ما سمي بقرار تبييض المستوطنات العشوائية أو اللاشرعية جريمة جديدة تعيدنا إلى تجاربنا المتواصلة في السعي لتهويد بلادنا وتجعلنا نعود تلقائيا إلى ما آل إليه وضع الهنود الحمر في الولايات المتحدة مع أنهم الأصحاب الحقيقيين لأمريكا وأرضها ونحن نرى الاحتلال يهود أرضنا علنا بل ويضع المفردات في أفواهنا حتى نعجز عن إيجاد بدائلها في اللغة فنحن نردد من وراءه مصطلحاته التي يفرضنا عليها فالقول بمصطلح المستوطنات العشوائية يعني أن هناك مستوطنات طبيعية ونظامية والقول بمصطلح المستوطنات العشوائية او الاستيطان العشوائي يعني بالضرورة أن هناك مستوطنات واستيطان شرعي ويردد الفلسطينيين بما فيهم الساسة نفس الكلمات بكل بجاحة ودون أن يتعبوا أنفسهم بالبحث حتى عن مفردات أو مصطلحات بديلة وللأسف فان مفكرينا وكتابنا ومثقفينا والأكاديميين جميعا لا يحاولون بذل جهد بحثي لإيجاد بدائل لغوية ضد مفردات ومصطلحات الاحتلال كان نستخدم مثلا مصطلح الاستيطان وتبييض الأسود أو لا شرعنة للصوصية أو لا يجوز للص شرعنة سرقته وباعتقادي أن أكاديميي الجامعات الفلسطينية في اللغة والسياسة قادرين أكثر من غيرهم على إيجاد مصطلح قادر على تسهيل فضح ممارسات الاحتلال بدل تكرار مصطلحاته وتكريسها بما يعني تسهيل قبول معانيها حتى علينا نحن قبل العالم فلماذا لا نسميها مثلا المستنقعات الاستيطانية ثم نكيف أوصافها وما يتعلق بها كتعبير تجفيف المستوطنات أو منع تلوث البيئة من المستنقعات الاستيطانية وما إلى ذلك.
الحالة التي تجري تشبه تبييض المستعمرين البيض للون أمريكا الأحمر المنسجم مع لون أصحابها لتصبح مع الزمن بيضاء تحمل لون مغتصبيها ومن يجوب طرق الضفة الغربية وبين مدنها ومناطقها يرى جيدا كيف يسعى الاحتلال إلى تغيير طبيعة البلد ولونها لتصبح على لون المغتصبين لبلادنا ونحن لا نجد بديلا عن ممارسة الترديد الغبي لما يوضع في أفواهنا وعلينا أن نحذر جيدا من مصطلحات الأعداء والتعابير السياسية التي نستخدمها فاحد منا لم ينصت جيدا لصرخة الملك الراحل الحسين بن طلال حين حذر استخدام التعبير الدارج " الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967م بما فيها القدس " وقد وصف بحق استخدام تعبير بما فيها القدس بأنه سيعني تدريجيا فصل القدس عن الأراضي المحتلة عام 1967م باعتبارها شيئا مختلفا وهو يظهر من التعبير كان القدس ليست من الأراضي المحتلة عام 1967م أو أن اسمها قد تم إقحامه دون وجه حق أو أن الأمر يمكن نقاشه وهو ما جعل حال القدس اليوم على ما هي عليه من خصوصية يتعامل معها كل العالم بما فيه نحن لكارثية إدارتنا لقضايانا.
في عام 1507 صمم فادسيملر خريطة العالم الجديدة ووضع عليها اسم أمريكا لأول مرة نسبة إلى امريكو فيسبوتشي الذي استكمل ما بدأه كريستوفر كولومبوس ومنذ ذلك التاريخ أي بعد اكتمال الإعلان عن ما قام به فيسبوتشي أي قبل خمسمائة عام تقريبا شرعت طلائع المستعمرين البريطانيين والاسبان إلى القارة الأمريكية بحملة تبييض القارة الحمراء آنذاك وتحول الفعل الاستكشافي إلى فعل استعماري واستخدمت بريطانيا كل حضارتها للتخلص من لون بشري بأسره عبر إلغائه واستباحة أرضه تماما.
قبل أكثر من مائة عام شرع المهاجرون اليهود العربون من جحيم العنصرية الأوروبية ضد اليهود في اللجوء إلى فلسطين عبر تشجيع بريطاني أوروبي لذلك وقد حاول وزير المستعمرات البريطاني بلفور أن يكون فيسبوتشي جديد على الورق بإصداره وعده المشئوم لليهود وكأنه بذلك يفتح الأبواب لتهويد بلد بأسره عبر إلغاء شعب واستباحة أرضه وكما فعل البريطانيون والاسبان وغيرهم بسعيهم بتبييض القارة الأمريكية عبر إلغاء القائم واستبداله لا عبر إيجاد سبل لتحضيره وتطوره فعل الصهاينة وحلفائهم نفس الشيء بالسعي لإلغاء عروبة البلد عبر التخلص من ناسها مسلمين ومسيحيين وإحلال اليهود الفارين إليها مكانهم.
المستعمرين الأوروبيين لأمريكا استقدموا معهم أدواتهم من العبيد إلى هناك ليكونوا طعاما للنار بهدف إلغاء ما يقرب من 90 مليون إنسان كانوا يعيشون على ارض القارة الأمريكية ممن أسموهم الهنود الحمر وكذا فعل المتمولين اليهود الذين استحضروا الفكرة الصهيونية وجذبوا إليها فقراء اليهود ممن يعيشون تحت أقسى ظروف الاضطهاد الأوروبية وغيرها ودفعوهم للهجرة إلى فلسطين وقودا للموت لتهويد البلد العربي وإلغاء سكانه تمهيدا لتحقيق أطماعهم بالسيطرة.
اليوم يبلغ عدد الهنود الحمر حوالي4.1 مليون نسمة، يمثّلون فقط 1.5% من إجمالي تعداد السكان في الولايات المتحدة وقد كانوا ذات يوم كل سكان البلد بينما يبلغ تعداد العرب الفلسطينيين أصحاب البلد الحقيقيين والذين كانوا ذات يوم كل البلد بلا منازع إلى أن أصبحت النسبة في العام 1914م مع اندلاع الحرب الاستعمارية الأولى كانت النسبة 92% لصالح العرب و18% لصالح اليهود لتصبح قبيل إنشاء دولة الاحتلال وذلك في العام 1947م لتصبح 69% للعرب و 31% لليهود بفضل الاجراءات الاستعمارية البريطانية ومخططات الحركة الصهيونية.
يوجد اليوم في الولايات المتحدة 556 قبيلة من الهنود الحمر معترف بها وقد ذكرت مجلة هاي – الأمريكية طبعة- مايو 2004 أنه من بين كل أربع قبائل تعيش قبيلة واحدة بأكملها في فقر… ويعيش أكثر من نصف مليون منهم في محميات مستقلة” وتوضح مجلة هاي معنى تعبير المحميات المستقلة وهو الاسم الذي يطلق على أماكن تجميع الحيوانات – بأنها: “عبارة عن مساحات من الأرض أَرغَمت حكومة الولايات المتحدة هذه القبائل على الانتقال والعيش فيها قبل أكثر من قرن من الزمان”. وتتابع مجلة هاي في نفس العدد: ” وتنتشر البطالة وإدمان الكحول في هذه المحميات، كما أن الانتحار والأمراض منتشرة على نطاق واسع أيضاً، والقليلون منهم فقط هم الذين يهربون من هذا الواقع الأليم ويعيشون حياة أفضل”. وحسب وصف الصحفي أمريكي نِك كولاكاوسكي فان هذه المناطق " أسوأ من كثير من المناطق الفقيرة في العالم… كلاب ضالة.. ورش صغيرة تنفث الدخان.. سيارات قديمة… خرابات لاستنشاق المخدرات ", ويذكر كولاكاوسكي أن نسبة الحاصلين على شهادات جامعية بين السكان الأصليين 11 % فقط، وأن 50% منهم لا يتمتعون ببرامج الحكومة… وينقل عن جنيفر تاريولي23 عاما من قبيلة كريك، والبالغة من العمر 23 ربيعا: "إنه لأمر صعب أن يجد المرء عملا في هذه الأنحاء، وتقول إلى أن 80% من السكان لا يجدون عملاً على الإطلاق".
أمريكا بلد الحريات والمدافع عن حقوق الإنسان في كل العالم زورا تنتهك حقوق أصحاب البلاد الأصليين علنا وتمارس ضدهم شتى صنوف التمييز العنصري فهي تقيم لهم إدارة خاصة بهم للخدمات الطبية ويقول مدير هذه الهيئة كريج فاندرواجن " توجد عيادة صحية للسكان الأصليين تزدحم أيام الجمعة، مرضى وممرضات.. أطفال يصرخون.. جروح تتطلب العلاج وإصابات… وتقع هذه العيادة المحلية في الطابق السفلي لأحد مساكن الطلاّب التابعة لجامعة ولاية أوكلاهوما " إلى جانب أن حكومة الولايات المتحدة حرمت الهنود الحمر من التحدث بلغتهم الأصلية ولعقود طويلة من الزمن كما منعتهم من ارتداء الزي القومي والاحتفالات القبلية الخاصة بهم مثل طقوس رقصة الأشباح الخاصة بقبيلة سيوكس.
الأستاذة الجامعية في جامعة كاليفورنيا كارين بيرد تصف الحال بالقول " إنه استعمار… نحن ببساطة ضحايا الاستعمار الداخلي. فالناس ينسون جذورهم، ويخامرهم الشعور بالعار إزاء هويتهم الحقيقية. لدينا أعلى معدل للانتحار بين الشباب بسبب أزمة الهوية "
هذه هي الحال اليوم لأصحاب البلاد الأصليين الذين تم الفتك بهم بأبشع الصور وحتى بعد أن قبل زعماء القبائل بعقد اتفاقيات صلح مع المستعمرين استغل أولئك اتفاقيات الصلح التي كانوا يتوجونها بمنح القبائل الهندية بعض من الأغطية وتم إرسال أغطية ملوثة بجراثيم الطاعون والحصبة والسل وعديد الأمراض تم جلبها من المصحات الأوروبية وتسليمها لهم كهدايا سامة للتخلص منهم باسوا فعل منافي لأبسط قواعد الحياة الإنسانية ففي خطابه إلى احد الأطباء " هنري بواكيه " قال القائد الانجليزي العام " جفري امهرست " طلب منه ان يجري مفاوضات مع القبائل الهندية وان يهديهم بطانيات محملة بجرثومة الجدري وقد رد عليه ذلك الطبيب – لاحظوا أن مهنته طبيب – قائلا " سأحاول جاهدا أن اسممهم ببعض الأغطية الملوثة التي سأهديهم إياها وسآخذ الاحتياطات اللازمة حتى لا أصاب بالمرض " وأكثر من ذلك فقد لجأت السلطات الاستعمارية إلى دفع مكافآت لمن يقتل هنديا احمر وخصصت مبلغ 100 جنيه إسترليني بدل رأس الرجل الهندي الأحمر الواحد و 50 جنيه إسترليني بدل رأس المرأة أو الطفل مما أنتج مهنة جديدة هي مهنة صائدي رؤوس الهنود الحمر الذين كانوا يحضرون رؤوس من يقتلون ثم استبدلوا ذلك بإحضار فروة الرأس فقط ويروي السفاح الانجليزي " لويس وتزل " أن غنيمته من فرو رؤوس الهنود لا تقل عن 40 فروة في الطلعة الواحدة " ويذكر أن الرئيس الأمريكي " اندريه جاكسون " والذي يعتبر بطلا قوميا أمريكيا وتحمل ورقة العشرين دولار أمريكي صورته عرف عنه التمثيل بجثث الهنود الحمر وقد أقام حفلة خاصة مثل فيها بجثث 800 هندي احمر بينهم الزعيم القبلي " مسكوجي " ولى جانب ذلك كانت وسيلة التهجير القسري للقبائل الهندية من أماكن سكناهم إلى المناطق الموبوءة للتخلص منهم.
كل ما تقدم يذكرنا اليوم بكارثية الاحتلال بتهجير الفلسطينيين وتخويفهم وبث الرعب في نفوسهم وما تقوم به قطعان المستوطنين من قتل وحرق بيوت وبشر واقتلاع الشجر ومل أشكال تنغيص الحياة اليومية على الفلسطيني بكل مكان, كل ذلك يصب في نفس الخانة التي سلكها أجدادهم المجرمين من المستعمرين البيض للقارة الأمريكية.
الهنود الحمر في أمريكا الديمقراطية ورافعة لواء حقوق الإنسان اليوم والتي نحلم أن تقف إلى جانبنا ضد الاحتلال والاستيطان يعيشون أبشع صنوف القهر في معازل أو محميات مغلقة كتلك التي يخطط لها الاحتلال الإسرائيلي لنا عبر تمزق الضفة الغربية بمستنقعات كبيرة من المستوطنات تضمن تحويل الضفة إلى معازل ومحميات عربية مغلقة تشبه محمية " ساوث داكوتا " الخاصة بالهنود الحمر كدولة مستقلة تخضع لسيطرة الولايات المتحدة مع أن لها قوانينها وأنظمتها الخاصة بعد أن اجبروا سكانها على عدم التحدث بلغتهم القبلية وتغيير زيهم الشعبي وحتى أسمائهم ونحن نرى التهويد اليومي لكل شيء في حياتنا بما في ذلك أسماء بلادنا وحتى لغة التخاطب ويعرف الجميع كيف تتغلغل العبرية إلى مفرداتنا اليومية ومن يراقب سياسة التجهيل تجاه شعبنا في الأراضي المحتلة عام 1948م سيعرف جيدا إلى أين تذهب بنا سياسة الاحتلال وكيف يقرؤون جيدا تجربة إلغاء شعب بأكمله على يد أجدادهم المستعمرين البيض لأمريكا وها الصهاينة التلاميذ النجباء للامبريالية الأمريكية اليوم يرفعون شعار تبييض المستوطنات علنا دون ان يصدر عالم التمدن والحريات صوتا واحدا.
بقلم
عدنان الصباح