مطران المقاومة وداعاً

بقلم: رامز مصطفى

حلب على موعد دائم مع فسطين وقضايا الأمة ، كيف لا وقد غادرها منذ أكثر من قرن ونصف من الزمن سليمان الحلبي قاصدة أرض الكنانة مصر وبرأسه هدف هو الذود عن ترابها العربي ، فقتل قائد الحملة الفرنسية على مصر الجنرال كليبر . وعلى خطاه سار المطران هيلاريون كبوجي الذي قصد القدس عام 1965 مطراناً معيناً لكنيسة الروم الكاثوليك هناك . وكأن هذا التعيين لم يكن مصادفةً ، بل جاء متقاطعاً بين أمنية المطران كبوجي في الذود عن أرض فلسطين من مغتصب أرضها ومشرد شعبها ، وبين انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في ذات العام . وهكذا نسجت علاقة خاصة بين المطران والقضية الفلسطينية ، بأرضها ومقدساتها وشعبها ومقاومتها ، فأصبح واحداً من هؤلاء المقاومين ، مجنداً ما امتلكه من موقعه مطراناً لكنيسة الروم الكاثوليك خدمة لما أمنّ بها وهي المقاومة في سبيل تحرير فلسطين ، وهو الذي كان يُدرك حجم المخاطر التي قد يتعرض لها إذا ما اكتُشف أمره ، وهكذا كان في الثامن من أب عام 1974 ، عندما اعتقلته الأجهزة الأمنية في الكيان " الإسرائيلي " ، حيث حُكم عليه بالسجن 12 عاماً ، أمضى منهم 4 سنوات بعد تدخل بابا الفاتيكان وتعهده منع مطران المقاومة كبوجي من ممارسة أية أنشطة تتعرض للكيان الصهيوني ، بل عدم السماح له بالعودة إلى المنطقة . وقد رفض المطران كبوجي تعيينه مطراناً في البرازيل ، مصراً على صفته " مطران القدس في المنفى " ، إيماناً منه بحتمية العودة إلى القدس محررةً .
لم يثنهِ النفي أن يجعل من القضية الفلسطينية خبزه اليومي ، عاملاً عليها ومن أجلها ، حيث أكد في كلمة له في مسقط رأسه حلب ، قائلاُ : " منذ 31 سنة وأنا منفيّ، أعيش في إيطاليا ، أعيش حزيناً كئيباً معذباً، محروماً من أعز ما أملك ، ومحروماً من عائلتي الفلسطينية الحبيبة " . ولأجلها عاد راكباً البحر في عداد أبطال " سفينة الإخوة اللبنانية وأسطول الحرية " شاقاً طريقه لكسر الحصار على غزة وأهلها ، ولكن الهمجية والعدوانية الصهيونية وقراصنتها كانوا بانتظارهم ، حيث اعتدوا عليه ورفاقه بالضرب والاعتقال ، فسقط منهم الشهداء والجرحى . وعقب إطلاق سراحه قال المطران المقاوم : " إنّ تكبيلي وإهانتي شخصياً . إنما يكبلون الحق ويهينون العدل ، ومحاولة إلى تعفير جبهة الفاتيكان والعالم بأرض السفينة التي تحمل المساعدات إلى الذين يعانون في غزة " مضيفاً " لقد قمنا بتعرية إسرائيل وإظهارها على حقيقتها في تجاوزها لحقوق الشعوب العربية والفلسطينية " .
اليوم رحل أيقونة قضيتنا ، وفارس مقاومتها العنيد ، وصاحب عزيميتها التي لا تلين ، وإرادتها التي ما قويّ المحتل الغاصب بجبروته وإجرامه أن يكسر فيها ذاك الإيمان المشبع بعدالة القضية الأقدس والأنبل ، والتي حملها المطران المقاوم في عقله قبل قلبه كجبل المحامل . رحل أحد رجالات فلسطين الكبار ، رحلّ مطران فلسطين ، وحارس قدسها وصوتها الذي أتعب ولم يتعب ، وبركانها الذي لم تهدأ ثورته طالما بقي المحتل الغاصب .
- رامز مصطفى -