطينية، بدءاً من التظاهرات، وصولاً إلى المقاومة المسلحة (ثورة البراق، والثورة الفلسطينية الكبرى). لم تميز بريطانيا بين المناضلين المسلمين والمسيحيين الفلسطينيين. فبعد مقتل حاكم لواء الجليل اندروز في اكتوبر عام 1937، قامت سلطات الاحتلال (الانتداب) البريطانية، بنفي بعض أعضاء اللجنة العربية (مسلمين ومسيحيين) إلى جزيرة سيشيل.
المسيحيون العرب هم جزء رئيسي من مكونات أمتنا العربية، والتاريخ الإسلامي يدعو إلى الحفاظ على المسيحيين، وليس أدل على ذلك من العهدة العمرية، ورفض الخليفة عمر بن الخطاب، الصلاة في كنيسة القيامة، خوفاً من استغلال الحادثة في ما بعد من قبل بعض المسلمين، لإقامة مسجد في المكان الذي صلى فيه عمر. وللعلم فإن مفاتيح الكنيسة مازالت مودعة منذ القدم، لدى عائلة مسلمة. هذا هو التعايش الحقيقي بين المسيحية والإسلام، وليس كما تفهمه القوى الظلامية، التي يُطلق عليها خطأ الأصولية "الإسلامية". فللإسلام تعاليم واحدة، إنسانية، تعايشية، عقيدية، تحترم خصوصيات الأديان الأخرى، أما هذه القوى الظلامية فبعيدة كل البعد عن الإسلام.

ان الظلم الممارس على الشعوب العربية، أيّاً كان شكله وحقيقة ممارسيه، لم ولا ولن يفرق بين مسيحي ومسلم. إن العنف المذهبي الطـــــــائفي لا يطال ديناً معيناً، أو إثنية محددة دون غيـــــــرها، بل يطال بنات وأبناء كل الأديان، ويطال المذاهب المتعددة في الدين الواحد. كلنا يذكر، كم عانى ويعاني إخوتنا وأخواتنا من أهلنا الأحباء في العراق وغيره من الدول العربية، على هذا الصعيد. فلنعزز من الوحــــدة الإسلامية المسيحية، لمواجهة كل المخططات والمؤامرات، التي تستهدف أمتنا الواحدة، ولنعمل على إسقاطها بكل ما أوتينا من قوة.

د. فايز رشيد

٭ كاتب فلسطيني