نبدأ هذا المقال بالتعرف على فكرة إنشاء سلطة الطاقة الفلسطينية التي تأسست في 14 نوفمبر 1994، وذلك بهدف تحسين النظام الكهربائي الذي كان قائماً أثناء تولي الإدارة المدنية الإسرائيلية المسؤولية الأمنية والخدماتية عن قطاع غزة ، وتطويره وتحسين الخدمات المقدمة للمواطنين الفلسطينين، وكذلك لإعادة تشكيل الاطار المؤسساتي لقطاع الطاقة بشكل عام، حيث صدر في عام 1995 القانون رقم (12)، والذي أُنشئت بموجبه سلطة الطاقة الفلسطينية رسمياً، وكان جل إهتمام السلطة الوليدة في حينه بناء قطاع الطاقة الفلسطيني عبر إنشاء محطات توليد الكهرباء وتوفير مصادر دائمة لذلك، بالإضافة إلى توفير قاعدة بيانات ونظام جباية قائم على الربحية بمعدل يصل إلى (80%) من كل مصادر الطاقة التي تصل إلى المواطن الفلسطيني.
كما أنه كان يهدف إلى تنظيم عملية إتمام الربط الاقليمي مع "اسرائيل" عبر خط (161 KV) ومع جمهورية مصر العربية عبر خط (220 KV)، وذلك كنظام حماية لمحطة توليد كهرباء قطاع غزة وضمان إستمرار تزويدها بالكهرباء ، ضمن خطة كانت تهدف إلى ضمان دعم النظام الكهربائي في فلسطين مستقبلاً.
كان هذا في ذلك الوقت حلماً فلسطينيناً بأن يأتي يوماً وتتمكن فيه سلطة الطاقة من أن تصل إلى مرحلة محاكاة أحدث ما تتوصل إليه التكنولوجيا في العالم من استغلال لطاقة الرياح أو الطاقة الشمسية أو أمواج البحر في توليد الكهرباء لسكان قطاع غزة وضمان تزويد فلسطين بالكامل بالطاقة التي تحتاجها.
لكن يبدو أنه وبعد حصول الإنقسام البغيض في عام 2007 بين شطري الوطن وإنتقال مؤسسات السلطة الفلسطينية صاحبة القرار السياسي والتنفيذي إلى رام الله ، ومن ثم محاصرة قطاع غزة وما ترتب على ذلك من حروب دموية ، وتدميرٍ للبنية التحتية بكل مكوناتها وكان أهم ركائز ذلك حرمان قطاع غزة من الإستمرار في فكرة التنمية في مجال الطاقة وبالتالي حرمانه من الوصول إلى تحقيق حلم محاكاة التكنولوجيا العالمية وبالتالي ضمان تبعيته المطلقة!.
مع مرور سنوات الحصار وتعميق الصراع السياسي بين شطري الوطن وعدم وجود حكومة مركزية قوية تحكم مؤسسات السلطة في شطري الوطن وتتحكم بالسلاح الواحد والمال، وتمسك حكام غزة بفكرة الحكم الموازي والمنافس، مما أدى إلى تفاقم الأزمة وبدأ عدد الضحايا في تزايد ووصلت إلى حد من إهانة الكرامة الإنسانية التي لا يتحملها العقل الإنساني كلما شاهدنا أطفال بعمر الزهور تحترق نتيجة إنقطاع التيار الكهربائي وإضطرار الأهالي لإستخدام الشموع بطريقة بدائية بعيداً عن توفر متطلبات الأمن والسلامة.
من المؤسف أيضاً أنه تم تجيير الإستفادة من الحصول على التيار الكهربائي المتوفر في قطاع غزة لأصحاب النفوذ والقرار وذلك على حساب حصص المواطنين ، فكانت الأمور تتصاعد يوماً بعد يوم وتترك غصة متراكمة في نفوس الناس المظلومة والتي باتت تجد نفسها في معاناة مستمرة نتيجة هذا الوضع البائس، حتى وصلت إلى مرحلة باتت تتهيأ فيها للإنفجار التدريجي الذي يبدو بأنه بدأ يتم إستغلاله وتجييره بالشكل الذي نراه في هذه الأيام.
ولكي لا يتم إغفال حقيقة أن الإحتجاجات التي يمارسها أهل قطاع غزة في هذه الأيام بعد أن وصلت الحالة المعيشية المذلة فيهم إلى حد لا يحتمله بشر هو يمثل حالة مشروعة، لذلك لا يجوز التعاطي معها بعقلية بوليسية وطريقة قمعية همجية ، حيث لا زال المشهد في قطاع غزة غاضباً ويتفاعل بقوة، ولربما يأخذ منحنى تصاعدي يخرج عن السيطرة، لأنها بدأت بالفعل تنحرف عن أهدافها الإنسانية، وباتت مسيسة بإمتياز ومتضاربة الأهداف والأجندات بالرغم من أنها تحمل عنواناً واحداً هو الإحتجاج على أزمة الكهرباء المتواصلة منذ سنوات طويلة.
لذلك خرجت المسيرات الغاضبة ، منها من يُحَمِل حكام قطاع غزة عن المسؤولية التي أدت إلى تراكم معاناتهم، وبالمقابل كان هناك مسيرات أخرى مضادة حَمَلَت الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس وزرائه د. رامي الحمدالله المسؤولية الكاملة عن ذلك ، لا بل حرقت صورهما وحُمِلَت صوراً لهما رُسِمَ فيها أحذية على وجوههما وتم نعتهما بالعصابة بطريقة غير حضاريةٍ مثيرةٍ للإشمئزاز بالرغم من أنها أتت في سياق حالة التعبير المشروعة عن حالة غضب عارم من الوضع الذي آلت إليه الأوضاع في قطاع غزة!.
لذلك مما لا شك فيه أن أزمة الكهرباء في قطاع غزة تمثل أزمة إنسانية وقحة بات وجهها قبيح للغاية، يتم إستغلالها سياسياً على حساب كرامة المواطنين، ولكي نتعرف على هذه الأزمة وابعادها ومسبباتها لا بد أن ننتظرق بشكل عام إلى إحتياجات قطاع غزة وأهم المصادر التي يعتمد عليها هذا القطاع للحصول على الكهرباء.
حيث يحتاج قطاع غزة ما قيمته 450 ميجا وات، في حين أن المتوفر من جميع المصادر التي تزوده بالكهرباء في حال تشغيل المحطة الرئيسية بكامل طاقتها يبلغ 250 ميجا وات، أما في حال العجز والإضطرار لجدولة التشغيل فإن المحطة تعمل بطاقة 147 ميجا وات على أعلى تقدير ، وهذا ما يتم في الغالب، مما يعني أن هناك عجزاً مستمراً في حال تشغيل المحطة بكامل طاقتها يصل في قيمته الإجمالية إلى ما يقارب 200 ميجا وات اي ما يقارب نسبة 50 % من القوة التشغيلية اللازمة.
كما أنه من المعلوم أن هناك ثلاثة مصادر تعتمد عليها كهرباء قطاع غزة وهي تتمثل في الجانب الإسرائيلي الذي لا زال يغذي القطاع بـ 120 ميجا وات منذ عام 1976 وحتى اليوم بدون الأخذ بعين الإعتبار الزيادة التي طرأت على عدد السكان وزيادة إحتياجاتهم المعيشية، والمصدر الأخر هو الجانب المصري الذي يغذي المنطقة الجنوبية من قطاع غزة وبالتحديد مدينة رفح وضواحيها بـما قيمته 17 ميجا وات وتنقطع أو تتقلص قيمتها بين الحين والآخر نتيجة الأوضاع الأمنية الغير مستقرة في سيناء، بينما تعمل محطة توليد الكهرباء الوحيدة في قطاع غزة كمصدر ثالث لتغذية القطاع بطاقة قصوى تتراوح ما بين 70 إلى 80 ميجا وات هذا بعد أن تم إعادة بناءها وتصليحها من جديد بعد أن قصفت عدة مرات خلال الحروب التي شنت ضد قطاع غزة.
من وجهة نظري الحيادية وكمهندس كهرباء وكإبن من أبناء قطاع غزة ومطلع على أحواله بكل تفاصيلها اليومية وأتفهم الثقافة العامة لأهله ، فإنني أجد أن من أهم أسباب هذه الأزمة في ظل إستهداف القطاع ومحاصرته بأبشع أنواع الحصار الإنساني في التاريخ المعاصر ، هي تكمن في العجز الإداري لدى القائمين على إدارة هذا الملف الخدماتي الحيوي، للتمكن من إدارة هذه الأزمة من خلال خطة مهنية في ظل الظروف المعقدة القائمة بعيدة عن الفكر الإرتجالي والعشوائي والذي تتحكم به أجندات سياسية ، حيث بات يعتمد على التواكل في إيجاد الحل على الأخرين ، وهذا يشكك بأن هناك نوايا صادقة بالفعل لحل هذه المشكلة ، خاصة في ظل النمو السكاني وتزايد حاجة السكان للطاقة، هذا عوضاً عن إنعدام ثقافة الترشيد والإستعداد لدى المواطن في المساهمة في السداد المستحق للخدمات التي يتلقاها في ظل الأزمات المالية والصعوبات الحياتية التي يواجهها والتي تم برمجتها بهذا الشكل حتى يتم ضمان قبوله بحلول سياسيةٍ يبدو بأن طرحها بات قريباً ولذلك إشتعل هذا الملف من جديد!.
كما أنه لا يمكن إغفال حقيقة أن نسبة تكلفة المولدات الثلاثة التي تعتمد محطة توليد الكهرباء على تشغيلها لتزويد قطاع غزة بالكهرباء قد زادت بنسبة طردية ملحوظة ، حيث أن نسبة التكلفة التشغيلية لهذه المولدات قد بلغت عام 2016 ما قيمته 32 مليون شيكل شهرياً (أي ما يقارب 8.5 مليون دولار أمريكي شهرياً )، أما في شهر يناير الجاري فتفيد المعلومات بأن التكلفة قد بلغت ما قيمته 45 مليون شيكل (أي ما يقارب 12 مليون دولار شهرياً)، وإن إستمر على هذا الحال في عام 2017 يعني أن هناك زيادة في الأعباء تقدر بقيمة 13 مليون شيقل شهرياً (اي ما يقارب 3.5 مليون دولار أمريكي).
هذا يأخذنا بإختصار إلى محور أخر من المشكلة، وهو أن حكومة الوفاق الفلسطينية متمثلة في وزارة المالية تحصل على ضريبة شهرية تُدْفَع لصالح الجانب الإسرائيلي تسمى بضريبة "البلو" ، وذلك من شركة الكهرباء بما يقارب 10 مليون دولار شهرياً، وهي الضريبة التي تُفْرَض على أسعار الوقود في الأراضي الفلسطينية كما أقرتها إتفاقية باريس الإقتصادية والتي ربطت أسعار الوقود في الأراضي الفلسطينية بالتسعيرة الإسرائيلية ، حيث تحتاج محطة توليد الكهرباء في قطاع غزة إلى 600 ألف لتر من السولار يومياً.
من المعلوم أن هذا النوع من الضرائب يتم تحصيله من عوائد مالية بهدف تطوير البنية التحتية والطرقات العامة خاصة مع ازدياد اعداد السكان وإستخدامهم للسيارات، وهذا الأمر منطقي خاصة عندما يكون هناك عائدا خدماتياً إيجابياً يتلمسه المواطن، وفي تقديري أنه متوفر في أراضي الضفة الفلسطينية بشكل مقبول.
لكن يبدو أن التجاذبات الني يفرضها واقع الإنقسام القائم بين شطري الوطن والصراع حول النفوذ والرغبة بتَمَلُك سطلة القرار، هو وراء كل هذه الأزمة القائمة في قطاع غزة وهي التي يدفع ثمنها المواطن الفلسطيني من عمره وحياته ومستقبل ابنائه.
في تقديري أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي تفيد المعلومات بأنه تحدث في عدة مناسبات في لقاءاته بشكل علني، بأن الحصار لن يُرفع عن قطاع غزة وسيَتِم تشديده أكثر حتى لو تم قطع الكهرباء والهواء عنه لكي يبقى يعاني ويأتي راكعاً ضمن المفهوم الذي أراده هو والظروف التي أحاطت بتلك التصريحات!، كما أن حكومة الوفاق لم تقم بواجبها بالشكل المطلوب إتجاه تخفيف الأعباء عن المواطنين الأبرياء، لا بل، يبدو بأنها حرصت على أن تساهم بشكل مفضوح بتشديد الحصار على قطاع غزة ومنها تعميق أزمة الكهرباء ضد المواطن الفلسطيني، وذلك لدفع غزة للركوع والقبول بشروط التبعية بعيداً عن منطق الشراكة الوطنية وورفض هذا المنطق هو من أهم اسباب هذه الأزمة القائمة ، كما أن سذاجة حكام غزة وقلة حيلتهم في التعاطي مع ضرورة إيجاد حلول للمشاكل القائمة وعدم الإعتراف بأنهم سبب رئيسي بهذه المشكلة من خلال إنشغالهم في البحث عن الحكم ومزاياه، لذلك فهم يمثلوا ايضاص الشريك الأساسي في هذه الجريمة الوطنية، حيث أنهم يأسرون مليوني فلسطيني أبرياء باتوا يدفعون من حياتهم وأعمارهم ثمن سياسة حمقاء يرتكبها هؤلاء.
في ظل هذه المعطيات والتحديات القائمة، في تقديري أن الحل يكمن في التخلي فوراً عن مسؤولية قطاع غزة لصالح أبنائها من المستقلين وغيرهم ممن لديهم القدرة على إيجاد حل سريع ويستطيعون أن يسحبوا البساط من تحت أرجل كل من يريد أن يركعها ويأتي بها ذليلة، وذلك بإيجاد البدائل عن دفع هذه الضريبة لخزينته أو من خلاله والتعامل معه بندية حتى لو كان ذلك بالتلويح بالإنفصال الحياتي والسياسي والإقتصادي مع الإلتزام بإحترام الإتفاقيات الدولية، وهو الذي سيمثل الضمانة لحماية مستقبل أجيال باتت تئن من الوجع والألم بسبب همجية التحريض على إستمرار حصار وقح ومبرمج ومقصود يهدف إلى تجويع أبناء قطاع غزة وإذلالهم ، ولن يتغير طالما أن السذاجة السياسية لا زالت هي العنوان الحاكم لغزة وهي التي لا زالت تقبل بأن تكون الأداة الطيعة لتقاسم فتتات بمسؤولية إستمرار الوضع اللا إنساني القائم وتفاقمه بهذه الوحشية، وبدون ذلك، فالنتائج واحدة والخسارة ستستمر وستكون كبيرة!، لذلك فإن مشكلة كهرباء قطاع غزة أصبحت تمثل سقوطاً أخلاقياً في العمل السياسي الفلسطيني غير مبرر ، يدفع ثمنه المواطن البريئ!.
بقلم/ م. زهير الشاعر