قلما تجد رجل دين يخرج من فضاء وجدران الكنيسة التي يمارس فيها دوره الديني في الوعظ والإرشاد والتوجيه والدعوة للتمسك بالفضيلة والأخلاق والى المحبة والتسامح والأخوة ومساعدة الفقراء والمحتاجين ونصرة المظلومين والمضطهدين،ليمازج ما بين دوره الديني والوطني.فهذا ليس بالشيء السهل فهناك القيود والموانع المتعلقة والمرتبطة بالإحتلال،واستخدامه لسلطته وصلاحياته في التضييق على رجال الدين وكذلك يدخل هنا الجوانب والإعتبارات الشخصية والدينية ودرجة الإنتماء والوعي والإنصهار مع هموم الشعب وقضاياه،وما يتعرض له هذا الشعب من قمع واضطهاد وانتهاك صارخ للحقوق .
حلب التي عادت لحضن الوطن مؤخراً وانتصرت على المغول والتتار وبرابرة العصر،أرسلت لنا هذا المطران المناضل المقاوم،فحلب وسوريا لم ترسلا لفلسطين يوماً سوى مقاومين ومناضلين،كيف لا وحلب وسوريا هما من احتضنتا شعبنا وثورتنا الفلسطينية منذ النكبة وحتى يومنا هذا،ودفعت ثمناً باهظاً جراء احتضان من اعتبرتهم امريكا والعرب الإستعماري "إرهابيين" وليس مقاومين وطلاب حق وحرية،ولكن البعض منا لم يراع ولم يقدر ثمن وقيمة هذا الإحتضان وفي سبيل مصالحه واجنداته وجهه طعنة غادرة لسوريا.
حلب أرسلت لنا المطران كبوتشي المناضل المقاوم العروبي القومي،كمطران للقدس،وكذلك هي اللاذقية شقيقتها أرسلت لنا الشيخ المناضل المقاوم عز الدين القسام ثائراً ومناضلاً من اجل فلسطين.
ظلم وعسف وإضطهاد الإحتلال وإحتلاله لفلسطين دفعا الشيخ والمطران،للخروج من الجامع والكنيسة،لكي يمارسا الكفاح والنضال والمقاومة الى جانب شعبنا العربي الفلسطيني،وليسقط الشيخ القسام شهيدا في احراش يعبد،وليتوفى المطران كبوتشي في المنفى القسري بعيداً عن قدسه التي أحب،تلك القدس التي فتحت عينيه على مدى الظلم والإضطهاد الذي يتعرض له شعبنا الفلسطيني،ومطران تربى على العزة والكرامة لا يمكن له ان يشاهد اضطهاد رعيته ويسكت،وهي كما قال مع دخوله القدس،أصبح الشعب الفلسطيني رعيته.
ما أعظم هذا المطران المناضل،وما أروع كلماته التي تعبر عن أصالة وعمق انتماء وحس وطني عالٍ ومسؤول عندما يقول"الشعب الفلسطيني، شعب مضطهد مغلوب على أمره، حقوقه مهضومة، كرامته مداسة، فكيف تريدني أنني أعتبر نفسي أب لهذا الشعب،راعي لهذا الشعب،أن أبقى مكتوف اليدين،ضميري ووجداني فرض علي أن أهب لمساعدة هذا الشعب، ولقاء مساعدتي ودفاعي عن حقوقه ألقي القبض علي، وقضيت 12 سنة في السجن،وحكم علي 12 سنة بالسجن قضيت منها أربعة، خرجت بعد أربع سنين بناء على تدخل الفاتيكان بشخص قداسة البابا رحمة الله عليه (بولس السادس).
كل أسرى شعبنا الذين عايشوا المطران الكبير الراحل او شاهدوه في عزل معتقل الرملة،أشادوا به على مستوى الصمود والروح المعنوية العالية،حيث كان يحثهم على الصبر والصمود والمقاومة،فهو لم يهن او يضعف أو يندم على ما قدمه ودفعه من ثمن،بل كانت معنوياته عالية ،منسجم مع ذاته،مقتنعن بما قام به.
هذا المطران النفي القسري لم يفض من عضده،او يجعله يتخلى عن قدسه ،فهو كان دائم الشوق والحنين للقدس،يصلي من اجلها،من اجل أبنائها،يحلم بالعودة إليها،وهو من قال الإنسان يموت جسداً مرة واحدة،ولكن في اليوم الواحد يموت معنوياً أكثر من مئة مرة.
هؤلاء هم المطارنة والشيوخ الذين نعتز ونفتخر بهم،الشيخ القسامي السوري،الشيخ الدكتور العلامة بدر الدين حسون مفتي سوريا،الذي قتلته واغتالته عصابات الإجرام وهو ساجد لله في بيت الله في دمشق، لا لشيء سوى انه رفض إلصاق تهم الإرهاب والقتل والتدمير وإستباحة الأعراض بالدين الإسلامي،اما من هم من الشيوخ ورجال الدين المسلمين،من يدعون ويحرضون على الفتن المذهبية والطائفية،وتشريع القتل والذبح والتدمير باسم الدين،فهؤلاء من يساهمون في تدمير الأوطان وتفكيكك نسيجها الوطني والمجتمعي،ويخلقون ندوباً وثارات بين شعوبها يصعب اندمالها.
من منا لا يذكر البابا شنودة الثالث،هذا البابا القبطي العروبي القومي،كانت مواقفه دوماً مشرفة،يدعو للوحدة والتسامح والعيش المشترك،ولم يفقد اتجاه البوصلة يوماً،ولم يسمح لنفسه أن يعلي ديانته أو مسيحيته فوق وطنيته وقوميته،كما فعلت العديد من الحركات الإسلامية،وهو من قال" والله لو ان الإسلام شرطاً للعروبة لكنا مسلمين"،ولقاء مواقفه الوطنية والقومية تعرض هو الأخر للمضايقات والنفي حيث نفاه الرئيس المصري الراحل انور السادات وحدد اقامته الجبرية بدير وادي النطرون،جراء معارضته لإتفاقيات كامب ديفيد،وعدم موافقته لمرافقته بزيارته لدولة الإحتلال،وكذلك رفض البابا شنودة الثالث التطبيع مع دولة الإحتلال،وزيارة المصريين الأقباط للقدس وهي تحت الإحتلال.
مع رحيل المطران المناضل كبوتشي،تكون فلسطين قد خسرت مناضلاً كبيراً،نذر نفسه لخدم قضية فلسطين والقدس،فهذا المطران قلما تجد من هو بحجم قامته ووطنيته وانتمائه،أن يعمل مطرانا في تهريب السلاح للثوار والمناضلين،هذا عمل تضحوي لا يقدم عليه إلا من جعل مشاهدته للظلم تحسم الخيارات عنده،بأن هذا المحتل لا يمكن له ان يرحل ويقف ظلمه وإضطهاده بالأدعية والصلوات والإبتهالات الدينية،بل لا بد من خوض نضال ومقاومة تردعه عن ظلمه وطغيانه.
القدس وفلسطين خسرتا مطراناً رابط الجأش،كانت القدس همه الأول والأخير،سكنت في قلبه وعقله،والان المطران العربي ابن الرامة في الجليل الغربي عطالله حنا يسير على خطاه،فهو أيضاً مدافعا عنيداً عن القدس،القدس بالنسبة له تعني الوحدة الوطنية والمجتمعية بين أبنائها مسلمين ومسيحيين،فهم هدفهم واحد ومصيرهم واحد وهمهم واحد،هذا المطران تجده لا يغيب عن مناسبة او مناشطة او فعالية من اجل القدس وفلسطين،تراه حاضراً في كل الساحات والميادين،سكنته كما حال المطران الراحل القدس وفلسطين،ويدفع ثمن ذلك مضايقات مستمرة وافتراءات من قبل حكومة الإحتلال،ناهيك عن حصار داخلي يتعرض له وصل حد قطع راتبه.
فلسطين بخير مع مثل هؤلاء المطارنة،وكذلك هي سوريا،فشعبنا العربي على امتداد ساحاته،لم يعرف التفرقة والمذهبية والطائفية،إلا من بعد تغلل الفكر الوهابي التكفيري في صفوفنا،ببركات ما يسمى ب"ثورات " الربيع العربي،وسيطرة هذا الفكر الإقصائي التكفيري على الفضاء الإعلامي والثقافي بفعل أموال البترودولار الخليجية،وفتاوي مشايخ الدولار والسلاطين وتحريضهم على القتل والفتن المذهبية.
نام قرين العين مطراننا المناضل،ولروحك الراحة الأبدية ،ولتبقى ذكراك ومآثرك ونضالاتك وتضحياتك ونهجك حية في قلوب محبيك من فلسطينيين وعرب شرفاء أحرار،فكما أحببت القدس وفلسطين وناضلت وضحيت من اجلهما،فنحن شعب فلسطين،أحببناك وتمنينا ان نودعك الوداع الأخير الذي يليق بك،ولكن ألف لعنة على هذا الإحتلال الغاشم،الذي يصادر منا حتى لحظات الوداع، فهو من سرق أرضنا،ومن سرق فرحنا.
بقلم/ راسم عبيدات