كانت قضية الأرض والمسكن وما زالت العقبة الكأداء في العلاقة الجدلية بين الدولة ومواطنيها العرب. فقد كنا نملك، نحن فلسطينيي الداخل، قبل النكبة ما يقارب 94% من الأراضي ثم تبقى لنا 3% فقط من هذه الاراضي، بملكية خاصة عبر أساليب وقوانين المصادرة المتعددة. ودأبت الدولة على توطين مواطنيها اليهود والمهاجرين الجدد في بلدات أو مدن جديدة أقامتها غالبا على حساب العرب سكان البلد الأصليين، ولم تبادر مؤسسات الدولة بإقامة أي مدينة أو بلدة عربية جديدة. وكنتُ قد أثرت ذلك في بداية التسعينيات ودأبت منذ 1999 على تقديم اقتراح قانون في كل دورة برلمانية لإقامة مدينة وبلدات عربية جديدة عبر التخصيص المتساوي للأراضي بين السكان، وقد وافقت الحكومة آنذاك على الفكرة ثم تراجعت.
وكان يوم الأرض الخالد الذي سقط فيه الشهداء احتجاجا على غول المصادرة الذي تراجع بفضل هذا النضال، ثم تردد تعبير "تهويد الجليل" و"تهويد النقب" ومشروع "النجوم السبعة" في المثلث ومصادرات الأرض لمشروع عابر إسرائيل.
وقد اتفقت الاحزاب والهيئات القيادية والباحثون على خطورة وأهمية موضوع التخطيط والبناء، وأن التخطيط في إسرائيل ايديولوجي يفضل مصلحة ومستقبل اليهودي وليس العربي، ولذلك لم توسع الخرائط الهيكلية ولم يسرّع الاعتراف بمخططات السلطات المحلية العربية لبلداتنا. بينما تسارعت الخطوات لإقامة بلدات ومستوطنات يهودية من طرفي الخط الأخضر، كذلك لم تخصص حكومة إسرائيل قسائم ومساكن للازواج الشباب. ولذلك كان هذا الموضوع أحد أهم الموضوعات التي شغلتنا كنواب في السنوات الماضية، حيث قدمنا اقتراحات قوانين لمنع الهدم الأوتوماتيكي، أو جعله أصعب في بلداتنا من جهة، وقدمنا اقتراحات لتوسيع الخرائط الهيكلية ومسطحات قرانا ومدننا، وبطبيعة الحال كانت الحكومة ترفض هذه الاقتراحات والقوانين.
في مطلع هذه الدورة اجتمعنا رئاسة "القائمة المشتركة" (النواب أيمن عودة ومسعود غنايم وجمال زحالقة وأحمد الطيبي) مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وكان أهم الموضوعات التي طرحناها عليه قضية هدم البيوت والتخطيط وأزمة السكن، واقترحنا عليه آنذاك ما اتفقت عليه لجنة المتابعة قبل سنوات عدة: تبييض أوامر الهدم لعشرات آلاف البيوت العربية والغاؤها مقابل التزام الجميع بالبناء المرخص ضمن الخرائط الهيكلية، وقلنا إن من شأن ذلك أن يفتح صفحة جديدة بهذا الخصوص. نتنياهو لم يرد وقال إنه سيفحص ثم فهمنا انه يرفض.
ثم عقدت عدة اجتماعات بادرنا إليها في "المشتركة" معا وعلى انفراد مع أيرز كمينتس نائب المستشار القضائي للحكومة والمسؤول المباشر عن هذا الملف (النواب عودة وزحالقة وأسامة السعدي وعبد الحكيم حاج يحيى ويوسف جبارين والطيبي، وانضم لبعضها النائب أكرم حسون لوجود المشكلة نفسها من البناء غير المرخص في البلدات الدرزية) وطرحنا فيها قضية ذات علاقة مباشرة، وهي ربط البيوت غير المرخصة بالكهرباء، على الرغم من عدم توفر نموذج 4 اياه. وتم تبادل النصوص، إلا ان الهوة بقيت واسعة لتعنت كمينتس، المدفوع بسياسة نتنياهو الرافضة لهذا الشأن.
وأكثر من ذلك فإنه وخلال أزمة قضية الغاز في الكنيست وعندما توجه لنا الائتلاف باقتراح أن يمتنع 2-3 منا عن التصويت رأينا فرصة قد تلوح ويجب انتهازها، وكنت قد تشاورت مع الاخوة أسامة السعدي وطلب أبو عرار وغيرهما وطالبنا بالمقابل :
1- إلغاء أوامر الهدم لعشرات آلاف البيوت العربية وتجميد الهدم لمدة 2-3 سنوات (كما اقترح سابقا).
2- ربط البيوت العربية إياها بالكهرباء.
3- إلغاء هدم أم الحيران ووقف هدم البيوت في القرى غير المعترف بها في الجنوب.
4- إيجاد ميزانيات لتشغيل العرب وخلق أماكن عمل.
ورغم عقد اجتماعات جادة مع وزراء ومساعدي نتنياهو، بعيدا عن الإعلام، إلا أن قضية تجميد هدم المنازل العربية كانت الأكثر تعقيدا، وفهمنا أن نتنياهو شخصيا يعارض ذلك. ثم عقدنا اجتماعا قبل عدة أشهر مع المستشار القضائي مندلبليط (النواب السعدي والطيبي ومازن غنايم رئيس اللجنة القطرية) واجتماعات اخرى مع كمنيتس من جهة، وافيغدور يتسحاقي من وزارة المالية، والوزير كحلون وزير المالية ووزير الإسكان غالانت من جهة أخرى مع عدة رؤساء، أذكر منهم تحديدا رؤساء بلديات الطيبة وقلنسوة (المحامي شعاع منصور والشيخ عبد الباسط سلامة) من أجل حل أزمة هذه البلدات في التخطيط والبناء ومساعدتها .في عديد من البلدات العربية تمت الموافقة على مخططات تسريع الموافقة على البناء (مناطق واسعة مع تسريع الموافقة على مخططات البناء) بفضل اجتهاد رؤسائها اولا، ثم وقوفنا معهم ثانيًا.
أسرد ذلك كله على خلفية الجريمة النكراء بهدم 11 منزلاً في قلنسوة، لعائلات أبو عرار ومخلوف وخديجة بقرار مسبق من نتنياهو المتورط في أزمات لا علاقة لنا بها، الذي ربط بيننا وبين مسلوبة "عمونة" التي أقرت المحكمة العليا بإخلائها، وهو الربط والمقارنة التي نرفضها جملةً وتفصيلاً. فأهالي قلنسوة بنوا بيوتهم، صحيح في منطقة زراعية، ولكنها أراض بملكية خاصة، وليست مسلوبة أو مسروقة من أصحابها الاصليين. وكانت بلدية قلنسوة تسعى لضمها لمخطط البناء المرخص، ولكن اللجنة اللوائية وضعت العراقيل.
تفاخر نتنياهو وغلعاد أردان وزير الشرطة وكأنهما يتعاملان مع اعداء وليس مع مواطنين يسعون لحياة كريمة ويطالبون بأن تكون بيوتهم كلها مرخصة، فنحن لا نبني بلا ترخيص حبًا بذلك وانما اضطراراً لغياب خيار الترخيص العادل.
المجرم الحقيقي والمقصر هو نتنياهو وحكومته، هما وليس غيرهما. رؤساء السلطات والنواب لم يرفضوا اقتراحا بالتنظيم والترخيص، بل بادروا وسعوا لذلك مرارا وتكرارا وسوف يستمرون بذلك فهذا واجبنا جميعا.
المعركة على الأرض والمسكن قديمة وطويلة وتحتاج لنفس طويل وإعداد وتخطيط موازٍ (طرحنا مخططات بديلة أمام الوزارات المختصة).
الإضراب الناجح اليوم لم يكن علاجا لقضية الهدم، ولكنه خطوة احتجاجية أولى، نعي النقاش والجدل حولها وهذا طبيعي ومشروع، ولكننا أبدا لا نقول إنه العلاج والرد الوحيد. تابعت العديد من الاقتراحات الجديرة بالدراسة والتطبيق، كنا مع أهالي قلنسوة على مدار السنوات الماضية ونجحنا في تجميد وتأجيل بعض أوامر الهدم، ولكن الحل الجذري ما زال بعيدا، ولكنه هدفٌ أساسي في عملنا البرلماني والسياسي والجماهيري. وليس صدفة أننا نجحنا في تمرير أكثر من 13 قانونا منذ دخولنا الكنيست، ولكن القوانين التي تتعلق بالتخطيط والبناء تم رفضها، لانها جزء من الصراع على قضية الأرض والوطن. هذا يحتم علينا جميعا قيادات سياسية وحزبية ومخططين وباحثين ولجان شعبية المضي قدما في النضال لمنع هدم ما يمكن منعه (وتم ذلك في حالات عدة) ولكننا نقر بأن هدم كل منزل في الجليل والمثلث والنقب يدمي قلوبنا وهذا ما يفرح اليمين الاسرائيلي وحكومته ورئيسها.
نستمر في نضالنا ورفع قضيتنا في كل منبر في البلاد وخارجها، ونستمر في مقارعة الوزارات والجهات المختصة ومحاولة اقناعها بحل هذه القضية الأساس، لأننا جميعا ملزمون بذلك. مع التأكيد على الأهمية القصوى لإقامة صندوق قومي خاص بهذه الحالات ليكون سنداً ودعما لمنكوبي هذه السياسات، وهذا ممكن فكما ساعدنا في الماضي (كلنا) أصحاب بيوت هدمت أو احترقت، يجب أن نكون قادرين على إخراج هذه الفكرة لحيز التنفيذ بقدرات ذاتية من جمهورنا، ويحق لنا أن نتوقع من العالم العربي وأثرياء فلسطين أن يلتفتوا ويساهموا في إقامة مثل هذا الصندوق.
د. أحمد الطيبي
سياسي فلسطيني عضو في الكنيست الإسرائيلي