هيلاريون كابوتشي .... الروح تعانق الجسد

بقلم: رائد الدبعي

يحق للقدس أن تجزع اليوم جَوًى وحسرة كما فعلت عند رحيل أحبابها، ويحق لكل حجر من حجارتها العتيقة، ولكل زاوية فيها أن تتشح السواد، ويحق لكنائسها ومساجدها اليوم أن ترتدي ثوب الحداد، فصوت الأذان اليوم سيحمل غصة الرحيل، ومشاعر اللوعة، والالتعاج، ستغلب أجراس الكنائس، التي تعرف كل صحونها وهياكلها، وخوارسها مقام الراحل وطهره، ونقاء سريرته عن ظهر قلب، كما تعرفه محاريب المساجد ومآذنها، وقبابها، وساحاتها التي له في كل زاوية منها قصة نضال، وفي كل بقعة منها حكاية مقاومة.
     المطران هيلاريون كابوتشي، يودع القدس ببهاء الشهداء، ويختار  رحيله الجسدي عن عالمنا في ذكرى انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، في مشهد يعيد لنا اقتراب  العظماء من الكمال،  فهم وحدهم من يحفل بتفصيل الوداع الأخير،  فكما أن  حياة مطران القدس المنفي، فلسطيني الانتماء، مقدسي الهوى، عربي الوفاء، إنساني الرسالة والهدف، لم تكن هامشية، أو عابرة،  إنما  شكلت بكل تأكيد قصيدة وفاء للأرض، إذ شكل راحلنا العظيم،  مثالا يحتذى لرجل الدين النقي، ولطهر رسالة الأديان،  وللمناضل الصلب، الذي لا يلين، فقد اختار القدر أن تكون بصمة وداعه الأخير، وسطره الأخير في الحياة فلسطينية بامتياز، فلو سئل مطراننا عن التوقيت المثالي لديه لتسليم الروح لأجاب بلا تردد، " مع موعد انبعاث الثورة الفلسطينية المعاصرة"، وهكذا كان، فالقدر لا يخالف رغبة الأحرار، لا ندري كيف انبعثت روحه إلى السماء، فالروح هي أحد الأسرار الإلهية، لكننا نستطيع أن نرسم لوحة بهية، أولى خطوطها تنبعث بتحرر روحه عن الجسد، ومن ثم تنطلق لتطرح سلاما في طريقها إلى العلى، على الشهيد أحمد موسى "سلامة" "، مبرقا تحياته للحاج أمين الحسيني، وياسر عرفات، وجورج حبش، وعمر القاسم، وفتحي الشقاقي، وأحمد ياسين، قبل أن يعانق المقاوم الفلسطيني الأول " السيد المسيح عليه السلام " ويلقى تحية على ابنة الأرض، الفلسطينية النقية، مريم بنت عمران عليها السلام، فيخبرهما بكل غبطة أن الأجيال الفلسطينية لا زالت على العهد، وأن حجارة النهر لا زالت باقية، فيما الطارئون على الأرض كغيرهم من الغزاة، سيلفظهم التاريخ، ويطردهم الهواء، والحجارة، والسماء، والسنابل
        لطالما عاش مطراننا المقاوم في صراع، يزيد عمره عن أربعة عقود مضت، يتمثل بتحقيق حلمه الذي عاش من أجله، ووهب حياته فداء له، وهو توحيد الروح بالجسد، فمنذ أن دخل زنازين المحتلين عام 1974، بتهمة دعم المقاومة، وإسنادها، ترك الروح والقلب في القدس، تطوف بين قباب المساجد، أجراس الكنائس، وأسوار القدس العتيقة، تتنقل بين بواباتها، وأزقتها، وحجارتها، وأحيائها العربية الكنعانية، فيما اشتدت لوعة الاشتياق بعد قرار الإبعاد المجحف، وسنوات النفي القسرية عن القدس، التي ما غادرت لحظة مصطبة روحه، وزوايا قلبه النابض بحبها، ووعيه المتفتح دوما لحتمية العودة لها في كل لحظة، إذ امتشق إيمانه الراسخ بحتمية النصر، وركب البحر عام 2009، عبر أسطول الحرية، قبل أن يمنعه قراصنة العصر من تحقيق الحلم.
       اليوم يحقق مطران القدس حلمه الشخصي،  وينتصر على قراصنة الحلم، فها هي روحه الحرة تعانق أخيرا جسده الطاهر، فيما يترجل بإيمان لا يخبو، وثقة لا تعرف التردد والارتجاف، بأن الحلم الكبير على مرمى حجر، تحرسه أحلام الشهداء، وتسيّجه سواعد الأحرار المؤمنين بالنصر من رفاق درب مطران القدس،  فمن قال أن الشهداء يموتون، فهم من يحرس ظلال اللوز والزيتون، ومن سيستقبل طلائع المنتصرين على أبواب القدس وأسوارها، عندها سنرى الحاج أمين الحسيني يرفع الأذان من المسجد الأقصى، وسنرى ياسر عرفات بكوفيته المرقطة يلوح للفاتحين من على أسوار القدس، وعلى يمينه الطفلة الشهيدة سارة عبد العظيم، وعلى يساره  الشهيد الطفل محمد الدرة  قائلا" الم أقل لكم، سيرفع شبل من أشبالنا وزهرة من زهراتنا علم فلسطين، فوق أسوار القدس،" فيما سيكون مطران القدس كابوتشي، في مقدمة المستقبلين،  يدق أجراس النصر والحرية من كنيسة القيامة.
  من حق المطران كابوتشي أن نقيم له سرادب العزاء في القدس وكل أصقاع الدنيا، ومن واجبنا أن نقول فيه ما يليق بقامته الباسقة، إلا أن وفاؤنا الحقيقي له يتمثل بوحدتنا الوطنية، ودفن عار الانقسام للأبد،  والتمسك بخيار المقاومة، والسير على خطاه نحو وطن حر عزيز، وهذا يحتاج منا جميعا إلى عقلنة أدائنا، والتحلي بروح القلعة المحاصرة، والفريق الواحد، لأن الأوطان تتحرر كما تعلمنا من المطران كابوتشي بالأفعال لا الأقوال، وبالفعل لا الشعار .


بقلم : رائد محمد الدبعي