لا تشوهوا صورة الإسلام الذي اعطى للطفل كامل حقوقه التي تحفظ حياته

بقلم: علي ابوحبله

الشريط المصور الذي يظهر والد الطفلة التي جرى تفخيخها وتفجيرها في قسم شرطة الميدان في دمشق الأسبوع الماضي، وهو يفاخر بإرسال ابنته لتنفيذ عملية انتحارية. الفيديو يظهر المكنى عبد الرحمن شداد تجهيزها لتنفيذ العملية برفقة شقيقتها، ووفق المعلومات فإن والد الطفلتين عنصر سابق في جبهة النصرة

هذا العمل الإجرامي تشويه لصورة الإسلام ويعد عمل إجرامي بحق الطفولة فقد اهتمَّ الإسلام بالإنسان اهتماماً بالغاً، وظهر ذلك واضحاً جلياً في الاهتمام بكل مراحل حياة الإنسان، فاهتمَّ الإسلام بالإنسان جنيناً ورضيعاً وصبياً وشاباًّ ورجلاً وشيخاً.

ويُعَدُّ الاهتمام بالإنسان في كل مراحل حياته وعمره من المعالم والسمات البارزة في أحكام الإسلام وتشريعاته ونظمه ، وقد كان هذا الاهتمام منبعثاً من اهتمام آخر، وهو الاهتمام بالطفولة والطفل؛ لأن الطفولة هي مرحلة الإنشاء والتأسيس للإنسان، فكان الاهتمام به طفلاً من أجلِّ صور الرعاية والعناية به.

ولم يكن الاهتمام بالطفولة والطفل في الإسلام وليد تأثر بفكرٍ اجتماعي سابق أو معاصر لظهور الإسلام، ولم يكن أيضاً تطوراً لنظريات ورؤى فكرية تحاول التعامل مع مكونات التجمع البشري رجاء تحصيل أفضل ظروف معيشية له.

بل جاء اهتمام الإسلام بالطفولة والطفل أنموذجاً فريداً مبهراً لكل من حوله، وأدلة ذلك التفرد الذي يكشف عن أصالة الاهتمام بالطفل وحقوقه في الإسلام كثيرة، منها :

أ) مكانة الطفل في البيئة التي ظهر فيها الإسلام :

لقد كان الطفل إبان ظهور الإسلام يُعَدُّ من ممتلكات أبيه وله أن يفعل فيه ما يشاء، ويظهر هذا جلياّ في ظاهرة وَأْدِ العرب فيما قبل الإسلام للبنات، وقد رصد القرآن ذلك بصورة واضحة فقال تعالى :{وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}(3).

وكان العربيُّ يتعامل مع الأطفال كما يتعامل مع ما يملك من أنعام، فقد انتشرت بين العرب في الجاهلية قبيل ميلاد الحبيب محمد صلى الله عليه و سلم ظاهرة النذر بذبح الأولاد إذا رزق الرجل بعشرة من الأولاد.

فهكذا يذبح الرجل ولده كما يذبح الشاة تقرباً للآلهة، فهل هناك أسوأ من هذا السلوك؟.

بل كان العرب أيضاً لا يعيرون اهتماماً للطفولة والطفل في مرحلة قراره في بطن أمه جنيناً، بل كانوا يعتبرون الأجنة أشياء لا قيمة لها حتى إن التعدي عليها لا يُعدُّ جُرْماً يستحق فاعليه العقاب، ويظهر هذا جليّاً في حادثة المرأة التي ضربت أخرى فأسقطت جنينها فعرضت الحادثة على النبيِّ صلى الله عليه و سلم فقضى بغرة عبد أو أمة، فقام من يدافع عن الجانية بقوله : كيف بمن لم يستهل، ولا شرب ولا أكل، ومثل ذلك دم يطلَّ.

فقد كان العرب لا يعرفون للجنين والطفل بصورة عامة قيمة، فجاء الإسلام ليؤصِّلَ منهج الرحمة والرأفة وذلك بإعطاء كل ذي حق حقه، وكان في مقدمة من أعطاهم الإسلام حقوقهم الأطفال الذي نالوا من الحقوق والرعاية ما لم ينله الأطفال في أي نظام آخر على النحو الذي سيأتي بيانه في هذا البحث.

ب) كثرة الأحكام والتشريعات التي أتى بها الإسلام فيما يخصُّ الطفل :

المتأمل في أحكام الإسلام وتشريعاته يجدها قد اشتملت على كثير من الأحكام المتعلقة بالطفولة، مما دفع بعض علماء المسلمين إلى أن يحاولوا جمع هذه الأحكام كما فعل صاحب كتاب(4) “الجامع لأحكام الصغار”، والإمام بن القيم في كتابه “تحفة المودود في أحكام المولود”، فقد جمع الأخير الأحكام الخاصة بالمولود فقط. وهذه الكثرة في الأحكام والتشريعات الخاصة بالطفل التي جاء بها الإسلام والتي تتصف بالتفرد تمنع أن يكون الإسلام قد تأثر فيها بغيره من النظم أو النظريات.

ج) لم تكن هناك نظم راشدة عند ظهور الإسلام ليتأثر بها في نظرته للطفل :

والتاريخ يشهد أن الإسلام عندما ظهر لينشر نوره على العالم كله لم يكن هناك مشروع حضاري واحد يمكن أن يكون نهجاً يسار عليه، فقد كانت أوروبا تعيش في عصور مظلمة انهارت فيها جهودها الحضارية وارتدت إلى ألوان مختلفة من الجاهلية والتخلف وسطوة اللامعقول على أبنائها.

فأي مشروع حضاري تشتمل ضمن آلياته آلية الحفاظ على حقوق الطفل قد تأثر به الإسلام أو طوره؟.

إن الحقيقة التاريخية تؤكد أن الإسلام جاء متفرداً لينشئ عالماً جديداً للطفولة والطفل، ذلك العالم الذي يعطي الطفل حقوقه كاملة باعتباره إنساناً محترم الحقوق.

المبحث الثاني: شمولية التشريعات الإسلامية الخاصة بالطفل لكل جوانب حياته.

إن التشريع الإسلامي عندما نظر للطفل على أنه إنسان كامل الحقوق استوعب كل مناحي وجوانب حياة الطفل كما استوعب كل جوانب حياة الإنسان.

والمتأمل في الشرع الإسلامي الشريف يجد هذا واضحاً جلياً؛ لأنه سيجد التشريع الإسلامي قد أعطى الطفل حقوقه الجسدية والنفسية والمالية والتعليمية والتربوية بأفضل صور الرعاية والمحافظة عليها.

فمن كفالة التشريع الإسلامي لحقوق الطفل الجسدية جعل الرضاع نفقة واجبة على والد الطفل المولود فقال تعالى : { وَعَلى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } (5).

وجعل الرضاع حقّاً للولد على أمه فأمرها الشرع الشريف بالرضاع في قوله تعالى : { وَالوَالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ }(6). فحق الطفل في الرضاع حافظ عليه التشريع الإسلامي حفاظاً عظيماً من كل جوانبه فقد أمر المرضع بالرضاع وأمر ولي أمر المولود أن يوفر للمرضع ما يضمن لها صحتها من أجر وكسوة حتى تتمكن من القيام بواجب الرضاع.

وهناك صور كثيرة من التشريعات والأحكام التي جاء بها الشرع الشريف فيما يحققُ الحفاظ على الحقوق الجسدية للطفل سيأتي ذكرها في هذا البحث في مواضعها.

وأمّا كفالة الحقوق النفسية للطفل فقد قدم التشريع الإسلامي الأنموذج الأكمل في رعايتها، ومن أمثلة ذلك :

ما روي من أحاديث في تقبيل الأولاد حتى أفرد علماء السنن والمصنفات الحديثية المصنفة على الأبواب أبواباً لهذا المعنى(7) ومن هذه الأحاديث ما رواه البخاري(8) من حديث أبي هريرة ــ رضي الله عنه ـ قال : (قبل رسول الله صلى الله عليه و سلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع : إنّ لي عشرةَ من الولدِ ما قبلتُ منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثم قال :(من لا يَرحم لا يُرحم(.

فهذا رسول الله صلى الله عليه و سلم نبيُّ الرحمة يجعل تقبيل الأولاد ورحمتهم سبباً لرحمة الله.

ولاشك أن النبي صلى الله عليه و سلم : عندما يقول :(من لا يَرحم( أي من لا يراعي نفسية الأطفال بالعطف عليهم والرحمة بهم فإن جزاءه أن يطرد من رحمة الله.

ومن المعلوم أن تقبيل الأطفال له أثره العظيم في نفسية الأطفال؛ ولذا فعله النبي صلى الله عليه و سلم وأرشد إليه كما سبق أن بيناه.

وهناك منظومة متكاملة لرعاية حقوق الطفل النفسية سيأتي ذكرها بما يتفق وسياق عرض الأفكار في هذا البحث.

وأما كفالة حقوقه المالية فقد أعطى الشرع الشريف الطفل حقه في التملك وجعل له ذمة خاصة تقبل التملك، ومن ذلك أن الشرع الشريف أثبت حق الأطفال في الميراث فقال تعالى : { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ للِذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } (9)، والولد الذكر أو الأنثى يستحق الميراث سواء أكان طفلاً أم كبيراً.

ولا يحق لأحد أن يتعلل بصغر سن طفل ليمنعه حقه في الميراث، بل يعد هذا المنع من تَعدّى حدود الله.

ولقد كان الطفل في الإسلام إنساناً كامل الحقوق منها الحفاظ على معاني الملكية والحيازة والتملك، وما ذكرناه كان أنموذجاً واضحاً لموقف الإسلام من تملك الأطفال وظهر منه إعطاء الإسلام الحق الكامل للطفل في أن يحفظ له حقه في الميراث.

وأما كفالة حقوقه التعليمية والتربوية فالإسلام كما هو معروف دين علم منذ لحظة ظهوره فقد كانت أول آية نزلت على الرسول صلى الله عليه و سلم آية تدعو للعلم من خلال أهم مصادره فقال تعالى : { اقرَأ باسْمِ رَبِّكَ الَّذي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ منْ عَلَق، اِقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } (10).

فهذه الآيات أول ما نزل من القرآن مصدر التشريع الرئيسي في الإسلام وهي آيات كلها دعوة للعلم.

ولقد كانت الحقوق التعليمية مكفولة لكل أفراد المجتمع المسلم ومن بينهم الأطفال بل كانت هناك أوامر مباشرة صريحة بتعليم الأطفال مثل قوله صلى الله عليه و سلم (علموا أولادكم الصلاة لسبع(.

ففي هذا الحديث يأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم الأمة بتعليم الأطفال في سن مبكرة.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم الأسوة الحسنة خير من يقوم بكفالة الحقوق التعليمية وأدائها ويظهر هذا في أمثلة كثيرة منها قيامه بتعليم ابن عباس رضي الله عنهما فقد قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : (يا غلام إني معلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك فلن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف(.

وأما الحقوق التربوية للطفل فهي ثابتة في الشرع الشريف، فللطفل الحق في الإسلام من قِبَلِ والديه أو أوصيائه أو غيرهم من المسؤولين عنه في تربية مستقيمة تتمشى مع مصالحه وإمكاناته وقدراته.

ولقد جعل الشرع الشريف للطفل حقاً على مؤسسات المجتمع ومنها الدولة في العمل على المحافظة على حقوق الطفل التربوية بأمر الشرع لأولياء الأمر في الأمة بمنع إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وذلك ليساعد في بناء المجتمع الأخلاقي السليم.

ولقد جعل الشرع الشريف من أوَّليات التربية تعليم الطفل قواعد الإيمان وذلك كما ورد في سؤال الرسول صلى الله عليه و سلم للجارية : (أين الله((11).

وفي تعليمه لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بعض قواعد الإيمان وهي الإيمان بالقضاء والقدر وقدرة الله العلي العظيم في تصريف كل أمور الخلق كما في الحديث السابق ذكره.

وكذلك جعل من أوليات التربية تعليم الطفل وتدريبه على عبادة الله وحده وعلى طاعته كما سبق ذكره في حديث (علموا أولادكم الصلاة لسبع(.

ومن هذه الأوليات أيضاً تأديبه بمكارم الأخلاق الشخصية والاجتماعية كما في حديث : (يا غلام سمِّ الله وكُلْ بيمينك وكُلْ مما يليك((12).

وكذلك يظهر هذا جليّاً في حديث عائشة ــرضي الله عنها ــ فقد قالت : جاءتني امرأة معها ابنتان تسألني، فلم تجد عندي غير تمرة واحدة، فأعطيتها فقسمتها بين ابنتيها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي صلى الله عليه و سلم فحدثته، فقال : (من ولي من هذه البنات شيئاً فأحسن كُنَّ له ستراً من النار((13).

فالإحسان المذكور في الحديث يشمل إحسان التأديب والتعليم كما أشار إليه شراح الحديث.

ومما سبق ذكره يعلم أن الإسلام اتصف في تشريعاته وأحكامه المتعلقة بحقوق الطفل بشمول كل جوانب حياته الجسدية والنفسية والمالية والتعليمية والتربوية.

المبحث الثالث : تأييد حقوق الطفل في الإسلام بالدين والأخلاق والقضاء

لقد أحاط الشرع الشريف حقوق الطفل بسياج من المؤيِّدات تعمل على الحفاظ عليها وثباتها وعدم المساس بها، وذلك ليضمن استجابة كل أفراد المجتمع باختلاف ميولهم واتجاهاتهم للدعوة للحفاظ على حقوق الطفل، ومن هذه المؤيِّدات لحقوق الطفل :

أ) الدين :

فقد أيد الدين الإسلامي التشريعات التي جاء بها الشرع الشريف في مجال حقوق الطفل بجملة من الأحاديث التي تعمل على حث أفراد المجتمع المسلم على الحفاظ على حقوق الطفل، وذلك بالتبشير بالثواب العظيم لمن يرعى هذه الحقوق، فمن ذلك ما ذكرته سلفاً من حديث عائشة وفيه قول النبي صلى الله عليه و سلم (من ولي من هذه البنات شيئاً فأحسن كنَّ له ستراً من النار(.

وكذلك حديثه : (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين ـ وأشار بالسبابة والوسطى((14).

فالوازع الديني في هذا المجال هو حجر الزاوية الذي يسبغ عليه صفة التكليف الإلهي واجب الامتثال.

ب) الأخلاق :

فقد أيدت مكارم الأخلاق التشريعات الإسلامية في مجال حقوق الطفل ؛ لأن الإسلام جاء متمماً لمكارم الأخلاق، ولذا كانت تشريعاته مؤيدة بمكارم الأخلاق، ومن ذلك تشريعاته في مجال حقوق الأطفال ومن ذلك ما جاء به الشرع الشريف من الأمر باستئذان الأطفال عند الدخول على الغير في أوقات الراحة والاسترخاء لكي لا يطلع الأطفال على ما يخدش حياءهم من العورات فقال تعالى : { يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنَكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَات لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّافُون عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآياتِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }(15).

فهذه الآية تحافظ على إرساء خلق الحياء في المجتمع المسلم، وبهذا تأمر الأطفال بالاستئذان وتأمر أولياء أمورهم بتعليمهم ذلك؛ لأن الخطاب في أول الآية وُجِّه لأولياء الأمور مما يكشف عن جعل الإسلام هذا الخلق أحد الحقوق التربوية للأطفال.

ولاشك أن الأخلاق الكريمة والحميدة تؤيد كل ما كان من شأنه الحفاظ على الحياء، ومن ثم كان إعطاء الإسلام الأطفال حق الحفاظ على حيائهم مؤيداً بالأخلاق.

والنماذج كثيرة في ذلك لا يتسع المقام لذكرها.

ج) القضاء :

لقد جاء النظام القضائي الإسلامي ليعمل أيضاً على تأييد وتأكيد الحفاظ على حقوق الطفل، فنجد القضاء في الإسلام يعمل على التحقق عند انفصال الوالدين أيهما أحق بالحضانة للطفل حتى يحافظ على حق الطفل في الحياة المناسبة.

وكذلك يلزم القضاء الأب عند الفرقة بدفع نفقة الرضاع للأم ليحافظ على طبيعة الرضاع حقاً من حقوق الطفل الأولية.

وكذلك يؤخر القضاء إقامة الحد المزهق لنفس الأم إذا كانت حاملاً أو مرضعاً حتى تضع حملها وتفطمه محافظة على حق الطفل في الحياة.

والأحكام القضائية الإسلامية مليئة بالتأييدات لحقوق الطفل؛ لأن القضاء هو التنفيذ العملي لأحكام الشريعة التي جاءت بأرقى منهج للحفاظ على حقوق الطفل.

المبحث الرابع : الطفل في الإسلام أمانة في يد المسؤول عنه.

الطفل في الإسلام وديعة أودعها الله الأبوين؛ ولذا فعلى الأبوين أن يقوما بما يحفظ عليه سلامته وأمنه؛ لأنه أمانة عندهما وهذا ما نجده ظاهراً في نصوص الشرع الشريف في الكتاب والسنة، فتارة يقرن مسؤولية حماية الوالدين لأنفسهما بحماية الأهل بما فيه الأولاد فيقول تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ }(16).

وتارة يؤكد النبي صلى الله عليه و سلم على هذه المسؤولية بقوله صلى الله عليه و سلم : (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، الرجل راع في بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها((17).

فالإسلام يحمل الوالدين مسؤولية حفظ الأولاد ويجعل هذه المسؤولية هي أساس مسؤوليات الآباء، وفي ذلك يقول صلى الله عليه و سلم : (إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حَفِظَ أم ضَيَّعَ، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته(.

فمثل الحديث عن مسؤولية الوالدين عن الأبناء يرسم الصورة الصحيحة للعلاقة بين الوالد وولده وهي أن الولد عند والده أمانة سيسأل عنها الوالد، وليس ملكاً له يتصرف فيه كيف يشاء؛ لأن معنى أن الوالد مسؤول عن رعيته أن تصرفاته موقوفة على ما أذن الشرع له بالتصرف من تأديب وتهذيب فقط، أما التصرف تجاه الأولاد والأبناء كأنهم عبيد للآباء فهذا ما لا يقره الشرع الشريف.

المبحث الخامس : الأحكام والتشريعات المتعلقة بحقوق الطفل تحقق مصلحته

لقد جاءت تشريعات الإسلام بصفة عامة محققة لمصلحة الإنسان الصحيحة المؤكدة وليست الفاسدة ولا المتوهَّمة، ومن ثَمَّ جاءت التشريعات الخاصة بالطفل في الإسلام تحقق مصلحة الطفل أيضاً وكل من يطالع هذه التشريعات يتأكد من هذا المعنى.

فعندما يأمر الشرع الشريف الزوجين بحسن الاختيار فإنما يأمرهما بذلك لمصلحة الأولاد وذلك بأن ينشأ الأولاد في بيئة أسرية مستقرة.

وعندما يأمر بالرضاع للمولود يكون ذلك لمصلحة الطفل والحفاظ على صحته الجسدية، وعندما يأمر بتعليم الطفل في سن صغيرة العبادة وطاعة الله فهو يحافظ على الصحة النفسية والسلامة الفكرية للطفل.

فيظهر مما سبق أن الإسلام في التشريعات الخاصة بالطفل كان محققا لمصلحة الطفل.

وقد اتفقت المواثيق الدولية لحقوق الطفل في هذا الشأن مع التشريع الإسلامي، وخاصة الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة في سنة 1990م وخاصة في مادتها الثانية التي أوضحت أن مصالح الطفل الفُضْلََى يكون لها الاعتبار الأول في جميع الإجراءات الخاصة به(18).

الفصل الثاني :

حقوق الطفل في الإسلام

تمهيد :

لقد كانت حقوق الطفل في الإسلام شاملة لكل احتياجاته الإنسانية من احتياجات جسدية وفكرية ونفسية، كما كانت أيضاً شاملة لمراحل حياته المختلفة منذ وجوده في بطن أمه جنيناً حتى يصبح رجلاً يتحمل مسؤولية طفل آخر أو مؤهلاً لذلك.

ولقد كانت التشريعات الإسلامية المنظمة لحقوق الطفل كثيرة ومتشعبة؛ ومن الممكن عرضها من خلال هذين المبحثين :

المبحث الأول : وهو يعالج حقوق الطفل في الإسلام قبل ولادته.

المبحث الثاني : وهو يعالج حقوق الطفل في الإسلام بعد ولادته إلى سن الرجولة

وهذا تفصيل الكلام في هذين المبحثين :

المبحث الأول : حقوق الطفل في الإسلام قبل ولادته

حقوق الطفل في الإسلام تبدأ قبل زمن ولادته، بل تبدأ قبل زواج الوالدين وهذا ما سنذكره في النقاط التالية :

1. حق الطفل في إحسان اختيار والديه في الإسلام :

لقد جعل الإسلام حسن اختيار الوالدين كل منهما للآخر حقاً للطفل، ولذا أمر كلا منهما بإحسان اختيار الآخر، بل وضع قواعد ومعايير تحقق هذا الحسن في الاختيار، وهذه القواعد نستطيع إجمالها في العناصر التالية :

أ) الاختيار على أساس الدين :

ونقصد بالاختيار على أساس الدين أن يكون الاختيار على أساس الفهم الصحيح والحقيقي للإسلام والتطبيق العملي السلوكي لكل فضائله السامية وأخلاقه الرفيعة والالتزام الكامل بمنهجه الشرعي ومبادئه الخالدة على كل حال.

فعندما يكون الزوجان أو المريدان للزواج على هذا المستوى من الفهم والتطبيق والالتزام يمكن أن نطلق عليهما أنهما ذوا دين وخلق.

وهذا الفهم مع التطبيق والالتزام هو ما قصده النبي صلى الله عليه و سلم الهادي إلى السبيل المستقيم صلى الله عليه و سلم عندما قال :(تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك((19).

وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه و سلم وضع القاعدة الأولى من قواعد حسن الاختيار للزوجة وهي الاختيار على أساس الدين.

وقد أرشد إلى هذه القاعدة أيضاً في حق الزوج فقال صلى الله عليه و سلم (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض((20).

فقد قدَّمَ الرسول صلى الله عليه و سلم اختيار الزوجين على أساس الدين على كل مسوِّغات الاختيار الأخرى؛ وذلك لأن الاختيار على أساس الدين من أهم ما يحقق للزوجين سعادتهما الكاملة المطمئنة ويحقق للأولاد الظروف التربوية المستقرة لتربية فاضلة ينعم فيها الأولاد بالطمأنينة والأمان الاجتماعيين، ويتحقق لأسرتهم الشرف الثابت والاستقرار المنشود.

ب) الاختيار على أساس الشرف والأصل :

فقد جاء في الحديث السابق ذكره أن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر أسساً للاختيار منها (الحسب) فقال صلى الله عليه و سلم (لحسبها(.

وقد يتصور القارئ غير المتأمل لهذا الحديث أن النبي يرفض أن يُختار الزوج أو تختار الزوجة إلا على أساس الدين، وهذا فهم سقيم للحديث، بل الصواب في فهم هذا الحديث أن النبي يوجه المسلمين إلى أن لا يقصدوا شيئاً من الحسب أو المال أو الجمال لذاته ولو على حساب ضعف الدين، إنما عليهم أن يقصدوا ذات الدين أولاً، ولو توفر في ذات الدين الحسب أو الجمال الباهر أو المال الكثير فذلك أفضل، لكن شيئاً من ذلك لا قيمة له إن لم يقترن بالدين.

ولاشك أن الشرع الشريف عندما قبل أن يكون الأصل والحسب أساسين من أسس اختيار الزوجين فقد كان ذلك لحكمة بالغة يمكن أن نستشفها من خلال معرفتنا بأن تجارب الحياة الكثيرة تقطع بأهمية البيئة والوراثة في الأخلاق، حيث يبدو أن شيئاً من الأخلاق والصفات النفسية يورث في صورة استعداد عضوي له.

ولذا كان اختيار الزوجة والزوج طيبي الأصل والناشئين في عائلة متدينة شريفة يساعد الزوجين على الاتصاف بالأخلاق الكريمة مما يساعد على توفير الظروف المستقرة لحياة أولادهما فيما بعد.

ج) الاختيار على أساس الملاحة والجمال :

فينبغي أن تكون الزوجة على قدر من الملاحة والجمال بحيث تعجب زوجها ويرضى بها، وليس في هذا الجانب قدر محدود عند جميع الناس يتفقون عليه، حيث يتفاوت الناس في تقديرهم شيئاً ما، ولكن هناك مقاييس عامة في الجمال يتفق الناس عليها، ولكن الجمال الذي يجعله الشرع الشريف أحد أسس الاختيار هو الجمال الذي يرضى عنه الزوج ليكون رضاه معيناً له على أن يغض بصره ويحصن نفسه؛ ولذا وجَّه النبي صلى الله عليه و سلم الصحابيَّ إلى النظر لوجه من يريد زواجها فقال صلى الله عليه و سلم (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما((21).

بل يجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم من أسباب تفضيل المرأة أن تسرّ زوجها إذا نظر إليها فقال صلى الله عليه و سلم (خير نسائكم من إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله((22).

فالإسلام حريص كل الحرص على أن يوفر للأولاد الظروف الأسرية المناسبة التي تساعد على تنشئة صالحة طيبة؛ ولذا يجعل من أسس حسن اختيار الزوجين الاختيار بناء على اتصاف الطرفين بالقدر الذي يرضى به الآخر من الملاحة والجمال؛ لكي يساعد هذا على استقرار الأسرة بدلاً من البحث الدائم من الزوجين عن إشباع الرغبات خارج الأسرة مما يزعزع الأسرة وينال من أمانها الاجتماعي.

د) الاختيار على أساس الود وحسن الخلق :

فالزوجان إذا اتصفا بالحرص على التواد وحسن الخلق فإنهما يعملان على إحسان العشرة بالمعروف، فلا يكون أحدهما صخّاباً ولا شتَّاماً، بل يعرف كل منهما حق الآخر عليه، وقد ذكر النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث السابق لوناً من ألوان حسن العشرة في قوله صلى الله عليه و سلم (وإذا أمرها أطاعته(.

وهذا كله مما يكلف به الزوجان؛ لأنه تبارك وتعالى قال : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ }(23).

ولقد حثَّ الشرع الشريف على إحسان الخلق بعامة فقال صلى الله عليه و سلم (خياركم أحاسنكم أخلاقاً((24).

والإسلام حينما يجعل الود وإحسان العشرة وإحسان الخلق أساساً لاختيار الزوجين فهو بذلك يريد توفير الحياة المستقرة الخالية من التنازع والاختلاف والفرقة في الأسرة وذلك حرصاً منه على توفير الظروف الاجتماعية المناسبة لتنشئة الأولاد تنشئة سليمة صالحة خالية من الظروف المساعدة على الانحراف والجنوح.

وبهذا العرض الموجز يتيبن أن التشريع الإسلامي عمل على توفير ظروف شرعية مستقرة لتنشئة الأولاد وذلك من خلال وضعه ضوابط وقواعد ومعايير لاختيار الزوجين وجعل هذا حقا من حقوق الأطفال والأولاد ويدلُّ على هذا قصة الرجل الذي جاء يشكو عقوق ولده لعمر بن الخطاب أمير المومنين فاستدعى عمر ولد الرجل، فجاءه ثم ذكر لعمر أن أباه لم يحسن اختيار أمه، فقال له عمر : عققت ولدك قبل أن يعقك، يعني أسأت إليه في هضمك حقوقه قبل أن يسيء إليك.

وتمثلت إساءة الرجل في حق ولده في عدم إحسانه في اختيار أم ولده.

ولقد اتفق الإعلان العالمي لحقوق الطفل في صورته الجديدة عام 1989م واتفاقية حماية حقوق الطفل عام 1990م في هذا المعنى مع التشريع الإسلامي حيث نصت الاتفاقية في موادها من (6) إلى (12) على حقوق الطفل من بينها حق الطفل في الحفاظ على هويته بما في ذلك جنسيته واسمه وصلاته العائلية بأن ينشأ في ظروف شرعية مستقرة، وفي حالة حرمان الطفل من هذه الظروف فإن واجب الدول الموقعة على الاتفاقية تقديم المساعدة والحماية المناسبتين من أجل الإسراع بإعادة إثبات هويته(25).

2 . حق الطفل في الحفاظ على حياته وصحته جنيناً :

لقد حافظ الشرع الشريف على حياة الطفل جنيناً وعلى صحته أيضاً، وتظهر هذه المحافظة في كل تشريعات الشرع في مجال الطفل والطفولة.

وقد أخذ الحفاظ على حياة الجنين في الإسلام صوراً عدة منها اتفاق فقهاء المسلمين على أن حياة الجنين محفوظة ويحرم المساس بها، وذلك لأنهم اتفقوا على أن إسقاط الجنين وإجهاض الحامل في جنين بعد نفخ الروح فيه حرام، ولو كان هذا الإسقاط أو الإجهاض باتفاق الزوجين؛ لأن هذا الإجهاض والإسقاط قتل للنفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، فيدخل الإجهاض للأم في التحريم الوارد في قوله تعالى : {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ }( 26).

وقد جاءت نصوص فقهاء المسلمين صريحة في ذلك، فقد قال ابن عابدين : (لو أرادت إلقاء الماء بعد وصوله إلى الرحم قالوا : إن مضت مدة ينفخ فيها الروح لا يباح، وتأثم ـ أي الأم ـ إثم القتل لو استبان خلقه ومات بفعلها((27).

ويقول ابن جزي : (وإذا قبض الرحم المني لم يجز التعرض له، وأشد من ذلك إذا تخلق، وأشد من ذلك إذا نفخ فيه الروح فإنه قتل نفساً إجماعاً((28).

ويقول الزركشي : (لو تركت النطفة حتى نفخ فيها فلا شك في التحريم((29).

ويقول ابن حزم : (مسألة : المرأة تتعمد إسقاط ولدها … وإن كان قد نفخ فيه الروح فالقود عليها …؛ لأنها قاتلة نفساً مؤمنة عمداً((30).

ومن خلال ما سبق من كلام الفقهاء يظهر مدى ما أعطى الإسلام الطفل من حق الحفاظ على حياته وهو جنين فمنع التعدي عليه سواء بإسقاطه أو إجهاض أمه.

ولقد أخذ الحفاظ على حياة الجنين صورة أخرى تلك الصورة التي يقع فيها عقاب لمن يتعدى على حياته، فقد عاقب الشرع الشريف من يتعدى على الجنين بأن عليه غُرَّة عبد أو أمة فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، قال : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان ـ سقط ميتاً ـ بغرة عبد أو أمة. الحديث(31).

وفي رواية أخرى : اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها(32).

فهذا شكل آخر من أشكال حُفَّاظ الشرع الشريف على حياة الجنين، بل لقد اعترض بعض المسلمين حديثي العهد بالإسلام على عقاب من أسقط جنيناً فقتله بأن عليه غرة فقال : كيف أَغرم من لا صرخ ولا استهل، ولا شرب ولا أكل، فمثل ذلك يطلّ، أي يهدر دمه. فرد عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم (اسجع مثل سجع الأعراب؟!((33).

فقد رفض النبي صلى الله عليه و سلم ذلك القياس الفاسد الذي ينظر للجنين ــ لعدم وجود أثر له في خارج رحم أمه ـ على أنه شيء مهمل لا يستوجب الاعتداء عليه عقاباً، ولكن الشرع الشريف ردَّ هذا القياس الفاسد وأوجب الغرة على من يتعدى على الجنين.

وهكذا فقد حافظ الإسلام على حق الجنين محافظة تامة فحرَّم التعدي على حياته وعاقب على التعدي عليها.

3. حق الجنين في العناية به وبأمه أثناء الحمل :

أعطى الإسلام الجنين حقاً في العناية به وبأمه، أما العناية به فقد منع كل أذى يصل لأمه أثناء حملها فيه فمنع إيقاع العقوبة عليها التي تودي بحياتها أثناء الحمل، فقد أرجأ رسول الله صلى الله عليه و سلم إقامة الحد على الغامدية حتى تلد(34). وما كان ذلك إلا حفاظاً على حق العناية بالجنين أثناء حمله.

وقد أجاز الفقه الإسلامي رعاية للجنين وأمه للأم الحامل أن تفطر في رمضان وعليها القضاء دون الكفارة عند الحنفية، وعند الجمهور إن خشيت على نفسها فعليها القضاء دون الكفارة أو على جنينها فعليها القضاء مع الكفارة(35).

وذلك لحرص الإسلام على سلامة الجنين وتغذيته تغذية جيدة.

4. حق الطفل في العناية بالصحة النفسية له وهو جنين :

راعى الإسلام العناية بالصحة النفسية للجنين؛ لأن من الأمور المهمة التي يجب على الوالدين مراعاتها أثناء الحمل العناية بالصحة النفسية للجنين وذلك عن طريق العناية بالصحة النفسية للأم الحامل بابتعادها عن المنغصات والمزعجات والصدمات النفسية. فقد أرشد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى حسن رعاية الرجل لأهله فقال صلى الله عليه و سلم (خيركم خيركم لأهله((36)، وهذه الخيرية تقتضي الخيرية في كل مناحي التعامل والرعاية.

كما أرشد صلى الله عليه و سلم أيضاً الأزواج إلى الرفق بالزوجات فقال : (رويدك بالقوارير((37).

وأرشد أيضاً إلى صبر الأزواج على أخطاء الزوجات ليضمن الاستقرار للأسرة.

وعلى الأم أيضاً ألا تكون عاملا سلبياً على الصحة النفسية للجنين بأن لا تتقبل نفسياً وجود الجنين بأن لا ترغب فيه من البداية، فقد أرشد الشرع الشريف لتحصيل الأم للصحة النفسية إلى الرضا بما قسم الله لتكون من أغنى الناس.

وبيان الإسلام أن الرضا بقضاء الله خير وسيلة للصحة النفسية؛ لأن العبد بهذه الصفة (الرضا) يعلم أن ما نزل به هو خير له لأنه يوقن بقوله تعالى : { فَعسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً }(38) .

وهكذا وفرَ الإسلام للجنين الصحة النفسية بأن أمر الزوج بحسن رعايته للأم والجنين، وأمر الأم بالصبر والرضا برزق الله لها.

5. الحفاظ على الحق المالي للجنين :

وكان من مظاهر رعاية الإسلام لحقوق الطفل قبل ولادته الحفاظ على حقوقه المالية وهو ما يزال جنيناً في بطن أمه، فلقد أوقف الإسلام التركات التي يكون للجنين ـ لو فرض نزوله حياًّ ـ نصيب فيها، وذلك خشية تقسيم التركة بين الورثة الأحياء وضياع نصيبه فيها.

وقد ذكر الفقهاء صوراً لذلك تبين حرص الإسلام على وصول حق الجنين في التركة إليه كاملاً، وإليك باختصار بعضها :

ــ إذا كان معه وارث آخر، وكان نصيبه في التركة يختلف باختلاف جنسه ففي هذه الحالة يقدر له التقديران، ويوقف له النصيب الأكبر، وبعد الولادة وتبين جنسه يأخذ الحصة التي يستحقها، فإذا كان يستحق النصيب الأصغر أخذه ووزع الباقي على الورثة.

ــ وإذا كان معه وارث آخر وكان نصيبه من التركة لا يختلف باختلاف جنسه ذكراً كان أو أنثى فإن التركة تقسم ويترك له مقدار نصيبه حتى يولد حيّاً ويستحق الميراث(39).

وقد اتفق ما جاء في الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل في الحقوق السابقة مع ما نصّ عليه الشرع الشريف حيث مواد الاتفاقية من (6) إلى (12) على حقوق من ضمنها حق الطفل في الحياة، وحقه في البقاء، وإن زاد ما في التشريع الإسلامي بإثبات بعض الحقوق للجنين كحقه المالي والنفسي(40).

المبحث الثاني : حقوق الطفل في الإسلام بعد ولادته

دأب الإسلام على رعاية الطفل بعد ولادته بصورة لم تعرفها النظم الأخرى ويدل على ذلك هذه الكثرة العظيمة من التشريعات الخاصة بالطفل في التشريع الإسلامي.

ولذا وجدت أن من المناسب عقد مبحث مستقل للحديث عن حقوق الطفل في الإسلام بعد ولادته.

وسأذكر في هذا المبحث بعض الحقوق التي أقرها الإسلام للطفل بعد ولادته إذ الأحكام الخاصة بالطفل بعد ولادته في الإسلام كثيرة لا يتحملها هذا البحث، بل تحتاج إلى مؤلف ضخم يخصص لهذا الغرض.

ولذا سأذكر بعض هذه الحقوق وأهمها :

1. حق الحفاظ على حياته :

حافظ الإسلام على حياة الطفل بعد ولادته بصورة لافتة للنظر ؛ لأن ظهور الإسلام تواكب مع أخلاق وبيئة لا يعترفان للطفل المولود بقيمة، بل من السهولة بمكان أن يسلبوه حقه في الحياة، ويصف القرآن الكريم ذلك في قوله : { وَإِذا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَىِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ }(41).

فقد كانت البيئة الجاهلية بأخلاقها الخشنة الجافة لا تعمل على الحفاظ على حق المولود في الحياة، بل تساعد على انتهاك هذا الحق لمجرد شعور الولد بأن عاراً متوهماً قد يلحقه أو أن فقراً مدقعاً قد يهلكه، فجاء الإسلام ليثبت هذا الحق للطفل المولود ويمنع الآباء من ارتكاب هذه الجريمة الشنعاء فقال تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } (42)، وفي آية أخرى { نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}(43).

وبهذا التحريم القاطع أوقف الإسلام انتهاك حق الطفل في الحياة وأثبته للطفل حتى صار التعدي عليه من أكبر الكبائر.

ولو أراد دارس اجتماعي أن يرصد بداية انتهاء ظاهرة وأد البنات فسيجد أن التاريخ الصحيح لبداية انتهاء هذه الظاهرة هو ظهور الإسلام؛ لأنه الدين الذي جاء ليسترد للأطفال حقهم السليب في الحياة، وهو الحق الذي طالما عانوا في ظل سلبه.

وكذلك منع الإسلام قتل الأولاد تقرباً للأوثان(44) وحرَّم ذلك ووصف الذين فعلوا ذلك فيما سبق بقوله تعالى : { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْم }(45).

وبهذا ضمن الإسلام للأطفال حقهم في الحياة بعد ولادتهم سواء بمنعه وأد البنات أو بمنعه قتل الأولاد تقرباً للأوثان.

2. حق الطفل المولود في تسميته باسم حسن :

لمَّا أكرم الله البشرية بدين الحق، وأرسل إليها نبيه الخاتم محمداً صلى الله عليه و سلم وبعثه ليتمم مكارم الأخلاق جعل من حق كل إنسان مهما صغرت أو عظمت منزلته أن يكون له اسم يتميز به من غيره، ويعرف به في المجتمع، وإن هذا الاسم يرافق الإنسان في مسيرة حياته كلها منذ الولادة وحتى الوفاة، بل إنه ينادى به في الدار الآخرة؛ ولذا جعل هذا أدباً يتميز به الإسلام الذي يربي أتباعه على الذوق الرفيع والجمال.

بل لقد ندب رسول الله إلى تحسين الأسماء فقال : (إنكم تُدْعَوْنَ يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم((46).

وقد سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم يا رسول الله، عَلِمْنا ما حق الوالد على الولد، فما حق الولد على الوالد؟ قال صلى الله عليه و سلم : (أن يحسن اسمه ويحسن أدبه((47).

وهكذا جعل الإسلام تحسين اسم المولود حقّاً للولد على والده، ومن ثم أمر بالحفاظ على حق الأولاد في ذلك.

ويعدُّ عدم إحسان اختيار اسم المولود نوعاً من عقوق الآباء لأبنائهم ويوضح ذلك قصة عمر ـ رضي الله عنه ـ مع الرجل الذي جاء يشكو عقوق ولده، فلما طلبه عمر وحضر، تكلم الولد فذكر له أن أباه لم يحسن اختيار اسمه فقال عمر للوالد : (عققت ولدك قبل أن يعقك((48).

ولقد كان من سننه صلى الله عليه و سلم تغيير الأسماء السيئة إلى أسماء حسنة ومن ذلك ما روي أنه كانت لعمر بنتٌ إسمها (عاصية( فسماها رسول الله صلى الله عليه و سلم جميلة(49).

ولقد جاء نص اتفاقية حقوق الطفل موافقاً لما دعى إليه الإسلام من تسمية الأولاد وأحقيتهم في ذلك وجاء ذلك ضمن المواد (6) إلى (12) من هذه الاتفاقية(50).

3. حق الطفل في السرور والفرح بولادته :

ومن تمام إعطاء الإسلام للأطفال حقوقهم بعد ولادتهم أنه جعل من حق الأولاد أن يفرح الآباء بقدومهم وأن يعبروا عن فرحهم هذا.

فقد شرع الإسلام العقيقة، وهي شعيرة من شعائر الإسلام تميز المسلمين في عاداتهم عند الولادة عن غيرهم.

وهذه الشعيرة تشتمل على إظهار الفرح بنعمة الله بالولد الذي أنعم به على الوالدين، والشكر له بالتصدق بلحم هذه العقيقة.

ومما يدلُّ على أن هذه الشعيرة المظهرة للفرح والسرور حق المولود قوله صلى الله عليه و سلم (العقيقة حقَّ… عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة((51).

وكذلك يسنُّ حلق الشعر الذي على رأس المولود في اليوم السابع عند ذبح العقيقة(52).

وكل هذا إظهار للفرح والسرور بقدوم المولود السعيد، وهذا ما يكشف عن إرساء الإسلام لقواعد كثيرة خاصة بالطفل والطفولة تبدأ برعاية الطفل منذ حمل الأم به وتزداد هذه الضوابط كثرة ووضوحاً مع نمو الطفل، ولذا شرع الإسلام الفرح والسرور بالطفل المولود مظهراً من مظاهر إعطاء الطفل حقوقه النفسية.

4. حق الطفل الولد في الحفاظ على رضاعه وغذائه :

إن الخالق المدبر الحكيم الذي شملت عنايته جميع مخلوقاته، جعل اللبن يدر من ثدي الأم بمجرد ولادتها، فمنذ اللحظات الأولى من نزول الولد من رحم الأم يُفرز هرمون البُرولكتين المسؤول عن إفراز الحليب من الثدي، فما أن يخرج الجنين الذي تعوَّدَ في رحم أمه على تلقي الغذاء الجاهز المهضوم، والذي لا يستطيع بمعدته الضعيفة الصغيرة أن يجري عمليات الهضم المعقدة ـ حتى يجد هذا الغذاء الإلهي الجاهز والغني بالمواد الغذائية اللازمة له، فتبارك الله أحسن الخالقين.

ولقد أمر الإسلام الأمهات بالرضاعة الطبيعية لأولادهن فقال تعالى:{وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}(53).

ولذلك فإن من حق الولد على أمه أن تقوم بإرضاعه من حليب ثديها الذي جعله الله غذاء كاملاً له، فيجب على الأم أن تأخذ ولدها منذ اللحظات الأولى للولادة وترضعه؛ لأن هذا التصرف يزيد من قوة إفراز هرمون الحليب ويعمل على زيادة إدراره من الثدي.

وإن للرضاعة الطبيعية التي أمر بها الإسلام في الأيام الأولى عندما يدر الثدي أثراً كبيراً في تقوية المناعة للمولود ضد الأمراض، وتعقيم معدته وأمعائه وتوليد البكتريا المسئولة عن الهضم.

كما أن الغذاء الموجود في الحليب الطبيعي الذي ترضعه الأم لولدها لا يتوفر في أي مصدر غذائي آخر لما فيه من مميزات أهمها :

1. أنه نظيف معقم

2. وحرارته معتدلة ومساوية لدرجة حرارة الجسم

3. ولا يفسد بالتخزين

4. ويناسب معدة الرضيع

5. ولا يحتاج الرضيع معه إلى أي غذاء إضافي

6. يُؤَمِّنُ المناعة الطبيعية للطفل ويُقَوِّي الدفاعات المناعية للمولود.

ولهذا كله ولغيره حرص الإسلام على أن ينال كل طفل نصيبه من حليب أمه حتى إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخَّر حدَّ الزنا عن المرأة الغامدية حتى ترضع ولدها(54).

وإذا عجز الوالدان عن توفير النفقة اللازمة للرضاعة فعلى الدولة القيام بتوفيرها. وهذا ما كان يفعله عمر ـ رضي الله عنه ـ فقد كان أول الأمر لا يفرض النفقة إلا لمن فُطِمَ من الأولاد، فصارت الأمهات يفطمن أولادهن قبل بلوغ أوان الفطام، فلما علم عمر ـ رضي الله عنه ـ بذلك رجع عن قراره الأول، وصار يفرض للأولاد النفقة لمجرد الولادة حتى يطول وقت رضاعهم من أمهاتهم ولا يسارعن إلى فطامهم طمعاً في العطاء، وذلك حرصاً من عمر ـ رضي الله عنه ـ على أن ينال الأولاد حظاًّ وافراً من الغذاء الذي خصصه الله لهم(55).

وزيادة في حرص الإسلام على رضاع الطفل شرع النفقة والأجرة للأم على إرضاعها ولدها بعد عدة الطلاق أو الوفاة قال تعالى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أجُورَهُنَّ وَأَتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ }(56)، وذلك تشجيعاً للوالدات على إطالة فترة الرضاع.

وقد التقى نص الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل مع الشرع الشريف في تقرير هذا الحق للطفل المولود(57).

 

5. حق الطفل في التربية والتعليم والحماية من كل أذى جسمي ونفسي:

إن من أهم الحقوق الواجبة للطفل على والديه حق التربية والتأديب، وأقصد بالتربية هنا عملية التنشئة الاجتماعية والسلوكية التي يكتسب الطفل خلالها مجموع عاداته وأفكاره وأخلاقه الأولية.

ولقد حضَّ الإسلام الوالدين على الاهتمام بتربية الولد وتنشئته تنشئة صحيحة وسليمة، قال تعالى في ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ والْحِجَارَة }(58).

وقد سأل عمر ــ رضي الله عنه ــ النبي صلى الله عليه و سلم لما نزلت هذه الآية فقال : يا رسول الله، نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهلينا؟ فقال صلى الله عليه و سلم : (تنهونهم عما نهاكم الله، وتأمرونهم بما أمر الله((59).

ولذلك قال العلماء : (ذلك حق على الإنسان في نفسه وولده وأهله، فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير، وما لا يستغنى عنه من الأدب((60).

ولمَّا سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن حق الولد على الوالد قال : (أن يحسن اسمه ويحسن أدبه((61).

ومما لاشك فيه أن للعادات والمفاهيم التي ينشأ عليها الإنسان ويكتسبها منذ صغره من أهله ووالديه بصفة خاصة الأثر الكبير في رسم سلوكه وتكوين شخصيته عندما يكبر؛ ولذا كان واجباً على الوالدين أن يحرصا على إكساب الولد كل خلق حميد، وكل ما ينفعه في دينه ودنياه.

وذلك كله انطلاقاً من قوله صلى الله عليه و سلم : (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الرجل راع في بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها((62).

فالطفل أمانة كبيرة بين يدي والديه يُسألان عنها يوم القيامة وما أشد السؤال عن الأمانة : (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته(.

ومن أهمل تربية أولاده والعناية بهم في الصغر ندم أشد الندم في الكبر؛ ولذلك كان من واجب الوالدين ومن حق الأولاد عليهما البدء بتربية الأولاد منذ نهاية السنة الأولى حيث يبدأون في فهم الأوامر والنواهي.

أما حق الطفل في التعليم، فلقد شجع الإسلام التعليم تشجيعاً عظيماً وجعل العلم من أسمى العبادات وجعل العلماء ورثة الأنبياء وقد وردت في فضل العلم ومنزلة العلماء آيات وأحاديث كثيرة منها قوله تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ } (63).

ومنها قوله صلى الله عليه و سلم : (من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة((64).

وقد حرص الإسلام على إذاعة العلم بين أفراد المجتمع المسلم ونشره بين سائر طبقاته، واتخذ في ذلك خطوات جادة منها إلزام الوالدين بتعليم الأولاد وحثهم على الاهتمام بذلك، وجعل هذا التعليم حقّاً للأولاد على الآباء ومما يؤكد ذلك ما رواه أبو نعيم في الحلية بسند حسن من قوله صلى الله عليه و سلم : (حقُّ الولد على الوالد أن يعلمه الكتاب والرمي والسباحة، وأن يورثه طيباً((65).

فقد جعل الإسلام التعليم حقاً للأولاد يلزم الآباء أداؤه، ولكنه أعان الآباء والوالدين على تحمل أمانة هذا الحق فبشر القائم به بقوله صلى الله عليه و سلم : (من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس الله والديه تاجاً يوم القيامة ضوؤه أحسن من ضوء القمر((66).

وعلى الوالدين أن يحفظا الأولاد من أن يمسهم أي مكروه أو أذى جسماني أو نفساني ومن حق الأولاد عليهما أن يحفظاهم من كل ما يحفظان أنفسهما منه وهذا ما أشار إليه قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ }(67).

فقد قرن وقاية الوالدين أنفسهما بوقايتهما أهلهما؛ لذا فمن حق الأولاد على الوالدين أن يحمياهم من كل أذى جسمي ونفسي ويكون حرصهما على توفير هذه الحماية هو نفس الحرص على توفيرها لأنفسهما.

ولقد جاءت المادتان (18)، (28) من الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان متفقة مع ما قرره الإسلام من حق الطفل في التربية والتعليم.

6. حق الطفل في تعويده العادات الحسنة :

أشرت فيما سبق إلى أن العادات التي يكتسبها الطفل في الصغر يكون لها أثر كبير في تكوين أخلاقه وسلوكياته، ولذا وجب على الوالدين ـ وكان حقاً للأولاد عليهما ـ أن يُعَوِّدا أولادهما على العادات الحسنة التي تكون سبباً في سعادتهم في دنياهم وآخرتهم.

وهكذا فإن مسؤولية تربية الأولاد هي من أهم الواجبات التي يطالب بها الوالدان حقاً لأولادهما، وإن من أكبر الأخطاء التي يرتكبها الأولياء والآباء أن يتخلوا عن هذه المهمة أو أن يقصروا فيها بأن لا يعملوا على تربية وتعويد الأولاد والأطفال على خير الأخلاق والصفات والأفعال.

ولقد جاءت توجيهات النبي صلى الله عليه و سلم : ترشد إلى أهمية تربية وتعويد الأطفال الأخلاق الحسنة ومن هذه التوجيهات والوصايا:

قوله صلى الله عليه و سلم : (ما نحل والد ولداً من نُحْل أفضل من أدب حسن((68).

وقول صلى الله عليه و سلم : (علموا أولادكم وأهليكم الخير وأدبوهم((69).

فيؤخذ من هذين الحديثين التربويين أن على المربين ـ ولاسيما الآباء والأمهات ـ مسئولية كبرى في تأديب الأولاد على الخير وتخليقهم بمبادئ القيم السامية والأخلاق الراقية.

ومن هذه المسؤوليات مسؤولية الوالدين المتعلقة بكل ما يشمل إصلاح نفوس الأولاد وتقويم اعوجاجهم وترفعهم عن الدنايا وحسن معاملة الآخرين.

ومسؤوليتهما عن تخليق أولادهما منذ الصغر على الصدق والأمانة والاستقامة والإيثار وإغاثة الملهوف واحترام الكبير وإكرام الضيف، والإحسان إلى الجار.

وكذلك هما مسؤولان عن تنزيه ألسنة أولادهما عن السباب والشتم وكل مفاسد الأخلاق، وتعويدهم المشاعر الإنسانية الكريمة كالإحسان إلى اليتيم والبر بالفقراء والعطف على المساكين وأبناء السبيل.

ومن صور التوجيه النبوي للصغار، والحرص على إرشادهم للخطأ في سلوكهم وتصرفاتهم لكي لا يألفوه ما روى عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : أخذ الحسنر تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال صلى الله عليه و سلم : (كخ، كخ ـ ليطرحها ـ أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟!((70).

فالنبي صلى الله عليه و سلم : يعوِّد الطفل الصغير المبارك (الحسن) أن لا يتناول ما لا يجوز له أخذه، ولا يفرق في هذا التوجيه النبوي بين كون الحسن صغيراً أو كبيراً.

ويعلم رسول الله صلى الله عليه و سلم : طفلاً آخر من أطفال المسلمين فيقول له : (يا غلام، سم الله وكل مما يليك((71).

فيعلمه صلى الله عليه و سلم : أحسن الأدب في تناول الطعام، وبهذا يُعَوِّدُهُ على أحسن الأخلاق وأرقها.

ويقول صلى الله عليه و سلم لآخر : (يا غلام إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك جفت الأقلام وطويت الصحف((72).

فرسول الله صلى الله عليه و سلم يعلم الأطفال دائماً مكارم الأخلاق وأسماها من التوكل على الله والاستعانة بالله وقطع الأمل فيما عند الناس ورجاء ثواب ما عند الله.

ويؤكد القران الكريم على تعليم الأطفال وتعويدهم على مكارم الأخلاق فيأمر الوالدين أن يعودوا أولادهما على الاستئذان في أوقات محددة وهي الأوقات التي هي مظنة التخفف من الثياب فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ منَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْد صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَات لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }(73).

فخلق الاستئذان الذي علمه الإسلام للآباء لكي يُعَوِّدُوا الأبناء عليه من الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، يكشف لنا عن إرساء الإسلام لحق الطفل في التعود على أحسن العادات وأرقها، وهذا شأن الإسلام في كل تشريعاته الخاصة بالطفل؛ لأنه ينظر للطفل على أنه مخلوق على فطرته السليمة التي تؤثر فيها بشدة البيئة المحيطة وبخاصة الوالدين، ويظهر ذلك في قوله صلى الله عليه و سلم : (ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه((74).

وذلك يوجب على الوالدين أن يسبقا إلى فطرته السليمة بالخير، ويوجهاه توجيهاً سليماً ينطبع في فؤاده ويؤثر عليه طوال حياته.

ويقول ابن أبي زيد القيرواني في ذلك المعنى : (واعلم أن خير القلوب وأوعاها للخير ما لم يسبق الشر إليه، وأولى ما عنى به الناصحون، ورغب في أجره الراغبون إيصال الخير إلى قلوب أولاد المؤمنين ليرسخ فيها، وتنبيههم على معالم الدين وحدود الشريعة ليُراضوا عليها وما عليهم أن تعتقد من الدين قلوبُهم وتعمل به جوارحُهم((75).

7. حق الطفل في التعليم بما يناسب مراحله العمرية :

لقد وضع الإسلام خطة من التشريعات ترسم صورة دقيقة لتعليم الطفل في مراحل عمره المختلفة بما يتناسب وهذه المراحل، وأوضح مثال على ذلك قوله تبارك وتعالى في سورة النور : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنَكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ }(76)، فالآية توضح أن الطفل الذي لم يبلغ الحلم يُعَلَّم الأخلاق الحميدة؛ لأنه مؤهل في هذه الفترة لتعلم هذه الأخلاق.

ثم يؤكد على معنى تعليم الأطفال ما يتناسب ومراحلهم العمرية حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم :(علموا أولادكم الصلاة لسبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع((77).

فحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم يرشد إلى السن الذي يعلم فيها الطفل القيام بالعبادات والسن الذي يحاسب على تقصيره فيها. وكذلك هناك أخلاق عامة وهي الحفاظ على العورات والحياء وهي أخلاق يجب أن تصاحب الطفل في كل مراحل حياته ولذا يفرق بين الأطفال في المضاجع من أول عمرهم.

ومن الأفضل في التصور الإسلامي لتعليم الطفل أن يسعى الوالدان إلى تعليم الولد القرآن منذ السنوات الأولى لتقويم نطقه بصورة صحيحة وترديد آيات القرآن أمامه والإكثار من إسماعه إياها.

وفي ذلك المعنى يقول ابن سينا : (إذا تهيأ الطفل (الصبي) للتلقين ووعى سمعه أخذ في تعليم القرآن له((78).

وإن عناية الإسلام بتعليم الأطفال من الصغر عناية حكيمة حيث يبدأ التعليم في الصغر في التصور الإسلامي بالأسلوب المناسب لمراحلهم العمرية حيث يبدأ التعليم في الإسلام بما لا يحتاج لمزيد عناء وفكر مما يجعل الطفل ينفر من التعليم، بل يستخدم في تعليم الطفل في مرحلة الطفولة المبكرة أداة التلقين في التعليم وهي أداة مناسبة جداً لهذه المرحلة وهذا ابن عباس رضي الله عنهما يحفظ القرآن صغيراً فيكون لذلك أثره الكبير في رسوخ هذا العلم في ذهنه وصعوبة تفلُّته منه مهما بلغت سنه وفي ذلك يقول ص : (سلوني عن سورة النساء فإني قرأتها وأنا صغير((79).

ولذا نستطيع أن نقول : إن الإسلام أعطى الطفل حقه في التعليم كاملاً وذلك بأن جعله تعليماً مناسباً في مادته وفي أداته للمرحلة العمرية التي يمر بها الطفل.

ولقد جاءت المادتان (28)، (29) من مواد الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل موافقة للتشريع الإسلامي في إرسائهما حق الطفل في التعليم.

8. حق الطفل في حمايته من الجنوح والانحراف :

لقد عمل الإسلام على تجفيف منابع الجنوح والانحراف في محاولة منه للحفاظ على حقوق الأطفال، ويتأكد هذا المعنى بصورة واضحة إذا نظرنا إلى أسباب جنوح الأطفال وانحرافهم وكيف تعامل معها الإسلام.

فمن الأسباب المعروفة للانحراف والجنوح لدى الأطفال :

أ) المشكلات الأسرية والاضطراب الأسري :

فكثيراً ما تتسبب المشكلات الأسرية وحالات عدم الاستقرار في البيت في انحراف الأولاد وجنوحهم، ولقد عالج هذا السبب الإسلام معالجة ناجعة وذلك بتجنبه في أول أمره، بأن أَمَرَ الزوجين بحسن الاختيار عند الزواج كما بينا في حقوق الطفل قبل الولادة، وكذلك أَمَرَ الوالدين بحسن المعاملة بعد الزواج وكل ذلك لتجفيف منابع الانحراف والجنوح عند الأولاد.

ب) انفصال الزوجين :

وقد يتسبب انفصال الزوجين في إحداث خلل في نفسية الأولاد مما يساعد في كثير من الأحايين على الجنوح والانحراف؛ ولذلك نظم الإسلام رعاية الطفل والأولاد في حالة انفصال الزوجين فرتب حق الحضانة بصورة تتناسب وحاجيات الأولاد وأوجب على الوالد النفقة على الأولاد لكي يضمن لهم أسباب الحماية من الانحراف فقال تعالى : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }(80).

ج) الفقر :

وقد يتسبب الفقر والحياة تحت ضغط الظروف الصعبة في جنوح وانحراف كثير من الأطفال ولقد واجه الإسلام مشكلة الفقر على محاور عدة منها التكافل الاجتماعي في مثل قوله صلى الله عليه و سلم : (من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، من كان له فضل مال فليعد به على من لا مال له((81)، وكذلك الزكاة وتعريفه صلى الله عليه و سلم إياها بأنها : (صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم((82).

وكذلك عالجه في محور الحث على العمل والإنتاج فنرى رسول الله صلى الله عليه و سلم يرشد من جاء ليسأل الصدقة : (إن المسألة لا تحل إلا لذي فقر مدقع أو عزم مفزع(.

وقال له بعد أن يحصل ثمرة عمله : (هذا خير لك من أن تأتي المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة((83).

د) الفراغ :

فهذه هي النعمة المغبون فيها كثير من الناس؛ ولذا أمر الشرع الشريف من لديه فراغ أن يقوم بشغله بما ينفع وفي ذلك إنقاذ للطفل والأولاد من الجنوح والانحراف، فقد جاء التوجيه العام من الشرع الشريف للأمة بأن تشغل فراغها بالعبادة فقال تعالى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلَى ربِّكَ فَارْغَبْ }(84).

ووجه الرسول صلى الله عليه و سلم الأمة أيضاً إلى اغتنام فرصة فراغها في العبادة فقال صلى الله عليه و سلم : (خذ من صحتك لسقمك ومن فراغك لشغلك((85).

هـ) الخلطة الفاسدة ورفاق السوء :

فمن العوامل الكبيرة التي تؤدي إلى انحراف الأولاد وجنوحهم رفاق السوء والخلطة الفاسدة، ولا سيما إن كان الولد بليد الذكاء ضعيف الديانة متميع الأخلاق فسرعان ما يتأثر مثله بمصاحبة الأشرار ومرافقة الفجار وسرعان ما يكتسب منهم أحط العادات وأقبح الأخلاق. والإسلام بتعاليمه التربوية وجَّه الآباء والمربين إلى أن يراقبوا أولادهم مراقبة تامة.

وكذلك وجَّه الشرع الشريف إلى خطورة رفقاء الشر وقرناء السوء والفساد فقال تعالى : { الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إِلاَّ المُتَّقِينَ }(86).

وقوله تعالى : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً، يَا وَيْلَتِى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْر بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِِنْسَانِ خَذُولاً }(87) .

وقوله تعالى : { قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ }(88).

وقوله صلى الله عليه و سلم : (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل حامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذيك أو تشتري منه أو تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحاً منتنة((89).

وبهذه المعالجات لأسباب الجنوح والانحراف لدى الأولاد عالج الإسلام هذه المشكلة وجفف منابعها.

9. حق الطفل في التربية البدنية والعقلية :

من المسؤوليات الكبرى التي أوجبها الإسلام على الوالدين والمربين مسئولية التربية البدنية لينشأ الأولاد على خير ما ينشأون عليه من قوة الجسم، وسلامة البدن ومظاهر الصحة والحيوية.

ولكي يقوم المربون والوالدان بهذه المسؤولية على خير وجه رسم لهم الشرع الشريف حدود هذه المسئولية ويمكن أن نوجز ذلك فيما يلي:

أ) وجوب النفقة على الأولاد :

فقد أوجب الشرع الشريف النفقة على الأولاد على الوالدين أو المربين وذلك في قوله سبحانه وتعالى : { وَعَلى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }(90).

وذلك ليوفر للأولاد أول عناصر التربية البدنية وهي توفير القوت ويؤكد هذا المعنى حديث مسلم : (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته((91).

فمن تمام النفقة المأمور بها الوالد تهيئة الغذاء الصالح لأولاده، والمسكن الصالح والكساء الصالح حتى لا تتعرض أجسامهم للأسقام وتنهك أبدانهم الأوبئة والأمراض.

ب) اتباع قواعد الصحة العامة في المأكل والمشرب :

فمما طلبه الشارع من الوالدين الحفاظ على أبنائهم من الأخطار ومن ذلك تجنيبهم الأمراض والأوبئة وذلك من خلال تعليمهم القواعد العامة الصحيحة لتصبح عادة لديهم وتكون بمثابة الوقاية لهم من الإصابة والأمراض.

وتلمس هذا بوضوح في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن أحاديثها :

ــ قوله صلى الله عليه و سلم : (لا تشربوا واحداً كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث، وسمّوا إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم رفعتم((92).

ــ ونهيه صلى الله عليه و سلم المرء عن أن يتنفس في الإناء(93).

وقوله صلى الله عليه و سلم : (لا يشربن أحدكم قائماً، فمن نسي فليستقيئ((94).

ج) التحرز والوقاية من الأمراض المعدية :

ومن تمام الرعاية البدنية للأولاد محاولة وقايتهم من الأمراض المعدية، وقد جاء الشرع الشريف بالحث على هذا النوع من الوقاية والتحرز.

ـ فمن ذلك قوله صلى الله عليه و سلم : (فرّ من المجذوم فرارك من الأسد((95).

ـ وقوله صلى الله عليه و سلم : (لايوردن ممرض على مصحّ((96).

ولذا كان لزاماً على المربين ـ ولاسيما الأمهات ـ إذا أصيب أحد أولادهم بمرض معدٍ أن يعزلوه عن بقية الأولاد حتى لا ينتشر المرض ويستفحل الوباء. فما أعظم هذا الهدي النبوي في تربية الأجسام والحفاظ على صحة الأبدان.

د) معالجة المرض بالتداوي :

إن الله من فضله وكرمه ومنِّه رزق عباده الأدوية أسباباً للشفاء ولدفع البلاء؛ لذا كانت معالجة المرض بالتداوي من الحقوق الواجبة على الوالدين تجاه أولادهما، ولقد جاءت السنة مليئة بالأحاديث التي تحث على التداوي ومنها :

ــ قوله صلى الله عليه و سلم : (لكل داء دواء، فإذا أصاب الدواء الداء برأ بإذن الله عز وجلَّ((97).

ــ وقوله صلى الله عليه و سلم :عندما سئل : أنتداوى ؟! : (نعم يا عباد الله تداوَوْا، فإن الله عزَّ وجلَّ لم يضع داء إلا وضع له شفاء، غير داء واحد( قالوا : ما هو؟ قال : الهرم((98).

هـ) تعويد الأولاد على ممارسة الرياضة وألعاب الفروسية :

من القواعد العامة في الإسلام أن المؤمن القوي خير وأحب عند الله من المؤمن الضعيف وإن كان في كلٍّ خير.

ومن هذا المنطلق أوجب الشرع الشريف على الوالدين والمربين أن يعملوا على تقوية أبدان أبنائهم بكل وسائل القوة الممكنة وذلك تحقيقاً لقوله تعالى :{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } (99)، وتنفيذاً لقوله ص : (المؤمن القوي خير وأحب عند الله من المؤمن الضعيف((100).

ولقد جاءت السنة المشرفة مليئة بالإرشادات النبوية إلى تعليم الرمي وركوب الخيل والسبق، ومن هذه الأحاديث :

ــ قوله صلى الله عليه و سلم عندما كان يمر على أصحابه في حلقات الرمي فيشجعهم قائلاً : (ارموا وأنا معكم كلّكم((101).

ــ وروى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : تلا قوله تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ }(102) ثم قال : (ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي((103).

ولقد استوعب الصحابة الكرام هذا الهدي استيعاباً جيداً فكانوا يأمرون بتعليم الأولاد كل ما يكون من شأنه تقوية الأبدان والأجسام ومن ذلك قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل(.

ولاشك أن صحة الجسد لها شأنها العظيم في صحة العقل؛ ولذا كان كل ما يقوم به الشرع الشريف من الحفاظ على قوة وصحة الأبدان والأجسام وإنما الغرض منه أيضاً حفظ سلامة العقول وصحتها.

10. حق الطفل في الرحمة به والترويح عنه والملاعبة :

من المشاعر النبيلة التي أودعها الله في قلوب الآباء والأمهات شعور الرحمة بالأولاد والرأفة بهم والعطف عليهم، وهو شعور كريم له في تربية الأولاد وتكوينهم النفسي أثره العظيم.

ولهذا نجد الشريعة في جميع التشريعات ترسخ مشاعر الرأفة والرحمة وتحضُّ الكبار من الآباء والأمهات عليها، فنجد رسول الله صلى الله عليه و سلم يجعل الرحمة حقاّ للصغار حتى يسلب ممن لا يرحم الصغار انتسابه الكامل للإسلام فيقول صلى الله عليه و سلم : (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا((104).

وهذا أعرابي يأتي النبي صلى الله عليه و سلم : فيقول له الأعرابي : تقبلون الصبيان؟! فما نقبلهم. فقال النبي : (أوَ أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟!((105).

11. حق الطفل في عدم إيذائه بالضرب :

إن الإسلام دين قائم على الرفق في كل تشريعاته؛ ولذا عندما أراد أن يستخدم الضرب وسيلةً من وسائل الإرشاد إلى الخطأ كما ورد في حديث : (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع((106).

ولكنه جعل الضرب يخضع لقاعدة الرفق في التشريع الإسلامي، فالضرب لم يقصد به تعذيب الولد على خطئه، بل المقصد توجيهه وإرشاده؛ ولذا لابد أن يكون الضرب موصلاً للرسالة المرجوة وهي تجنب الخطأ ؛ ولذلك قيد وسيلة الضرب من وسائل الإرشاد إلى الخطأ بأن يكون غير مؤثر في الأعضاء، وألا يكسر بهذا الضرب العظم، وأن يتجنب الوجه، وقد جاءت السنة المطهرة بهذه الضوابط، ومنها ما ورد في هذه الأحاديث :

ــ ما رواه مسلم عن أبي مسعود أنه كان يضرب غلامه فجعل يقول : أعوذ بالله، قال فجعل يضربه، فقال : أعوذ برسول الله، فتركه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (والله َللَّهُ أقدر عليك منك عليه( فقال، فاعتِقْهُ(107).

ــ ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :(إذا ضرب أحدكم أخاه فليتجنب الوجه((108).

وكل هذا الإرشاد النبوي الضابط لاستخدام وسيلة الضرب من وسائل الإرشاد إلى الخطأ لابد أن ينظر إليه أيضاً من خلال أن الإسلام عندما أقرَّ الضرب أمر بالرفق في كل شيء، فقال الرسول صلى الله عليه و سلم : (إن الرفق ما نزع من شيء إلا شانه وما دخل في شيء إلا زانه((109).

ويراعى عند من يستخدم هذه الوسيلة أيضاً أن هذه العقوبة تأتي في المرحلة الأخيرة من مراحل الإرشاد إلى الخطأ بعد الوعظ والهجر، وهذا الترتيب يفيد أن المربي لا يجوز له أن يلجأ إلى الأشد كالضرب إذا كان يكفي الأخف كالوعظ والهجر؛ ليكون الضرب هو أقصى عقوبة على الإطلاق، ولا يجوز اللجوء إليها إلا بعد اليأس من كل وسيلة للتقويم والإصلاح…علماً بأنه عليه الصلاة والسلام ما ضرب امرأة من نسائه قط ولا غلاماً من غلمانه.

وكل هذا يكشف أن الضرب في الإسلام وسيلة للإرشاد للخطأ لها ضوابطها التي تمنع أن يكون الضرب متسبباً في إيذاء الأولاد أو الأولاد الذين تقع عليهم هذه العقوبة.

12. حق الطفل في أن تكون عقوبته تهذيبية :

الطفل إنسان له مشاعر وأحاسيس يجب مراعاتها حتى أثناء عقابه على أخطائه؛ لأن العقوبة للطفل المقصد الأساسي فيها الإرشاد والتهذيب وليس المقصود منها التشفي ولا التعذيب؛ لذا يجب عند معاقبة الأطفال مراعاة عدة أمور أهمها :

أولا : أن الرفق واللين بالطفل هو الأصل :

وهذا ما تكلمنا عنه في الكلام عن الضرب في العنصر السابق، ولكن نؤكد على هذا المعنى بذكر ما رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه و سلم بعثه ومعاذاً إلى اليمن وقال لهما : (يسراولا تعسرا وعلِّمَا ولا تُنََفِّرا((110).

ثانياً : يجب مراعاة طبيعة الطفل المخطئ في استعمال العقوبة :

فالأطفال يتفاوتون في درجة الإدراك والذكاء، وكذلك تختلف ميولهم، ولذا فإن بعض الأطفال تصلح معهم النظرة العابسة للزجر والإرشاد، وبعضهم يحتاج إلى كلمة جافة، وثالث لا يفيد معه إلا استعمال العصا.

وهذا التناسب بين العقاب ونفسية وشخصية الطفل أشار إليه كثير من علماء المسلمين المهتمين بشؤون التربية من أمثال ابن سينا والعبدري وابن خلدون حيث نصوا على أن المربي لا يجوز له أن يلجأ إلى العقوبة إلا عند الضرورة القصوى، وأن لا يلجأ إلى الضرب إلا بعد التهديد والوعيد وتوسط الشفعاء لإحداث الأثر المطلوب في إصلاح الطفل، وتكوينه النفسي والخلقي(111).

ثالثاً : التدرج في العقوبة من الأخف للأشد :

وهذا التدرج الذي أشرنا إليه من قبل يعني أن هناك مراحل من المعالجة والتأديب يجب مراعاتها، وعدم اللجوء إلى وسيلة قبل المرور بالتي قبلها؛ لأن المربي كالطبيب ـ كما يقول الإمام الغزالي ـ لا يصلح أن يداوي كل المرضى بعلاج واحد، بل لابد أن تتعدد الأدوية بالنظر لطبيعة جسم كل مريض وحالته الصحية والمرضية.

ولذا فقد تنوعت وسائل الإرشاد والتهذيب تنوعاً واسعاً، فنجد مثلاً التوجيه بالكلمة المرشدة، وذلك ما فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم مع الغلام الذي كانت يده تطيش في الصفحة فقال له صلى الله عليه و سلم : (يا غلام، سمِّ الله وكلْ مما يليك((112).

وكذلك وجَّه النبي صلى الله عليه و سلم بالفعل اللطيف اليسير وهذا ما فعله مع الفضل بن العباس ـ رضي الله عنهما ـ (عندما كان رديف رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحج فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه وجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر((113).

13. حق الطفل في عدم تحميله ما لا يطيق وعدم استغلاله :

إن الإسلام عندما نظر إلى الطفل نظر إليه نظرة تقدر طاقته التي لا تزال في طور النشأة واحتياجه الشديد للغير؛ ،لذا أوجب على الوالدين رعاية الأطفال لما يتصفون به من ضعف واحتياج لمعاونة وإرشاد الآخرين.

وقد كان الشرع الشريف إذ ينطلق من هذه النظرة المدركة لحقيقة الطفل يراعي في كل تشريعاته الرفق والرحمة والعطف والحنان على الطفل، وقد نهى الشرع الشريف لأجل هذا عن تحميل الطفل ما لا يطيق، ويظهر هذا بوضوح في قوله تعالى : { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ}(114).

فقد نهت هذه الآية عن قهر اليتيم وذلك بتحميله ما لا يطيق من أي شيء، فنهى الشرع عن كل صور القهر حتى وصل العطف على الطفل إلى أن يجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم من حق الطفل أن يقبله ويعطف عليه، ويكون من لا يفعل ذلك فقد ينزع الله الرحمة من قلبه، كما سبق أن ذكرناه من كلامه صلى الله عليه و سلم .

ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم المؤمنين أن يساعدوا خدمهم فيما يكلفونهم به من أعمال، فلابد أن هذا إنما كان من رحمة الإسلام التي تقتضي عدم التكليف بما فوق الطاقة، ولاشك أنه إذا كان الشرع أمر بإعانة العبد إذا كلفناه فمن باب أولى يحرص على عدم تحميل الأولاد والأطفال فلذات الأكباد ما لا يطيقون ويحض على إعانتهم إذا كلفناهم بشيء.

ولقد كان من رحمة التشريع الإسلامي أيضاً عدم تكليف العباد بما لا يطيقون فقال تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } (115).

ولذا يستطيع القائل أن يقول : إن الإسلام لا يكلف الأطفال ما لا يطيقون، بل لقد رفع التكليف كلية عن الصبي حتى يبلغ.

14. حق الطفل في عدم استغلاله جنسياً:

لقد وقف الإسلام ضد الممارسات الجنسية المنحرفة وقفة صارمة أراد من خلالها أن يحفظ للطفولة كرامتها وبراءتها التي يسلبهما الاستغلال الجنسي الذي لا يدل على أدنى معاني الكرامة الإنسانية لدى المتجرئ عليه، حيث يصبح الطفل بفعل هذا الاستغلال آلةً أو لعبةً يلعب بها أُناس نزعت من قلوبهم الرحمة والعفة والحياء.

والإسلام وقف ضد كل ما يخل بكرامة الإنسان سواءٌ أكان طفلاً أم غيره وقفةً شرع فيها حدود التعدي على الأعراض والتعزيرات في خدش الحياء العام والخاص، فقال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ }(116).

ولذا عمل الإسلام على حفظ حق الطفل والطفولة ضد كل ما يساعد على الانحرافات الأخلاقية والجنسية، فَمَهَّدَ له طريق العفة والحياء من أول إدراكه لمعنى الحياة، فأمر الوالدين بالتفريق بين الأطفال في المضاجع، وأمر الأطفال بالاستئدان عند إرادة الدخول على الوالدين والأهل لكي يجنب الأطفال مفسدة الاطلاع على العورات في مثل هذه السن المبكرة.

فالإسلام يمنع من ارتكاب الفواحش بعامة ويجرِّم فعلها، ثم يأتي ويزيد الاحتراز في حق الأطفال فيأمرهم بالاستئذان ومفارقة أمثالهم من الأطفال في أماكن النوم.

ولاشك أن الإسلام وهو يحيط الأطفال بهذه الرعاية التامة فإنه يمنع منعاً قطعياً استغلالهم استغلالاً جنسياً أو منحرفاً.

ولقد التقى التشريع الإسلامي في هذا مع الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل وذلك في مادتها رقم(34) التي تنص على منع استغلال الطفل في جميع أشكال الاستغلال الجنسي والانتهاك الجسمي.

15. حق الطفل في عدم تعذيبه أو حرمانه من حقوقه :

ما قدمناه من حقوق للطفل في أن تكون عقوبته تهذيبية وليست تعذيبية تكشف عن منع الإسلام تعذيب الطفل لأي سبب كان؛ لأن الإسلام إذا كان يمنع تعذيب الطفل باستخدامه وسيلة من وسائل الإرشاد والتهذيب فإنه بهذا يمنع التعذيب بشتى صوره في حق الطفل.

ولقد أعطى الإسلام للطفل حقه في أن يمارس حياته بصورة طبيعية، فلا يمنع من ممارسة اللعب والتحرك بما يتناسب وطفولته التي من أهم سماتها كثرة اللعب والحركة، ومن أعظم ما يكشف رعاية الإسلام لحقيقة الطفل وما يحتاجه من ممارسات ما كان يفعله النبي صلى الله عليه و سلم مع الأطفال، فتارة كان يترك النبي صلى الله عليه و سلم الحسن والحسين يصعدان على ظهره وهو ساجد فلا يقوم من سجوده إلا بعد أن ينزلا من فوق ظهره صلى الله عليه و سلم ، وكيف كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يسمح للسيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ باللعب مع صويحباتها بالبنات.

وغير ذلك كثير من ترك النبي صلى الله عليه و سلم الفرصة للأطفال لكي يشبعوا حاجتهم الطبيعية إلى اللعب والنشاط والحركة.

وهذا يعني أن الإسلام لم يحرم الطفل من حقه في التمتع بالمرحلة العمرية التي يحياها بدون أن يحرمه من حقوقه البدنية من اللعب والنشاط والحركة.

ولقد تضمنت المادة(37) من الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل النص على عدم حرمان أي طفل من حريته بصورة غير قانونية، وكذلك تضمنت المادة(31) من نفس الاتفاقية النص على حق الطفل في مزاولة الألعاب والأنشطة التي تنسجم مع مرحلته السِنِّيَّة.

16. حق الطفل في تعويده على الشجاعة والحرية في إبداء الرأي :

أشرت من قبل إلى أن الإسلام حرص على تعويد الأطفال مكارم الأخلاق وهنا نشير إلى الأخلاق الاجتماعية التي حرص الإسلام على ترسيخها في نفوس الأطفال. فمن هذه الصفات :

الشجاعة : فقد ربى الإسلام المسلمين بما فيهم الأطفال على الشجاعة وذلك من خلال ترسيخ قاعدة الخوف من الله، فحسب تلك القاعدة التي أرستها نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، من هذه قوله تعالى : { وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ }(117)، فلقد تربى أطفال المسلمين على معنى عدم الخوف إلا من الله وكذلك على معنى الجهاد في سبيل الله الذي يبث في نفوس المؤمنين القوة والشجاعة فقد قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ }(118).

ولمَّا ترسخت الشجاعة في نفوس أطفال المسلمين طلبوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يخرجوا في الجهاد في سبيل الله، وهذا ما فعله عبد الله بن عمر ــ رضي الله عنهما ــ عندما عرض نفسه على رسول الله صلى الله عليه و سلم ليخرج معهم في الجهاد في سبيل الله(119).

وكذلك كان أطفال المسلمين يربيهم رسول الله على حرية الرأي ويظهر ذلك عندما يسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن مثل المؤمن في شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء فلا يعرف الصحابة الإجابة، وكان من بينهم ابن عمر ــ رضي الله عنه ــ فلما انصرفوا قال لأبيه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ :(لقد كنت أعرف يا أبي أنها النخلة ولكني استحييت أن أتكلم((120).

فالشاهد أن السؤال وجِّه لجميع الصحابة بما فيهم الصغار، مما يكشف عن حرص الإسلام على أن يربي أبناءه على الحرية في إبداء الرأي، وفي ذلك أيضاً حُسْنُ أدب ابن عمر وتوقيره لأكابر الصحابة الحاضرين.

كما ربى الإسلام أطفال المسلمين على احترام الكبار كما ذكرنا من قبل في حديث : (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا(.

وبالجملة فقد حرص الإسلام على تنشئة أطفال المسلمين على مكارم الأخلاق ومعاليها وذلك انطلاقاً من قوله صلى الله عليه و سلم : (إن خياركم أحاسنكم أخلاقاً((121).

الخاتمة

وهكذا يتبين مما سبق المنزلة الرفيعة التي حظيت بها مرحلة الطفولة في التشريع الإسلامي، بحيث تعلقت بها أحكام كثيرة، ونيطت رعايتها بكل من الوالدين وذوي القربى وكلِّ المجتمع ، وقد تأكد ذلك كله من خلال آيات القرآن المجيد وأحاديث الهادي البشير ـ صلوات الله عليه ـ ، التي تؤسس لكل هذا وتضع له المعالم البارزة والقواعد التي يقاس عليها.

وقد تبين كذلك من خلال التفصيل السابق أن ما جاءت به الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل (الصادرة عن الأمم المتحدة في نيويورك سنة 1990) لا يخرج في كلياته ولا جزئياته عما قرره الإسلام للطفل من حقوق (قبل أربعة عشر قرناً من الزمان)، مع امتياز ما قرره الإسلام للطفل من حيث مراعاته المحافظة على منظومة القيم الدينية والأخلاقية كلها. ففي شرع الله لا يجوز حق طائفة من المجتمع على حق طائفة أخرى، ولا تتعارض المصالح، بل ينسجم الكل في إطار العبودية الحقة لله ــ تعالى ــ والتزام شرعه الحكيم.

وإذا كان من توصية يمكن أن نخرج بها من هذا العرض المختصر ــ نظراً لضيق المساحة والوقت ــ، فهي أن نكرر أهمية تأصيل هذه المعاني الحقوقية في التشريع الإسلامي، وزيادة التوعية والتنويه بها بكل الطرق الممكنة (لاسيما عبر وسائل الإعلام المختلفة وشبكة المعلومات الدولية (الإنترنيت()، وذلك في سياق تعريف العالم أجمع بحقيقة الإسلام وقيمه الحضارية ونسقه الرباني الفريد… فذلك خير وأجدى من الصراخ ــ كلَّ حين ــ بأن الإسلام متهمٌ بكذا وكذا ظلماً وبهتاناً، فالحقائق هي خير برهان وجواب على ما يروجه أعداء الإسلام الذين يكتمون الحق وهم يعلمون.

وغنيٌّ عن القول أن نوصي بأن نكون ــ نحن المسلمين، في مجتمعاتنا وبيوتنا ــ مثالاً مشرِّفاً لقيم الإسلام النبيلة وحضارته الفريدة، بالتزامنا بما نؤمن به من الشرع الشريف، وما ندعو إليه من القيم الحضارية النبيلة، وذلك حتى لا نقع تحت طائلة هذه الآية الشريفة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ! كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ }(122) …فلن تتحسن صورتنا لا في الغرب ولا في الشرق حــتى نتحسـن نحـن فـي أنفسـنا أولاً : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }(123)، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله

بقلم/ علي أبو حبله