في معاني الذكرى الثانية والخمسين للإنطلاقة ذاهبون إلى باريس

بقلم: حسني المشهور

أمسية الخميس 2

برصيد الإنجازات المتراكمة للانطلاقة وبهذا القرار ... ذاهبون إلى باريس

قبل أن أبدأ حديثي أود التذكير بأن ما وصلنا إليه وما نراه ونسمعه من ساسة وقياديين في هذا العالم منذ بداية الغزوة الصهيونية والنكبة ما كنا لنراه ونسمعه لولا هذا الصمود الأسطوري وسيل التضحيات لشعبنا فتحية إكبار وإجلال لقوافل الشهداء والجرحى والأسرى ... وتحية إكبار وإجلال لشعبنا الصامد المثابر على أرض الوطن وفي المنافي ومخيمات الشتات .

واقعة غير مسبوقة في التاريخ المعاصر أن تعيش حركة تحرر وطني طوال هذه الفترة محتفظة بحيويتها وقدرتها على الفعل والمناورة بالأساليب متخطية كل العقبات والألغام وهي تسير نحو أهدافها بذات العزيمة والتصميم التي انطلقت بها ولأجلها . ذلك أنها لم تنطلق لاستعادة حارة أو قطعة من فلسطين بل أخذت على عاتقها أن تتحمل قضية نشأت بافتعال خطأ تاريخي بعكس المنطق واختارت أن تتصدى لتصحيحه وبعكس المنطق أيضاً لتستعيد كل فلسطين . وانطلقت في أول يناير 1965 محددة لمبادئها وأهدافها وأساليبها لتحقيق هذه الأهداف ، وهنا يجب التأكيد أنه طوال مسيرتها لم ولن تتراجع أو تغيّر من هذه المبادئ والأهداف في حين انها بحكم طبيعتها غير الأيديولوجية كانت وما زالت مستعدة للتغيّر في أساليب المواجهة وفقاً للمتغيرات وظروف الواقع في الساحات الوطنية والإقليمية والدولية ... وقد تطرقنا لذلك في أمسيات سابقة . وكان أهم تغيير في هذه الأساليب هو تجزئة مراحل النضال والذي بدأ ببرنامج النقاط العشر واستقر بوضوح في حل الدولتين والانتقال من الكفاح المسلح إلى النضال بالوسائل السلمية بتوقيع اتفاقية الإطار في أوسلو 1994 ... إنها فتح التي لا تتألق إلا في الأزمات .

الإخوة الأعزاء :

اليوم وبهذا الرصيد المتراكم من إنجازات حققها شعبنا بصموده وتضحياته طوال مسيرة فتح منذ انطلاقتها ، وبهذا القرار 2334 لمجلس الأمن نحن الفلسطينيون ذاهبون إلى باريس ... ذاهبون ليضع الشعب الفلسطيني حقوقه ودولته الفلسطينية على الخارطة السياسية الجديدة للعالم الجديد الجاري إعادة الصياغة والتركيب لشعوب وحدود دول ... هذا الشعب الذي كان وما زال أول المتمردين على سايكس بيكو وأول المتمردين على نتائج الحربين العالميتين وأول المتمردين على القرن الأمريكي تتوجه قيادته اليوم إلى باريس ومعها هذا القرار 2334 بكل ما يعنيه ومن كل ما بين سطوره عندما نجيد قراءتها ونجيد العمل عليها ، ذاهبون إلى باريس لتذكير الرئيس الأمريكي ترومان ومن خلفه ومن صدّق ادعاءاته بأن كبار الفلسطينيين سيموتون وأن أطفالهم سينسون نذكرهم بأنه لا كبارنا ماتوا وإذا غادرتنا أجسادهم فإن أرواحهم وأحلامهم ووصاياهم تسكننا ، وصغارنا يهزمون النسيان كل يوم ...

باستعراضنا الليلة لقرار مجلس الأمن الأخير انما نبحث لنعرف كيف نستفيد منه ونباشر العمل بما نستطيع لمراكمة المزيد من الإنجازات وصولاً الى الهدف ، ولا يجوز أن نتستر نحن أو بعضنا أو غيرنا من الأشقاء والأصدقاء على عجزنا و عجزهم بحجة افتقاد هذا القرار وغيره لآليات التنفيذ ومن سيقوم بتنفيذه ... وكأننا ننتظر من ينفذه نيابة عنا ... ولماذا لا نكون نحن من يضع هذه الآليات ويباشر التنفيذ !!!

سأبدأ حديثي بمرور سريع على بنود القرار ثم أنتقل لتوضيح قيمته التاريخية والاستراتيجية في سياق التصدي ليس للاحتلال الصهيوني الذي وقع في حزيران 1967 فقط ، وإنما في سياق التصدي لغزوة التحالف الأنجلوسكسوني الصهيوني لفلسطين وصولاً إلى نكبة 1948 والرد الفلسطيني عليها بظهور حركة فتح وقيادتها للمسيرة .

أيها الإخوة : هذا القرار سبق عرضه على مجلس الأمن مرتين في الأعوام 2011 ، 2014 وفي كل مرة كان ينال 14 صوت وفيتو أمريكي ، ولكن المهم في هذه المرة هو إنجاحه بالامتناع الأمريكي عن التصويت ضده إلى جانب الإفصاح العلني بهذه الصياغة القوية والمؤثرة لــ جون كيري في تفسيره لسبب امتناع بلاده عن التصويت وعن الجهة التي تتحمل مسؤولية تعثر المفاوضات ... إفصاح سيكون له ما بعده في الداخل الأمريكي خصوصاُ والغرب عموماً وسنراه في سياق الحديث !!!

ولتوفير الوقت ستوزع نصوص قرارات مجلس الأمن الخمسة حول الاستيطان بالإضافة إلى بيانات وتقارير اللجنة الرباعية الدولية وخارطة الطريق ومبادرة السلام العربية لمن يرغب في المقارنة للتثبت من صحة القراءة السياسية وسويا نضع الأسئلة الصحيحة وصولاَ للاستنتاجات الصحيحة لأبعاد هذا القرار ومعانيها ، وسأبدأ حديثي بالأهم منها ثم المهم وهي :

أولاً : أهم ما في هذا القرار أنه يتكلم عن دولتين دولة الكيان الصهيوني في حدود ما قبل 4 حزيران / يونيو 1987 ودولة حدودها الأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها بعد هذا التاريخ من عام 1967 ، ولا يتكلم كسابقاته الأربعة 446 ، 452 ، 465 ، 478 الصادرة في عامي 1979 و 1980 التي كانت تشير إلى الكيان الصهيوني كدولة ، وإلى الأراضي العربية والفلسطينية ( لا تشير إلى دول ) وكانت دولة الاحتلال يدعمها كثير من الدول الغربية تتمسك بتسميتها بالأراضي المتنازع عليها ( أي أن ما معنا هو لنا وما تعتقدون أنه لكم فهو لكم ولنا ) ... وهنا معنى إشارة الرئيس لعبارة منذ 36 عام.

ثانياً : القيمة التاريخية لهذا التحديد لا تكمن في تثبيت حل الدولتين كمرجعية لتسوية ظرفية فقط ... وإنما الأهم من ذلك هو قيمتها وأثرها على الرؤية والتفسير للروايتين الفلسطينية والصهيونية ، فالرواية الفلسطينية قائمة على أن فلسطين التاريخية تخص العرب الفلسطينيين وحدهم كون أجدادهم الكنعانيين أول من سكنها وتتالى نسلهم على سكناها وعمارتها ... وهذا النسل ما زال موجوداً عليها رغم تتالي الغزوات والفتوحات ... وأنهم يقبلون بحل الدولتين كتسوية في هذه الظروف من موازين القوى لإيجاد حالة من التعايش تخفف من حدة هذا الصراع الدامي الذي يتصدى له الفلسطينيون منفردين . هذا في الوقت الذي تقوم فيه الرواية الصهيونية على شقين الأول هو أن فلسطين هي أرض الميعاد التي وهبها الله لنبيّهم يعقوب ( إسرائيل ... مع أنه نبينا أيضا )... والثاني هو أن فلسطين كانت أرض بلا شعب وأعطيت لشعب بلا أرض !!! وهذا القرار 2334 يقول بأن هنا أرض فلسطين وهنا كان وسيبقى شعب فلسطين .

ثالثاً : أن القرار الذي حدد حدود دولة فلسطين إنما يسقط الشق الأول من الرواية الصهيونية ... وفي الحقيقة فإن هذا هو السبب الأساس وراء كل هذا السعار الذي نراهم فيه بعد القرار ... مع أن الكثير من قادتهم يدركون لماذا شطب ترومان كلمة الدولة اليهودية واستبدلها بكلمة إسرائيل ... ويعرفون لماذا جعلت أرض الضفة الغربية ضمن حدود الدولة العربية وليس ضمن حدود الدولة اليهودية ... ونعرف نحن أن إعلان بلفور لم يكن بداية القضية الفلسطينية ... وعندما تكون يهودا والسامرة ضمن حدود الدولة الفلسطينية وتحت سيادتها ... أليس هذا إسقاطاً لأحد شقي الرواية وكشفا لزيفها.

رابعاً : أن القرار الذي يؤكد على حل الدولتين في زمن التراجع السياسي والاقتصادي الأمريكي ، وزمن العجز والفشل لجيش الكيان الصهيوني عن الانتشار والبرطعة خارج الحدود وتقوقعه لحماية مستودعات السلاح والمنشآت الأمريكية المنتشرة في أرضنا المحتلة وبالكاد لحماية المستوطنين إنما يعبر عن تآكل وتراجع الدور الوطيفي لهذا الكيان ويفتح الباب لتجفيف نبعاً أساسيا من ينابيع الدعم لهذا الكيان وهذا هو السبب الآخر وراء هذا السعار الذي يعيشونه ... لأنهم يدركون التهديد الحقيقي لهذا الجانب وأثره على استمرارية كيانهم .

خامساً : إن الامتناع الأمريكي عن التصويت ضد القرار وما قالته مندوبة الولايات المتحدة في جلسة التصويت وما قاله بعدها جون كيري لتفسير سبب امتناعهم عن التصويت ضد القرار لتفسير يجب أن نفهمه في السياق الأساس للرؤية الأمريكية لنشأة الكيان الصهيوني في المنطقة ودعم أمريكا والغرب عموماً له على أنه كيان وظيفي لخدمة مصالح من قاموا بتأسيسه ... والأمثلة عديدة على تذكيرهم لقيادات هذا الكيان كلما حاولوا التمرد على هذه الحقيقة مثل : فرض انسحابهم من سيناء مرتين ... وإحضارهم إلى مدريد ... وفرض إطالة زمن الحرب الأخيرة على لبنان لأسبوعين إضافيين ... ولعل صيحة جولدا مئير الشهيرة : لإسرائيل ألهين ... الله وأمريكا بعد أن تطاول شارون وخرج يطالب بالشراكة مع أمريكا فينتهي به الأمر وبقياداته إلى إعلان الشرك بالله ، ناهيك عن استحضار تهم الفساد والتحرش الجنسي ومحاكماتها ، فكان هذا الامتناع عن التصويت وما سيتبعه من إجراءات لتذكير المتغطرسين في هذا الكيان بدورهم وحدود سلوكهم ضمن هذا الدور .

سادساً : في الامتناع الأمريكي عن التصويت ضد القرار ، ثم في الشرح المستفيض لجون كيري عن أسباب امتناعهم وهذا التوضيح لوصف التمادي الصهيوني يشير إلى أنه لم يكن من فراغ ذلك التسريب الذي تم للوثيقة الصادرة عن المؤسسات الأمنية الأمريكية تحت عنوان شرق أوسط بدون إسرائيل وخلصت إلى ضرورة عدم رسم السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط اعتماداً على تقديرات إسرائيل ... وهذه الوثيقة سيق أن تعرضنا لها في الأمسية التي كانت منذ فترة عن تفكيك دولة إسرائيل . ( وهنا وبغض النظر عن أفعال الإدارة الأمريكية ضد شعبنا وقضيتنا علينا أن نتوجه بجزيل الشكر لجون كيري الذي أعطانا 75 دقيقة على شاشات الفضائيات في كل الدنيا لنفضح على لسانه جرائم الاحتلال ... )

سابعاً : بهذا القرار وما رافقه من المواقف الدولية وما قاله جون كيري على شاشات كل الدنيا عادت القضية الفلسطينية إلى موقع الصدارة في الاهتمامات الدولية رغم ما أنتجه من تطوعوا لترويج وتنفيذ حديث الإفك الذي سموه زوراً بالربيع العربي الذي لك يكن له من غرض إلا تغييب فلسطين وتسهيل تصفيتها ... وبه انكشف زيف الدعاة لهؤلاء خصوصاً ونحن نراهم يتهافتون للجلوس مع الطواغيت التي قالوا أنهم يريدون الخلاص منها بعد كل هذا الدمار والحرائق .

ثامناً : هذا القرار يعطي دفعة قوية للدول والمجموعات التي قاطعت وتدعوا إلى مقاطعة الكيان الصهيوني والمستوطنات وداعميهم ، وتمكنها من رفض تشريعات الحظر التي تفرضها بعض الدول والدوائر عليهم .

تاسعاً : ما سيتركه هذا القرار من أثار على الاستيطان والمستوطنين حتى لو كان بإعلان الوقف المؤقت انما يصيب بالعطب واحد من الأعمدة الثلاث التي يقوم عليها هذا الكيان ( الهجرة ـ الاستيطان ـ الأمن ) .

عاشراً : هذا القرار سيكون دعماً لنا في صراعنا القادم الأكثر شراسة على أرض المؤسسين والداعمين لهذا الكيان . وسيقلل من دعم المواطن الأمريكي خصوصاً والغربي عموماً لهذا الكيان بعد سماع ما يقوله زعماءه.

الإخوة الأعزاء : بكل هذا سيذهب الفلسطينيون إلى مؤتمر باريس بعد اسبوعين ... هم ذاهبون ليس ليكرر الحضور هذا القرار ... انما ذاهبون لتأكيده وإضافة بعض أليات تنفيذه على الأقل وفي مقدمتها تحديد السقف الزمني لإنهاء الاحتلال وليجعلوا منه طريقاً يسهل الذهاب إلى جنيف لتسريع عمل الاتفاقية الرابعة ومحكمة الجنايات الدولية ، وتسهيل العودة إلى مجلس الأمن لنيل العضوية الكاملة ... وسنحصل على الاثنتين بقوة العدالة في قضيتنا . وكما قلنا ذاهبون ليضع الشعب الفلسطيني حقوقه ودولته الفلسطينية على الخارطة السياسية الجديدة للعالم الجديد .

أما ما يتعلق بسلوك ترامب الرئيس الأمريكي الجديد تجاه قضيتنا فسيلاقيه الفلسطينيون بطلب العضوية الكاملة لدولة فلسطين لإشعاره بالوزن النوعي لهم ولها ... خصوصاً أن الآثار التي ستتركها كلمات جون كيري ستكون قد بدأت تظهر مفاعيلها .

وختاماً فإن ما أنجزناه في مجلس الأمن وما سننجزه بعد أيام في باريس وما بعد باريس خلال العام 2017 يعني شيئا واحدا ومهما هو : أننا ورغم كل محاولات تغييبنا فقد نجحنا في وضع أنفسنا قضية وشعبا ووطنا ودولة على الخارطة السياسية التي يجري رسمها لمنطقتنا في هذا العالم الجديد متعدد القوى والأقطاب .

تبقى ملاحظة :

هناك مسألة على غاية الأهمية ولا بد من التأكيد عليها باستمرار والعمل عليها وتحقيقها هي الديمقراطية ... وبالقدر الذي نتمسك بها ونحققه منها نقترب من النصر النهائي الذي كان وسيبقى هدفنا منذ الانطلاقة وحتى يكتمل النصر كما جاء أيضاً في بيان الانطلاقة : إقامة الدولة الديمقراطية التي أقسم وتعاهد عليها أصحاب الانطلاقة والبيان الأول وتبعناهم بذات القسم وذات العهد .

شكراً

بقلم/ حسني المشهور