في بداية فوضى الربيع العربي سادت حالة من الاحباط+ واليأس عند قطاع من الشعب الفلسطيني من منطلق أن ما يجري في العالم العربي همش القضية الفلسطينية ووضعها في آخر سلم الاهتمامات العربية والإقليمية والدولية ، وما ساعد على تعزيز هذه الحالة خطاب مغلوط ليس مصدره إسرائيل فقط بل ومثقفون وسياسيون عرب وفلسطينيون اصطنعوا مماهاة بين ما يجري في فلسطين وما يجري في العالم العربي من عنف وعدم استقرار ، كما استطاعت إسرائيل تمرير روايتها بأن إسرائيل ليست مصدر الخطر والتهديد للمنطقة ولكن مصدره إرهاب جماعات إسلام سياسي وإرهاب أنظمة دكتاتورية .
واليوم وبعد مرور ست سنوات عجاف من فوضى الربيع العربي أخذت الأمور تنكشف والوهم يتبدد وباتت الحقيقة جلية أمام الجميع ،حقيقة أن ما يجري مؤامرة من صنع الغرب وإسرائيل حتى وإن كانت أدواتها محلية وظفت حالة الغضب عند شباب تواقين للتغيير والديمقراطية . لقد انكشف المستور وهو أن إسرائيل هي المستفيدة الأولى مما يجري واستفادتها لا تقتصر على تدمير دول كانت مؤهلة لتؤسِس حالة عربية من الاستقرار والتنمية وكانت تشكل خطرا استراتيجيا على إسرائيل ومصالح الغرب ،بل أيضا وظفت حالة الفوضى العربية لتتفرد بالفلسطينيين استيطانا وتهويدا في الضفة الغربية والقدس بشكل غير مسبوق وشنها ثلاثة حروب مدمرة على قطاع غزة ، بالإضافة إلى التطبيع بينها وبين عديد من الأنظمة العربية التي صدقت مقولة إن إسرائيل ليست مصدر الخطر عليها وعلي المنطقة بل الشعوب والجماعات المعارضة هي مصدر الخطر .
خلال ست سنوات من فوضى الربيع العربي جرت محاولات حثيثة لجر الفلسطينيين لفوضاها من خلال التلاعب على الخلافات الفلسطينية الداخلية وجر كل طرف فلسطيني لمحور من المحاور العربية والإقليمية تحت إغراء المال أو الايدولوجيا ، وإن نجحت المحاولات نسبيا بما عمق من حالة الانقسام ووتر العلاقة بين الفلسطينيين وعديد من الدول بل والشعوب العربية،إلا أن الفلسطينيين وبالرغم من المناكفات السياسية وحالة الانقسام السياسي المقيت استطاعوا الحفاظ على الحد الادنى من وحدة الحال وتجنبوا الانجرار لحرب أهلية .
وهكذا وبالرغم من كل أخطاء النخب السياسية والسلطتين في الضفة وغزة وحالة المكابرة عند كليهما إلا أن حالة من الاعتراف المتأخر بالخطأ ،وإن كانت متأخرة وخجولة ومترددة ،يمكن تلمسها في الفترة الأخيرة عند كل الأطراف الفلسطينية وخصوصا (طرفي الانقسام) ، مما يجعل من الممكن إعادة النظر بسلوك كلا الطرفين سواء تجاه بعضهما البعض أو تجاه ما يجري من أحداث حولنا ، وخصوصا أن كلا الطرفين – حركة حماس وحركة فتح – اخذتا تتلمسان محاولات من أطراف عربية للتعامل مع الشأن الفلسطيني وخصوصا في قطاع غزة بمعزل عنهما ومن خلال لاعبين جدد غيرهما .
وعلى المستوى الدولي يبدو أن القضية الفلسطينية عادت لواجهة الأحداث والاهتمام الدولي بعد سنوات من التهميش والتواري ومحاولات كي الوعي وتشويه الحقائق وفرض الرواية الصهيونية كما سبق الذكر. صحيح ،إن الأمور لم تصل لحالة تغيير الوقائع على الأرض فيما يتعلق باستمرار الاحتلال والاستيطان ، ولكن ما يجري من متغيرات وتحولات في موقف الدول والرأي العام العالمي من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يجب التوقف عندها وأخذها بعين الاعتبار دون مبالغة في المراهنة عليها .
الرواية الصهيونية التي تزعم أن فلسطين هي أرض الميعاد وأن إسرائيل دولة سلام والفلسطينيون إرهابيون لا يريدون سلاما الخ ، هذه الرواية أخذت تتعرى ولم تعد تقنع العالم ليس بسبب شطارة الدبلوماسية الفلسطينية ،دون التقليل من أهميتها ، بل بسبب ما شاهده العالم من ممارسات إسرائيلية إرهابية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وممارسات استيطانية في الضفة والقدس تدمر كل إمكانية للتسوية السياسية وصبر وصمود شعبنا في كل مكان ،أيضا إصرار من القيادة الفلسطينية على السلام والالتزام بالشرعية الدولية .في مقابل ذلك فإن الرواية الفلسطينية أخذت تجد مزيدا من المصداقية والقبول من دول وشعوب العالم . صحيح،إن هذه الرواية لم تعد مؤسَسة على الحقوق التاريخية بكامل فلسطين بل تؤسَس على الشرعية الدولية ، ونجاحاتها ما زالت في حدود التعاطف والتأييد السياسي والأخلاقي وقرارات على ورق،ولكنها خطوة مهمة لمحاصرة إسرائيل وتجريدها من شرعيتها الأخلاقية ، الأمر الذي يؤسِس ، إن تم دعمها بجهود ذاتية لمقاومة شعبية على الأرض ،لتثبيت حقوق سياسية ومنها الحق في الدولة على جزء من أرض فلسطين ،وهو انجاز مهم في ظل ما تشهده المنطقة من فوضى وفي ظل الاختلال البين في موازين القوى مع إسرائيل.
نعم ، القضية الفلسطينية تعود لواجهة الأحداث وهذا يتجلى من خلال توالي المبادرات حول المصالحة وتحريك عملية السلام ، وحراك مكثف متعدد المستويات والموضوعات : تزايد عدد الدول التي تعترف بحق الفلسطينيين بدولة مستقلة خاصة بهم وصدور قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة بهذا الشأن ، قرارات متوالية من منظمة اليونسكو تدين ممارسات إسرائيل في الأراضي المحتلة وتُبطل مزاعمها وآخرها القرار الصادر يوم 18 أكتوبر 2016 الذي ينفي وجود ارتباط ديني لليهود بالمسجد الأقصى وحائط البراق ويعتبر الممارسات الإسرائيلية في القدس غير شرعية ، تصويت مجلس الأمن يوم 23 ديسمبر الماضي لصالح إدانة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة واعتباره غير شرعي والمطالبة بوقفه -القرار رقم 2334 – الدعوة لمؤتمر دولي للسلام في باريس يوم 15 من الشهر الجاري ، لقاءات حول المصالحة في سويسرا يومي 18/19 من ديسمبر الماضي ،وأخرى دعت لها موسكو في منتصف هذا الشهر ، تزايد حملات المقاطعة لإسرائيل سواء أخذت طابعا اقتصاديا أو اكاديميا أو ثقافيا أو رياضيا ، ومبادرة امريكية جديدة للتسوية ستطرحها الإدارة الأمريكية الجديدة قد تقلب كثيرا من المعادلات والمراهنات ، بالإضافة إلى حالة نهوض شعبي مقاوم للاحتلال يتجلى من خلال استمرار الهبة الشعبية في الضفة والقدس ،وتحركات ومبادرات غيرها تتوالى.
الملاحظ أنه في ثنايا هذه التحركات محاولة للجمع ما بين المصالحة الفلسطينية الداخلية والتسوية السياسية مع إسرائيل ، حيث تولدت قناعة أن لا نجاح لتسوية مع الإسرائيليين إلا بمصالحة أو توافق فلسطيني داخلي على بنود أية تسوية ، لأن حركة حماس ومن خلال التجربة ونتيجة صيرورتها مكونا رئيسا في النظام السياسي الفلسطيني لا يمكن تجاهلها في المعادلة الفلسطينية الداخلية وفي المعادلة الشرق أوسطية ولكونها تسيطر على جزء من الأراضى المفترض أن تكون أراضي الدولة الفلسطينية ، أيضا فالمصالحة والتسوية لن يكتب لهما فرص النجاح دون توافقات شرق اوسطية وبين المحاور العربية – محور مصر ومحور قطر - .
وننهي بالقول إن كل هذه المبادرات والمشاريع السياسية التي تحاول تحريك ملفي المصالحة والتسوية ليست كلها بريئة وحريصة على المصلحة الفلسطينية ،وما بين انتصار الرواية الفلسطينية وتغيير الواقع بناء عليها بونا شاسعا . الأمر الذي يفرض على النظام السياسي الفلسطيني بكل مكوناته الاستعداد للتعامل مع هذه المبادرات بما يقلل من مخاطرها ويوظف ما بها من ايجابيات لتحريك ملف التسوية بما يدعم حقوقنا الوطنية وتحقيق مصالحة وطنية حقيقية وللتقصير من عمر الاحتلال .
بقلم/ د. إبراهيم ابراش