إن استمرار إسرائيل بفرض الطوق الشامل على الأراضي الفلسطينية يشكل عقاباً جماعياً ضد الفلسطينيين، ويقود إلى تدهور مستمر في أوضاعهم المعيشية، الأمر الذي يتنافي وجوهر عملية السلام، ويقوض الطموحات بخلق حالة من الاستقرار في المنطقة.
يعيش قطاع غزة حصار خانق قامت إسرائيل بفرضه إثر نجاح حركة المقاومة الإسلامية حماس في الانتخابات التشريعية في 2006 قبل دخول حماس غزة بعام، ثم عززت إسرائيل الحصار في 2007 بعد سيطرة حماس على غزة، في حزيران 2007، و يشتمل الحصار على منع أو تقنين دخول المحروقات والكهرباء والكثيرمن السلع، من بينها الدواجن واللحوم في عمق البحر، وغلق المعابر بين القطاع وإسرائيل. وتزداد الاوضاع صعوبة بسبب إغلاق معبر رفح المنفذ الوحيد للقطاع إلى العالم الخارجي من جانب مصر.
والحالة المتردية لسكان القطاع دفعت منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة ماكسويل غيلارد بوصف الحصار قائلاً أنه "اعتداء على الكرامة الإنسانية" . كما هدمت إسرائيل مطار غزة الدولي المطار الوحيد في قطاع غزة كلياً مما زاد شدة الحصار والمعاناة.
والوقائع في قطاع غزة تشير إلى تراجع حالة حقوق الإنسان، لاسيما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومنها الحق في العمل والتمتع بشروط عمل عادلة ومرضية، والحق في الضمان الاجتماعي، والحق في حماية الأسرة، والحق في التمتع بأعلى مستوى يمكن بلوغه من الصحة الجسدية والعقلية، والحق في التعليم، بسبب القيود المفروضة على الأنشطة الاقتصادية التي تربطها علاقة طردية ما بين نمو هذه القطاعات وتمتع المواطنين بحقوقهم، إلا أن الإجراءات الإسرائيلية المتواصلة تقف خلف هذا التدهور، واستفحال ظاهرة الفقر، وتراجع مستوى الأوضاع المعيشية. وتتبع تاريخ الأحوال الاقتصادية في قطاع غزة يوضح أن في المرحلة التي كانت دولة الاحتلال فيها بحاجة للعمالة الفلسطينية ارتفعت معها المؤشرات الاقتصادية، وعندما استغنت عنهم تركتهم فريسة للاقتصاد المشوه الذي أوجدته بفعل سياستها، والتي جعلته اقتصاداً يعتمد عليها ويتبعها، من هنا يتوجب النظر للأزمة من منظور حقوقي يوفر للفلسطينيين حقوقهم المشروعة وفي مقدمتها الحق في تقرير المصير والحرية والاستقلال وإقامة دولته الفلسطينية أسوة بشعوب الأرض، حيث أن المعاناة التي يتكبدها ويعانيها الفلسطينيون لاسيما في قطاع غزة، هي نتاج تقاعس هذا المجتمع من الوفاء بالتزاماته القانونية والأخلاقية، حيث لا يعقل في العصر الحديث أن يبقى الشعب الفلسطيني وهو الشعب الوحيد في العالم الذي ما يزال يرزح تحت الاحتلال والذي يضع العراقيل كافة نحو تحقيق التنمية المنشودة التي تتفتق في ظل الاستقلال والحرية والمساواة واحترام حقوق الإنسان.
وقد ترتب على هذا الحصار ازمات عديدة أثرت على جوهر حياة المواطنين، ورفع من وتيرة الاحتقان الشعبي بصورة لم يشهدها القطاع من قبل، لدرجة ان الاوضاع لم تعد تطاق، فاليوم يعيش سكان غزة أزمة كبيرة تعتبر الأقسى والأصعب، فالنقص في الطاقة الكهربائية قد افقد المواطنين البديل المتاح لنقص الوقود، وما يشهده قطاع غزة من أوضاع صعبة يخلق آلاف المآسي التي يعانيها ابناءها لتطال كافة الشرائح الاجتماعية، عدا المنتفعين من هذه الحالة الموفرة لديهم كافة سبل الراحة، والمميزون عن باقي عامة الناس بحكم مواقعهم ومراكز نفوذهم .
وصدرت العديد من التقارير للكثير من المؤسسات عن تدري الاوضاع المعيشية في قطاع غزة، ووصوله الى حد الانهيار، من بينها تقرير صدر عن منظمة الأورومتوسطي وتقرير صندوق النقد الدولي، وأخرى ناتجة عن منظمات دولية غير حكومية، كما تعددت التصريحات الصادرة عن العديد من المسؤولين والمبعوثين الدوليين، ابرزهم "ميلادينوف" مبعوث الامين العام للامم المتحدة لعملية السلام الذي اكد في كلمته بالأمم المتحدة أن سكان قطاع غزة يائسين ومحبطين من كافة الاطراف السياسية والدولية الفاعلة بالمنطقة .
ويعيش قطاع غزة أزمة اقتصادية خانقة حيث شهدت جميع قطاعات الاقتصاد المحلي تراجعاً ملموساً جراء سياسة الحصار والاغلاق. وتشير تقارير فلسطينية رسمية الى خسائر في الاقتصاد الفلسطيني تصل الى 6 ملايين دولار يوميا، الامر الذي يزيد من تدهور الاحوال المعيشية للفلسطينيين، خصوصا في قطاع غزة. جدير بالذكر أن الاقتصاد الفلسطيني بشكل عام يعتمد الى درجة عالية على مدخولات العمال الفلسطينيين في سوق العمل الاسرائيلي وعلى تصدير الفائض الانتاجي الى السوق الاسرائيلية أو الى الخارج عبر اسرائيل. وقد أدى الاغلاق الى شل هذه النشاطات الاقتصادية كلياً، بالاضافة الى وقف التبادل التجاري بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
وتزداد الاوضاع خطورة بتردي الاوضاع الصحية في القطاع، فلا يوجد في قطاع غزة المرافق الطبية الكافية والملائمة للاعتماد الذاتي بسبب ارث الاحتلال الاسرائيلي. ويلجأ الفلسطينيون دوما للعلاج في مستشفيات الضفة الغربية بما في ذلك المستشفيات الفلسطينية في القدس الشرقية اضافة للعلاج داخل اسرائيل أو في الخارج (مصر والاردن تحديدا). وفي الظروف العادية تعطي السلطات الاسرائيلية المرضى الذين يتعذر علاجهم في القطاع تصاريح خاصة تمكنهم من دخول الخط الاخضر للعلاج في اسرائيل أو الضفة الغربية أو الاردن. ويكون ذلك عبر نظام معقد من الاجراءات الاسرائيلية التي تستغرق وقتا طويلا وتتطلب من المرضى حصولهم على العديد من الوثائق للنظر في امكانية منحهم تصاريح من جانب السلطات الاسرائيلية. ومع فرض الطوق الامني على القطاع رفضت السلطات الاسرائيلية منح المرضى التصاريح اللازمة من أجل العلاج، رغم اتفاق الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي على السماح بدخول المرضى لاسرائيل في حالات الاغلاق، مما يهدد حياة العشرات من الافراد الذين يصارعون المرض. ولا يتخيل أحد أن السماح لهؤلاء المرضى بالعلاج يهدد أمن اسرائيل، وهو الغاية الاساسية من وراء الحصار المفروض على القطاع حسب الادعاءات الاسرائيلية.
*النتائج المدمرة للحصار الاسرائيلي على قطاع غزة:-
أدى الحصار المفروض على قطاع غزة إلى نتائج مدمرة للقطاع على المستوى الاقتصادي والإنساني، زاد من تعقيدها إغلاق معبر رفح الذي تتحكم فيه مصر بصورة شبه كاملة في العامين الأخيرين:
1. بعد انتهاء الانتخابات الفلسطينية في يناير/كانون الثاني 2006 التي أسفرت عن فوز حركة حماس، فرضت إسرائيل -وبإرادة دولية- حصارا بريا وبحريا وجويا على قطاع غزة بشكل خاص وباقي الأراضي الفلسطينية بشكل عام.
2. الحصار الإسرائيلي على القطاع يعد انتهاكا صارخا لقواعد القانون الدولي الإنساني، إذ إن المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة تحظر ممارسة العقاب الجماعي.
3. أدى الحصار إلى تقليص الناتج المحلي الإجمالي في القطاع بنسبة 50% (البنك الدولي، مايو/أيار 2015)
4. بلغ معدل البطالة في غزة 45% في المتوسط خلال عام 2015، وهو أعلى مستوى للبطالة في العالم. وتزيد نسبة البطالة بين الشباب عن 60%.
5. في غزة اليوم 272 ألف عاطل عن العمل منهم 63 ألف من الحاصلين على البكالوريوس وما يزيد عن 35 ألفاً من الحاصلين على شهادة الدبلوم، وأكثر من 500 حاصلين على درجة الماجستير، و17500 على الثانوية العامة، والعشرات على درجة الدكتوراه، وأكثر من 150 ألف عامل.
6. يحصل ما يقرب من 80% من سكان غزة على شكل ما من أشكال المساعدات الدولية، والجزء الأكبر منها هو المساعدة الغذائية.
7. يعيش 40% من سكان غزة تحت خط الفقر المدقع، و80% من السكان يتلقون مساعدات إنسانية معظمها غذائية، بينما يفتقر نحو 72% من السكان للأمن الغذائي.
8. ظل معبر رفح مغلقا طوال العام 2015، ولم يُفتح إلا بشكل استثنائي لمدة 24 يوما فقط، ولم يتمكن سوى أقل من 13 ألف مواطن من السفر، في حين أن متوسط حركة السفر تقدر بنحو 300 ألف مواطن يحتاجون للتنقل... وقد شكل إغلاق المعبر واحدة من أبشع صور الحصار والخنق عبر انتهاك حرية التنقل والحركة. واليوم يجد سكان القطاع صعوبة بالغة في حرية الحركة والتنقل، وهو ما يخالف صراحةً الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
9. خمسة معابر تجارية بين الاحتلال وغزة مغلقة، وتفتح إسرائيل معبرا واحدا منها هو معبر كرم أبو سالم، بينما تُغلق بشكل كامل باقي المعابر الأخرى أمام البضائع.
10. تمنع إسرائيل دخول مواد البناء والإعمار والكثير من قطع الغيار وأجهزة الحاسوب وغيرها من مئات الأصناف من البضائع من الوصول لغزة، وإن سمحت فهي تسمح بكميات قليلة جدا بالدخول، الأمر الذي فاقم من معاناة السكان في ظل الحصار.
11. لا يزال الآلاف من المواطنين بلا مأوى ويعيشون في منازل مقطورة (كرفانات) بعد تدمير بيوتهم في حرب 2014، حيث ما برحت إسرائيل تفرض قيوداً مشددة جداً على دخول مواد الإعمار للقطاع.
بقلم/ د.حنا عيسى