اعتاد أن يجلس عند عتبة المسجد الكبير في مركز مدينة خان يونس، فإذا ما أنهكه الجلوس اضطجع في مكانه على حصيرة قديمة، لم تغادر كومة من الملابس يعلوها البالطو جسده صيفاً أو شتاءاً، كنا نعجب كيف يمكن له أن يحتمل كل ذلك سيما في ايام الصيف الحارقة، ترك لحيته على حال سبيلها تتمدد على صدره، لم يعتد الحديث مع المارة باستثناء رد التحية وأن يحمد الله إذا ما تعلق الأمر بسؤال عن أحواله من أحد المارة، كانت الكلمات تخرج منه متثاقلة كأنه يعبر بها عقود عدة من المعاناة، سنوات حياته العجاف أضعاف تلك التي جاءت في تفسير سيدنا يوسف للحلم، كان اسمه يوسف لعل ذلك هو أكثر ما نعرفه عنه، لا أحد يعرف امتداده العائلي ولا السبب الذي جيء به إلى هذا المكان وتحول مع مرور السنوات إلى ركن منه، قلما يغادر مكانه وإن فعل يعود إليه دون ابطاء. تلك هي صورة يوسف الرجل الطيب قليل الكلام وقليل الحركة التي يعرفها الكثير عنه.
خلال انتفاضة الحجارة لم تكن وسائل الاعلام قد اقتحمت فضائنا، ولم تخلق بعد وسائل التواصل الاجتماعي التي حولت المجتمعات إلى صالون للثرثرة تتنقل في اثيره الكلمات والمعلومات بكل يسر، لم يكن أمام القيادة الوطنية العليا للانتفاضة سوى الاستعانة بجدران المنازل منبراً إعلامياً تخط عليها شعاراتها، وأن تستعين بالبيانات الورقية للإفصاح عن برنامجها الاسبوعي لفعاليات الانتفاضة، وعادة ما تكون المساجد مكاناً لتوزيعها، ومن الطبيعي أن يحتل المسجد الكبير أولوية في ذلك كونه الأكبر في مدينة خان يونس يضاف إلى ذلك موقعه الذي يتوسط الحركة التجارية في المدينة، كان يوسف يستلم اسبوعياً رزمة من بيان القيادة الموحدة ليخفيها أسفل البالطو في انتظار موعد الصلاة مستغلا لحظة سجود المصلين ليضع ما في جعبته بجواره، مستعيناً بحركته البطيئة التي تجبره على التأخر دوماً عن حركة باقي المصلين يضاف إلى ذلك الركن الذي يقيم فيه منذ سنوات عند عتبة المسجد، لم يتبادر الشك إلى أي من المصلين أن يوسف هو من يقوم بذلك، والمؤكد أن يوسف ذاته الذي لا يعرف القراءة ليس على معرفة بمحتوى البيان ولا الجهة التي تقف خلفه، لكنه يعرف جيداً أنه يقوم بعمل فيه خدمة للوطن.
لم يتقدم يوسف بسيرة ذاتية وهمية كما فعل البعض للاستحواذ على وظيفة في مركبات السلطة الفلسطينية، ولم يبحث عن مرتبة تنظيمية تشهد له بمكانته في وطن يهيمن عليه العمل الفصائلي، ولم يزاحم احداً في وطنيته، ويوم طالته يد آثمة داخل المسجد طمعاً في القليل من النقود التي بحوزته من الصدقة، لم تهتز المدينة للجريمة التي اودت بحياته بقدر ما اقتصرت على ما فيها من قدسية المكان، ولم تتسابق الفصائل فيما بينها لتبنيه شهيداً كما تفعل دوما حتى مع أطفالنا.
رحل دون أن يفصح عن شيء من أسراره ودون أن يسمح لاحد بالاطلاع عليها، رحل بصمت قبل أن تستولي راياتنا الحزبية على ساحات الوطن، وقبل أن نسفك دمنا بأيدينا ليتربع كل منا على مملكته، رحل قبل أن ينعته البعض بالخيانة تارة والكفر تارة اخرى وقبل أن نلاحقه بتهمة التجنح، رحل قبل أن يستمع للمناكفة فيما بيننا التي نتقن فنونها وهجماتنا المتبادلة التي نستحضر اليها ما ثقل وزنه من الاتهامات، رحل ومعه رحلت قيم كبيرة نفتقدها ونحن اليها كان الوطن عنواناً لها.
د. أسامه الفرا