جبل المكبر بلدةٌ في قلب القدس تٌكَبرُ

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

جنوب مدينة القدس تتربع، وفي أكنافها تقع، وإليها تنتمي، ومنها تلتمس البركة التي اختصها الله سبحانه وتعالى بها، وتفضل بها على من حولها من مدنٍ وقرى، وعلى جبلها وقف الفاروق عمر بن الخطاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مكبراً مهللاً شاكراً لله سبحانه وتعالى أن أنعم عليه وعلى المسلمين بفتح بيت المقدس، وكان ذلك في السنة الخامسة عشر للهجرة، عندما جاء ليستلم مفاتيح القدس من بطريركها صفرنيوس، فسُمِّيَ الجبل الذي وقف عليه مكبراً باسم جبل المكبر، وبه عرفت البلدة واشتهرت، وحملت هذا الاسم منذ خمسة عشر قرناً من الزمان وما زالت.
كان لسكانها قديماً دورٌ كبيرٌ في تحرير مدينة القدس من الصليبيين، وعلى أرضها اصطفت الجيوش واستعد الجند، وخاضوا انطلاقاً من أرضها أشد المعارك، وبقيت على مدى الزمن تحفظ تاريخها، وترصع مع الأيام جبينها، وتضيف إلى سجلها الذهبي صفحاتٍ مضيئة من المجد والعزة، إذ منها يتحدر الكثير من الشهداء والقادة، ولا تخلو السجون والمعتقلات من أبنائها، الذين يتصدرون صفوف المقاومة، ويسعرون الانتفاضة، ويتسابقون إلى الرباط وجبهات المواجهة، لذلك حرمت البلدة وغيرها من بلدات القدس من الخدمات المدينة، وقاست من السياسات البلدية الإسرائيلية، التي هدمت بيوتها، وصادرت أرضها، ومنعت أهلها من البناء والتعمير، وعمدت إلى طرد وتهجير سكانها، وسحبت هوياتهم وجردتهم من أرضهم وممتلكاتهم.
ما هي إلا دقائق معدودة تلت الإعلان عن منفذ عملية القدس فادي قنبر، حتى تَنزَلَ على البلدة الغضب وحل بها السخط، وانقلب عاليها سافلها، وعادت بها الأيام إلى حرب الأيام الستة، كيوم سقوط مدينة القدس، إذ أصبحت بلدة جبل المكبر ثكنةً عسكريةً كبيرة، اندفع إليها مئات الجنود الإسرائيليين، وأحاط بها من كل مكانٍ أضعافهم، وأغلقت بواباتها، ووضعت الحواجز والكتل الإسمنتية الخرسانية ونقاط التفتيش على كل مداخلها، تمنع الخروج منها أو الدخول إليها، وتدقق في هويات وبطاقات كل من يقترب منها، وتتحكم في مختلف وسائل الإعلام التي هبت لتغطية العملية، وتصوير بيت منفذها والأماكن التي عاش فيها واعتاد عليها، ولكن الغضب الإسرائيلي كان كبيراً جداً هذه المرة، لنوعية العملية ونتائجها المادية وآثارها النفسية، وتداعياتها على المجتمع الإسرائيلي، وإمكانية تقليد الفلسطينيين لها والقيام بمثلها، إذ أنها رغم خطورتها لا يتطلب التحضير لها وتنفيذها لأكثر من شخصٍ أو شخصين، يملكان أو يستأجران سيارة، ويقرر أحدهما تنفيذ عملية دهسٍ مشابهة.
أما حي القنبر في البلدة فقد أصبح عنوان كل هجوم، ومركز كل غارة، حيث يتواجد فيه جنود الاحتلال على مدى الساعة، يضيقون على سكانه، ويتفششون بأهله، ويصبون جام غضبهم عليهم، ورغم ذلك فقد تجمهر سكان البلدة فرحين بالعملية، وسعداء بنتائجها، وغير مبالين بما ينتظرهم وما سيحل عليهم، وقد رأوا ذلك في عيون جنود العدو، وقرأوه في تصريحات قادته ومسؤوليه، إلا أنهم خرجوا في مسيراتٍ تَكْبُرُ مع كل خطوةٍ، يجوبون بلدتهم، ويزفون إلى كل زواياها وأنحائها أخبار البطل الذي انتقم لشعبهم وأهلهم، وثار لقدسهم ومقدساتهم.
اجتاح جنود العدو البلدة من داخلها، وحاصروها من خارجها، وقاموا بإطلاق قنابل الغاز المسيلة للدموع بكمياتٍ كبيرة، لتفريق المتظاهرين، ومنع الاعتصام والمسيرات، وإغلاق سرادقات العزاء وحلقات الفرح، ومنعوا أهلها من التجمهر والاحتفال، إلا أن سكان بلدة جبل المكبر الفرحين بالعملية والسعداء بنتائجها، والمزهوين فخراً بابنهم، لم يهربوا من جنود جيش الاحتلال، ولم يخافوا من كثرته وجاهزية سلاحه، بل واجهوه بحجارتهم، وأوجعوه بشعاراتهم، وزلزلوا الأرض تحت أقدامه بأصوات تكبيرهم، وهم قد خرجوا في مسيراتٍ صاخبة تشيد بالشهيد وتهتف باسمه، وتتوعد العدو بمثله.
قررت سلطات الاحتلال الإسرائيلي الانتقام من سكان بلدة جبل المكبر وتكدير حياتهم، والتنغيص عليهم، لوقف فرحهم، ومنع احتفالاتهم، وإغلاق سرادقاتهم، ودفعهم إلى إعلان البراءة والندم، فوزعت إخطارات لعدد من جيران الشهيد فادي قنبر، تمهيداً لهدم بيوتهم بحجة مخالفتها للقوانين، وتشييدها دون تراخيص رسمية، في خطوةٍ بدت بوضوح أنها انتقامية وثأرية من جيران الشهيد وسكان بلدته، فيما يوصف بأنه عقابٌ جماعي يهدف إلى التأثير على الرأي الشعبي العام الفلسطيني لينفضوا عن المقاومة ويتوقفوا عن دعمها، ويتخلوا عن تأييد أبطالها.
لم تقتصر الإجراءات التعسفية الإسرائيلية ضد أسرة فادي قنبر فحسب، بل امتدت لتطال العائلة بأسرها، وشملت الأقرباء والأصهار والجيران والمعارف، واتسعت الإجراءات العدوانية ضد سكان البلدة جميعاً، فقامت الشرطة بتوزيع بلاغاتٍ على العديد من أفراد العائلة، وعلى آخرين من سكان البلدة للحضور إلى وزارة الداخلية والمثول أمام ضباط التحقيق المختصين، كما قامت الهيئات المختصة بإجراءات جمع الشمل بإلغاء جميع طلبات لم الشمل، وإنهاء تصاريح إقامة الضيوف والزوار، ومنع دخول زوار جدد آخرين إلى البلدة.
وقامت سلطات الاحتلال بعد مداهمتها بيت الشهيد فادي عدة مراتٍ، بسحب بطاقات الهوية من والدة الشهيد، ومن أكثر من عشرة آخرين من أفراد أسرته، فيما يبدو أنها تنوي تجريدهم من الهوية المقدسية، أو إجبارهم على ترك المدينة والانتقال إلى مدن الضفة الغربية، وهو ما تهدد به المواطنين المقدسيين دائماً، وما قد قامت بتنفيذه فعلاً ضد بعضهم، ومنهم أعضاء في المجلس التشريعي الفلسطيني، وفي الوقت نفسه منعت الأفراد الذين سحبت هوياتهم من التقدم بأنفسهم بالتماس إلى المحكمة العليا الإسرائيلية، ولا بأي طريقةٍ أخرى لإلغاء القرارات العسكرية الصادرة بحقهم.
سيبقى جبل المكبر عالياً شامخاً بأهله، مزهواً بسكانه، مباركاً بقدسه، عزيزاً بمقاومته، فخوراً بتضحياته، ولن يوهن العدو من عزيمته، ولن ينال من كرامته، ولن تحط إجراءاته الغاشمة من قدره، ولن ينفض أهله عن رجالهم، ولن يتخلوا عن أبنائهم، وسيبقون دوماً يذكرون جبل الإسلام الشامخ، عمر بن الخطاب الفاتح، الذي دخل بلدتهم فخلد بتكبيره اسمهم، ورفع بمروره فيها ذكرهم، وأرسى بصلحه على أرضها قواعد إسلامهم.


بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 12/1/2017
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]