كنت سأدخل في صلب موضوع مقالتي هذه مباشرة بدون مقدمات ولكن هناك تطورات كثيرة حصلت بالأمس وهي تمثل أكثر أهمية من أي لقاء إعلامي جانبي حيث المصداقية والشفافية وخلق لحظات الأمل، ومنها خطاب الوداع الذي غلبت عليه دموع العاطفة للرئيس الأمريكي باراك أوباما Barak Obamaحيث أنه أبدع خلاله بوصف المشاعر الإنسانية التي حرص على أن يظهر بأنه يتمتع بها هو وأسرته، وحرص على أن يعطي دروساً بالأمل للأجيال القادمة تستحق الإحترام والتقدير ، وكان قد أشار فيه إلى أن الإستمرار في الإستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة سيجعل من السلام أمراً مستحيلا..
كما أن هناك تطورات أخرى في كندا حيث أن السيد رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو Justin Trudeau أدخل بعض التعديلات المفاجئة على حكومته التي مر عليها عام ، فعين الكندي المسلم المهاجر أحمد حسين Ahmad Hussen البالغ من العمر 42 عاماً وهو من أصل صومالي كوزير للهجرة وهذا يحمل رسالة إنسانية راقية وسياسية موفقة للغاية تتلائم مع تحديات المرحلة القادمة ، وحافز لكل المهاجرين لأن يتبعوا خطوات أحمد حسين كنموذج ناجح عمل داخل المجتمع الكندي بجدٍ وإجتهاد وقدم خدمات لأبناء جاليته وللجاليات الأخرى فكوفئ بهذا المنصب الرفيع.
كما أنه عين الكندية - الأوكرانية كريستيا فريلاند Chrystia Freeland البالغة من العمر 48 عاماً كوزير للخارجية الكندية ، وهي التي توقعت فوز الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب في الإنتخابات الأمريكية العامة الأخيرة ، هذا بالإضافة إلى أنها على معرفة واسعة وعميقة بطبيعة الحكم في العاصمة الروسية موسكو، كما أنه معروف عنها بأنها قلقة من عدم المساواة الإقتصادية بين دول العالم، وهذا قرار يحمل من الحكمة السياسية وبعد النظر الكثير أمام التحديات التي تواجه العالم بأجمعه وضرورة الحفاظ على التوازنات التي تحفظ مصالح البلاد.
لربما يرى البعض أن هذه المقدمة دخيلة على عنوان المقال من ناحية الشكل ، ولكني ذكرت ذلك لأنني لم استطع أن أحبس خفقات قلبي الفرحة من مواقف هؤلاء القادة الذين يخرج أحدهم وشعبه يصفق له ، والأخر يركز على العنصر الشبابي في إستراتيجية بناء بلاده ليفتحوا أبواب الأمل أمام الأجيال القادمة بمصداقية وشفافية تنطبق على الجميع بدون تمييز، فلم يصادروا حق لأحد ولم يميزوا بين أحد من مواطنين بلادهم على أساس أصله أو لونه أو دينه، لا بل حرصوا على أن يعملوا على إحتضان أحلامهم وتطلعاتهم وإفساح المجال أمام طاقاتهم وإبداعاتهم .
ذكرت ما سبق حتى أشير للقارئ الكريم بأن العالم بات يتحرك بسرعة فائقة ، والجميع يبحث عن مصالحه المشروعة ، ولم يعد هناك مجال لإحتكار الفكر أو بيع المزيد من الوهم وحقن الأجيال القادمة بالمزيد من اليأس، حيث أنه لا زال هناك البعض من قادة الشعب الفلسطيني يتحدثون في سياق الطموح الذاتي ويحتكرون الصلاحيات والنفوذ ، بعيداً عن الواقع ومتطلباته وتحدياته، وهذا لا يقلل من شأنهم أو حقهم بالطموح، ولكن في تقديري أنه ينتقص من حجم الأمانة الوطنية إن بقي هذا الأمر في سياق المصلحة الذاتية فقط .
لذلك وبالرغم من أنني أكن للدكتور صائب عريقات على المستوى الشخصي إحتراماً خاصاً، خاصة أنني أرى فيه أنه ليس ذاك الشخص المتعالي في تعامله الإنساني، ولكن كوني تابعت لقائه على فضائية فلسطين في برنامج حال السياسة الذي بُثَ يوم 9 يناير الجاري ، والذي تطرق فيه للكثير من النقاط التي أتفق مع بعضها وأجد في بعضها مبالغة كلامية لم تعد تنطلي على أحد ، ولذلك وجدت أنه من المفيد تفنيد ما جاء فيها مع مقارنات تفيد جوهر الموضوع ، فعدت إلى الوراء لكثير من تصريحاته منذ تقرير جولدستون وتسريبات وثائق الجزيرة ولقائه الجدلي المعروف على قناة الجزيرة في برنامج بلا حدود مع الإعلامي المخضرم أحمد منصور في عام 2011 ، وحتي يومنا هذا في لقائه الأخير محور مقالتي هذه!.
حيث قال أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية خلال لقائه بأنه في حال نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس سيعني ذلك إنهاء عملية السلام وهذا سيشرعن الإستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة مما سيدفع منظمة التحرير الفلسطينية لكي تكون أمام مرحلة جديدة، حيث ستكون اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أمام قرارات مصيرية في تكرار لإسطوانة باتت مشروخة!، وقد حدد معالمها خطواتها بأنها لربما تصل لأن تسحب الإعتراف بإسرائيل وتتخلى عن الإتفاقيات معها!، كما أنه أشار إلى أن الدول العربية والإسلامية ستكون أمام مرحلة جديدة هي الأخرى ولربما تقوم بسحب سفراء دولها من واشنطن وفي تقدير كان الأجدر به أن يتحدث عن سحب ممثل فلسطين هناك أولاً إن كان يستطيع أن يفعل ذلك!.
أيضاً أشار د. عريقات إلى أن وزير خارجية الرئيس الفلسطيني محمود عباس سيذهب إلى العاصمة الماليزية كوالالمبور التي سيُعْقَدُ فيها إجتماع وزراء خارجية الدول الإسلامية يوم 19 يناير الجاري، وذلك من أجل إطلاق رسالة للرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب الذي سيتولى مقاليد حكم بلاده رسمياً في يوم 20 يناير الجاري، وذلك بإسم الدول المجتمعة هناك، لكي يحذرونه فيها من مغبة الإقبال على خطوة من هذا القبيل ، كما أنه اشار إلى أن الرئيس محمود عباس سيحضر قمة الإتحاد الأفريقي بنفسه وكأنه يقول بأنها هي المرة الأولى التي سيتم فيها ذلك!، وقال لربما يتم الدعوة لإنعقاد قمة عربية طارئة إن تم تنفيذ قرار نقل السفارة الأمريكية حيث أن ذلك من وجهة نظره سيعصف بالأمن الإقليمي والدولي متجاهلاً أن القمة العربية العادية ستعقد في مارس القادم في العاصمة الأردنية عمان!.
كما أنه عرج على قرار مجلس النواب الأمريكي غير الملزم للإدراة الامريكية والذي أدان قرار مجلس الأمن الأخير رقم 2334 الذي إنتقد عملية الإستيطان في الأراضي المحتلة التي أُحْتِلَت في عام 1967، حيث قال بأن ذلك يمثل السلاح والذخيرة لنمو الإرهاب في العالم خاصة أن العرب والمسلمين ليسوا عديمي الإحساس وبلا وطنية وبلا خلق أو دين، وبأن هناك 177 دولة صوتت لصالح تقرير المصير في الأمم المتحدة في شهر ديسمبر 2016 وهذا أمر جيد لا أحد يستطيع أن ينكره، كما أنني أتمنى أن يكون د. عريقات يعي بذلك أن الشعب الفلسطيني أيضاً لديه أحاسيس ويتمتع بالخلق والدين وأن ما تحمله خلال العشر سنوات الأخيرة من عمليات القمع والذل وإقفال البيوت العامرة لا يتحمله بشر على هذه الأرض!،.
د. عريقات تحدث أيضاً عن اللجنة التحضيرية لإنعقاد المجلس الوطني الفلسطيني التي أنهت عملها في العاصمة اللبنانية بيروت ودعت بدورها إلى ضرورة الوحدة وإجراء إنتخابات عامة كما دعى هو في اللقاء إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية بمشاركة جميع الفصائل الفلسطينية بشرط أن يلتزم وزرائها ببرنامج الحكومة ومتطلباتها، وفي تقديري أنها بحاجة إلى رئيس وزراء ذو خبرة ويحظى بمكانة دولية على أن يتمتع بكامل الصلاحيات التي تؤهله لقيادة حكومة من هذا النوع! .
الطريف في اللقاء أنه أشار في مغازلة عفيفة لربما كان يهدف من ورائها تسيلط الضوء على إخلاصه خاصة في ظل التوجه لتعيين نائب للرئيس الفلسطيني، حيث وصف الرئيس عباس بالمعجزة ، وأن هناك بعض الرؤساء ورؤساء الوزراء العرب قالوا له بأن الرئيس محمود عباس هو حكيم وعقل العرب الذي يعمل لصالح شعبه!. كنت أتمنى هنا أن أسمع مفهوم الحكمة بأنه ذلك الذي يكمن في إتخاذ قرار بزيارة قطاع غزة المكلوم لإنهاء الإنقسام البغيض، وإتخاذ قرار أخر بإعادة حقوق الناس المحرومة والموجوعة ، التي دُمِرَت بيوتها العامرة وتم تفتيت أسرها، أيضاً كما أتمنى أن يكون هناك قرار واضح بالتوقف عن هذا التغول الهمجي على كرامتهم وتجويع أطفالهم، لا بل كنت أتمنى أن أتحسس الحكمة في إستضافة المثقفين والأكاديميين منهم أسوة بإستضافة الأخرين، ولكن يبدو بأنني كنت أحلم كما لا زال يحلم الإثنى عشرة مليون من أبناء شعبي الذين تم تذكرهم فجأة بأنهم لا زالوا موجودين وأن منظمة التحرير الفلسطينية تمثلهم وأنهم جميعاً يتمتعون بنفس الحقوق وهي مسؤولة عن مراعاة شؤونهم!.
كما أشار د. عريقات إلى أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس سيرفع علم فلسطين فوق الفاتيكان يوم 14 يناير الجاري يداً بيد إلى جانب البابا ، وكأن حلم الفلسطيني بات في رفع الأعلام بين الحين والأخر من قبل فريق لم يعد يعرف الا المشي على السجاد الأحمر والنوم على ريش النعام، هذا عوضاً عن إشارته إلى إنضمام فلسطين إلى محكمة الجنايات الدولية وتقديمها ملفات بخصوص جرائم الحرب والإستيطان وغيرها.
أخيراً بعد هذا السرد منذ البداية حتى النهاية في هذه المقالة الطويلة نسبياً ، لا أستطيع إلا أن أقول شئ واحد وهو شتان بين الثرى والثريا بين ما بدأت به من أمثلة في مقالتي هذه تفتحر بها الإنسانية وبين تفكير إحتكاري المراد منه تغييب عقولنا لا إفساح المجال أمام مشاركتنا! ، بين من يريد أن يبني أعمدة وطن في الواقع والحقيقة وبين من لا يريد أن يرى بأنه يهدم وطن ويدعي بأنه يعمل على بنائه، وهنا هو جوهر الموضوع بين مقدمة المقال وما سرد حول لقاء أمين سر اللجنة التفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية د. صائب عريقات ، لذلك لابد لي أن أختصر نهاية مقالتي في هذه الكلمات التي تلخص حالنا كشعب عاش مرارة الإحتلال ومرارة جهل الحكام ، كيف لا ، وأنا أرى تكراراً لغوياً مملاً ومبالغاً فيه لم يجلب لفلسطيني واحد في بقاع الأرض كرامة أو ثقة أو يقين بأن الغد يحمل الأمل وبأن هناك قادة شرفاء وصادقين يمارسون الشفافية ويحترمون القانون ولا ينامون من أجل أحلام شعبهم، بل هناك أدوات حاقدة باتت مستهلكة تعيش على إفتراس أمال أبناء شعبهم وتطلعاتهم وتدمر ما بناه له أبائهم وأجدادهم!.
كنت أتمنى أن ألخص الحكاية في كلمات أخرى تحمل إشراقة مضيئة ولكني عجزت عن ذلك لأن الحقيقة باتت واضحة كالشمس ، حيث أنني لم استطع أن أكون كاذباً، وأقول غير ذلك لأن الحقيقة الساطعة تقول بأن منظمة التحرير الفلسطينية بأدواتها الحالية أصبحت خاوية ولم تعد تمثل أحداً من الإثني عشرة مليون فلسطيني أو أنها تعتني بالفعل بهمومهم وبألامهم، بل أصبح الفلسطيني يهرب من الإقتراب منها أو التعريف بأنها تمثله ، لأن هناك فيها أناس وقحة ممن يتسلبطون على مسؤوليتها وينهبون مقدراتها بإسمه ، وبأنهم يقمعون أبناء هذا الشعب ويعتدون على كرامته ويعربدون على حقوقه، لا بل وصلت وقاحتهم بأن يحاربون أطفاله ببرائتهم وأحلامهم، فكيف ستكون المعادلة طبيعية بين حقيقة الواقع المؤلمة والإدعاء بغير ذلك من حكايات فارغة ومزيفة!.
نقطة أخيرة ، في تقديري في ظل هذا الإصرار على الخداع وعدم مواجهة الحقيقة والإستعداد لفتح باب المشاركة أمام الجميع وتدوير المسؤولية ، أستطيع القول مقدماً ، هنيئاً للرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بسياسة بلاده الجديدة التي يبدو بأنها ستكون صارمة، حيث أربكت قادة العالم وجعلتهم يتحسسون رؤوسهم !، وهي التي لربما تخالف كل التوقعات وتساهم بوضع حدٍ لمآساة الشعب الفلسطيني ، حيث أن لا العرب ولا المسلمين سيسحبون سفرائهم هذا عوضاً عن أن منظمة التحرير الفلسطينية لن تستطيع أن تفعل ذلك، حتى لو ضاعت كل فلسطين لأن حكام الأخيرة باتوا مغيبين ولا يروا إلا أنفسهم ومصالحهم، فبات الشعب الفلسطيني يتيماً بحاجة لرؤية صارمة من رئيس صاحب قرارات صارمة تعيد له حقه ولا تعبث بأحلامه وأوجاعه وتطلعاته!.
لذلك فإن المشكلة الحقيقية هي في قادة الشعب الفلسطيني وفي الثقافة الإحتكارية العمياء التي لا يريد اصحابها أن يقروا بأن هناك مليوني إنسان فلسطيني أبرياء قبل الحديث عن الإثني عشر مليون فلسطيني في الشتات ، محاصرين في جزء من الوطن ويعيشون حياة ذليلة ويتم التغاضي عن آلامهم وأوجاعهم للمتاجرة فيها.
أما بالنسبة لما سيقوم به وزير الخارجية الفلسطيني في العاصمة الماليزية كوالالمبور فإنه لن يتعدى سوى رحلة سياحية أخرى كغيرها من تلك التي إستنفذت المال العام واستهلكته بشكل مفضوح بدون أي نتيجة تذكر، وهو يعرف ذلك يقيناً كما أنا أعرف ذلك!، والتوصية التي يتطلع إليها الجانب الفلسطيني لن تخرج عن سياق ضجيج إعلامي لا قيمة له، لأن فاقد الشئ لا يعطيه، وأعتقد أن وزير الخارجية الفلسطيني يدرك ذلك جيداً ، حيث أن اللعب في كرامة الناس لا يجلب راحة ولا مصداقية، وأن فاقدي مفاهيم العدالة من الذين تعشعش في رؤوسهم ضحالة الفكرة العنصرية والجغرافية على أساس التمييز في الحقوق بين أبناء الوطن الواحد لن ينعموا بأن يكونوا يوماً هم العنوان الصحيح ليحملوا رسالة وطنية أو يتحدثوا بإسم وطن أو حتى ينقلوا هموم مواطن! .
وختاماً في تقديري أن ما جاء في لقاء حال السياسة لم يلامس الواقع حيث أن الحكاية تكمن في الثقافة الوطنية والفكرية، والإيمان بالشراكة الوطنية من خلال الكف عن تجيير الأمور لتحقيق تطلعات وطموحات شخصية ولضمان التبعية، حيث أنه لابد من الكف عن إستخدام الكلمات العاطفية في غير مواضعها وتزوير الحقائق في إستخدام موضوع محكمة الجنايات الدولية وغيره لأن الحقيقة الدامغة تقول بأن الجانب الفلسطيني لم يجرؤ حتى الآن ولن يجرؤ مستقبلاً على تقديم أي طلب رسمي لهذه المحكمة للبدء في التحقيق عملياً وكل الشواهد والدلائل تؤكد ذلك ، والكل يعلم يقيناً بأن الأكثر حرصاً على التنسيق الأمني ويجاهر به ليل نهار لا يمكن له أن يجرؤ على إلغاء الإتفاقيات أو سحب الإعتراف خاصة في ظل ضعفه والطعن في شرعيته وفي ظل هذه المتغيرات الدولية والإقليمية!.