في الذكرى الثانية لاستشهاده زياد أبو عين .. عاشق القضية وشهيد الوطن

بقلم: عبد الناصر فروانة

  لم يُلمح لي من قبل أن مخزون عطائه قد أوشك على النفاذ، وأن مسيرة نضالاته قد أوشكت هي الأخرى على الانتهاء، أو أن يداه ستُكبل الى الأبد ولن تقاوم وقلبه الكبير اقترب من السكون الأبدي. فكان خبر استشهاده كالصاعقة على رأسي، ولم اصدق بأن زياد قد استشهد.

استشهد وهو يقاوم الجدار العنصري وغول الاستيطان، ويدافع عن الأرض وهويتها الفلسطينية، ويواجه الاحتلال وعدوانه وهمجيته، ويقاوم ويقاوم من أجل حرية شعبه واستقلال وطنه الفلسطيني المُحتل بصدره العاري وكلمته الصادقة ويداه فارغتان من أي سلاح قاتل، أو حتى من السلاح الشعبي كالحجارة مثلا.

 

بأي دمع أبكيك يا أخي المناضل، وبأي الحروف أرثيك يا صديقي العزيز، وبأي الكلمات سأوفيك حقك يا من ذقت مرارة السجن لعشر سنوات وما يزيد،  وأي العبارات تلك التي يمكن أن تعطيك حقك يا زميلي في هيئة شؤون الأسرى والمحررين(وزارة الأسرى سابقا) لسنوات طوال، ورفيق مشوار طويل خضناه سويا في الدفاع عن الأسرى وحقوقهم. فكنت خير من مثلهم وتحدث باسمهم وبالنيابة عنهم، واشهد أن بعض الأوروبيين قد ذرفت عيونهم دمعا وأنت تعرض معاناة الأسرى على مسامعهم حينما توجهنا سويا لزيارة بعض العواصم الأوروبية.

 

زياد أبو عين اسم يعرفه الجميع، لمناضل فلسطيني عريق، وقائد فتحاوي جريء. اسم لثائر تجده في كل مواقع الاشتباك والمواجهة، وأسير سابق كان قد تردد على السجون الأمريكية والاسرائيلية عدة مرات، ليمضي بين جدرانيها  أكثر من عشر سنوات. ومناضل عشق الوطن فامتلك سيرة نضالية حافلة بالعطاء، فيها من المحطات ما تجعلها هامة وتستحق التوقف أمامها والتأمل بها، وقدر له أن تُختتم مسيرة حياته بالشهادة. وما أروع الشهادة.

الشهادة هي التضحية، والتضحية هي ما يبذله المرء في سبيل غيره، وزياد ضحى بالكثير من أجل شعبه ووطنه المسلوب، وتقدم الصفوف في مقاومة الاحتلال من أجل تحقيق الحلم المنشود بالحرية والاستقلال وتقرير المصير واقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف. فدفع حياته ثمنا لتمسكه بمبادئه وقناعاته وثوابت شعبه، وقرباناً للحرية.

 

زياد أبو عين، ومنذ أن جمعتنا وزارة الأسرى والمحررين أوائل العقد الماضي، تعاملت معه كثيرا وتهاتفنا مرارا، وتحدثنا في هموم الوطن والمواطن والأسرى مطولا، والتقيت به أكثر من مرة خارج حدود الوطن، في أوسلو وباريس وهولندا، وفي القاهرة وبيروت والجزائر، وآخر تلك اللقاءات كانت في العاصمة العراقية بغداد خلال مشاركتنا في المؤتمر الدولي الذي نظمته جامعة الدول العربية في مثل هذه الأيام من عام 2012.

اتفقت معه كثيرا، واختلفت مرارا مع مواقفه، على قاعدة ان الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، فنشأت وترسخت بيننا علاقات أخوية وصادقة، وسارت دوما نحو مزيد من التلاحم، فتعززت أواصر العلاقة وبات التواصل باستمرار وبشكل دائم. وصراحة كان لديه من الاخلاص لقضية الأسرى ما يفوق بأضعاف ما هو متوفر لدى آخرين كُثر من المحررين والمسؤولين.

لم تكن تربطني به أية علاقة قبل إنشاء وزارة الأسرى وعملي بها، ولم يسبق لي أن سمعت باسمه قبل الثاني عشر من آب/أغسطس من عام 1979 حينما تمكن الأف بي آي، بالتعاون مع السي أي بي من اعتقاله في الولايات المتحدة الأمريكية واحتجازه في سجن شيكاغو، بناء على طلب إسرائيلي، وذيع صيته بعد ان قررت المحكمة الأمريكية تسليمه لإسرائيل في الثامن والعشرين من كانون أول/ ديسمبر من نفس العام، ولمع اسمه أكثر في سماء الحركة الوطنية الأسيرة بعد ان اقتادوه رجال المخابرات الأمريكية في الثاني عشر من ديسمبر/ كانون أول عام 1981 من سجن شيكاغو إلى مطار عسكري داخل أمريكا ونقلوه بطائرة خاصة الى إسرائيل، لينتقل بذلك قسرا من سجن شيكاغو الأمريكي، الى سجون تتبع الاحتلال الإسرائيلي، مقامة فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة. وبذلك يكون أول فلسطيني يسلم علانية وبقرار من القضاء الأمريكي الى إسرائيل. فتتحول قضيته إلى قضية عالمية، وعلى اثر تداعياتها اتسع التفاعل الإعلامي مع قضية الأسرى على المستويين الاقليمي والدولي، وازدادت مساحة وحجم التضامن مع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية والقضية الفلسطينية التي يدافعون عنها ومن أجلها ناضلوا واعتقلوا .

 

   وكانت احدى المحاكم العسكرية قد أصدرت بحقه بتاريخ 14/6/1982، حكما بالسجن المؤبد (مدى الحياة)، وبعد عام ونيف كان زياد على موعد مفترض مع الحرية، إذ أدرج اسمه ضمن المفرج عنهم في إطار صفقة التبادل عام 1983، إلا أن سلطات الاحتلال تحايلت على الأمر ونجحت في اعادته الى غرف سجونها، إلا أن صفقة التبادل الشهيرة عام 1985 كانت كفيلة بإنهاء فترة سجنه رغما عن الاحتلال، وضمنت إطلاق سراحه وعودته الى اهله وبيته في رام الله. لينتقل من جديد إلى ساحة النضال الأرحب ، ويمارس واجباته في مقاومة الاحتلال، ونتيجة لنشاطه أعيد اعتقاله أكثر من مرة، ليمضي أكثر من عشر سنوات في سجون ومعتقلات الاحتلال الإسرائيلي.

 

    وبعد أوسلو وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية في الرابع من مايو/آيار 1994 ، تبوأ مناصب قيادية عديدة داخل حركة فتح، آخرها عضو المجلس الثوري لحركة فتح، كما وعمل وتبوأ منصب وكيل وزارة الأسرى والمحررين لسنوات طويلة، قبل أن ينتقل منها في الثالث من أيلول/سبتمبر 2014 ويتسلم منصبه الجديد رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان بدرجة وزير. ومنذ ذلك التاريخ نجح بجهوده المتواصلة وحضوره الدائم في جعل قضية الجدار والاستيطان، حاضرة وحية. وأحدث حراكا غير مسبوق على هذا الملف الهام.

 

زياد أبو عين.. قتلوك بدم بارد، في العاشر من ديسمبر عام 2014، في يوم كان يحيي فيه العالم الذكرى السادسة والستين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ذلك الاعلان الذي يؤكد على احترام حق الإنسان في الحياة وفي حريته وأمنه وكرامته وقدسية الحياة الإنسانية، وكفل للبشرية جمعاء، دون تمييز، حياة تتمتع فيها بالكرامة والحرية والأمن والأمان، كجوهر لكرامة الإنسان. فيما تعتبر دولة الاحتلال الإسرائيلي نفسها فوق القانون الدولي، وتُصر بذلك على مصادرتها لحقوق الإنسان الفلسطيني، واقتراف المزيد من جرائمها بحق الفلسطينيين، دون رادع أو حسيب. وما زال ذلك اليوم الذي تُحاسب فيه دولة الاحتلال ينتظر القدوم.

 

)ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا(

--

 

 

 

بقلم/  عبد الناصر عوني فروانة

رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى