الملل والرتابة وغياب الإبداع هي السمة العامة للتعليم عند العرب فمنذ العام السادس من عمر أي طفل عربي وحتى الثامنة عشرة يجد نفسه ملزما بالبقاء أسيرا في نفس الغرفة ونفس المقعد لساعات طويلة كل عام من أعوام دراسته, وحتى قبل ذلك فان رياض الأطفال هي تقليد للمدرسة بكل تفاصيلها فالطفل العربي لا يجد وقتا لطفولته فهو محشور بين صف مغلق ومقعد صغير مقيد لحركته وفي جميع الحالات فان نظام ترتيب المقاعد يشكل بداية سيئة للطالب بحيث يبدو أن الطلبة الذين يجلسون في المقدمة عادة هم الأذكياء أو المتفوقين ومن يجلسون في الخلف هم المشاغبين أو المتخلفين تعليميا.
منذ اليوم الأول في المدرسة وفي الصف يسجل التلميذ اسمه على المقعد ليلتصقا ببعض وعادة ما يحفر اسمه هناك ليتحول المقعد أيضا إلى مظهر غير نظيف وفقط خمس دقائق بين الحصة والأخرى يكون فيها عادة الأقوى جسديا بين الطلاب هو عريف الصف الذي يحرم الطلبة من الحركة أو التكلم بصوت عالي وباختصار شديد فان الطالب العربي يعيش في سجن بكل ما تعني الكلمة من معنى وهو لهذا لا يرغب بأيام تعليم أكثر ولا بساعات تعليم أكثر ويتحول تدريجيا إلى كاره للتعلم والقراءة التي ينقلها معه إلى البيت بكم هائل من الواجبات والتحضيرات بما يلزم كل العائلة أيضا للعمل هذا.
نظام الصف الواحد والمقعد الواحد نظام ممل ورتيب ولا يعطي الطفل حيويته ولا قدرته على التفاعل وحب المكان ومخرجاته التي من المفترض أن تكون عملية تربوية تعليمية فتتحول الى نظام اعتقال قائم على الأنظمة واللوائح والقوانين والتي عادة يضعها مدير المدرسة او معلم الصف, المعلم يغادر غرفة الصف لينتقل إلى غرفة أخرى وفي الطريق يدخن سيجارة يتجاذب أطراف الحديث مع زملاؤه بينما يبقى التلاميذ رهن الاعتقال ليس داخل الغرفة فقط بل وداخل المقعد نفسه, بكل بساطة يمكن التخلص من ذلك بتغيير الغرف للمادة وتغيير المقعد حسب موعد الوصول مثلا بحيث لا يصبح هناك غرفة اعتقال طوال العام ولا سمة خاصة بمقعده طوال العام فهو سيحضر حصة الرياضيات في الغرفة كذا وحصة اللغات في الغرفة كذا ولا تتكدس الحصص النظرية طوال الوقت بل يمكن ابتكار وسائل التعلم بالحركة أو بالمختبر أو بالهواء الطلق أو بالرحلة مهما كانت صغيرة وقريبة من المدرسة.
أسبوع كامل به كل أنواع الحصص وللرياضة اقل وقت وللرسم اقل وللنشاطات اللا منهجية كلها الوقت الزائد عن حاجة المواد النظرية بما يظهر التعلم في الرياضة والرسم والموسيقى وكأنها أمور تافهة لا يجوز الاهتمام بها علما بأنها من أهم مقومات صقل شخصية الطفل ومستقبله فهو قادر على التعبير عن نفسه مع الآخرين في الحصص اللا منهجية بحيث يصبح هو الفاعل والمدرس مجرد شخص ينسق تفاعلات ومخرجات تلاميذه لا قيد على أطرافهم وألسنتهم وآذانهم.
متثاقلين يذهب أطفالنا إلى مدارسهم وبكل الاندفاع يغادرونها لتبدأ رحلة العذاب في البيت فالجميع منشغل بواجبات الطفل وهو بالتالي محروم من اللعب والتمتع بطفولته, الأم والأب والأشقاء والشقيقات الأكبر وأحيانا الجيران ينشغلون مع الطفل بواجباته, صديقي الأستاذ سليم الكيلاني أحصى نظام الامتحانات لابنته ليكتشف أن هناك امتحان واحد في كل يوم مدرسي طوال العام فأي طفولة وأي صبا هذا الذي ستعيشه هذه الفتاة تحت ضغوط الخوف والرهبة من الفشل وما يتبع ذلك من تأثير على شخصيتها وحياتها وقدرتها على الإبداع والانطلاق, يوميا يحمل التلميذ معه شنطة كبيرة من الكتب المدرسية وتوابعها وترى الأطفال يحنون ظهورهم تحت ثقل هذه الشنط مما قد يؤثر حتى على نموهم الجسماني, نظام الامتحانات هذا اوجد مهنة جديدة في البلاد العربية وهي نظام مراكز التعليم بعد المدرسة ونفس المعلمين الذين يعملون بالمدرسة لهم مراكزهم التعليمية بعد الدوام الرسمي بحيث يذهب إليهم هناك نفس التلاميذ.
اليوم استعيد بذاكرتي أيام دراستي والخوف اليومي الذي كان ينتابني من الاختبارات المدرسية وطرق التحايل العجيبة التي كنا نبحث عنها لنتجاوز الامتحانات وحتى الواجبات المنزلية التي كنا نستعين عليها مع إخوتنا وأخواتنا وحتى الجيران عند الضرورة فلم يكن همنا الإبداع والتعلم بل إرضاء معلم المادة وتفادي غضبه وعصاه فأي تعلم هذا الذي يقوم على الخوف من كل شيء وكيف يمكن لأمة يتعلم أبناءها تحت العصا أن تخطو خطوة واحدة إلى الأمام.
في فنلندا مثلا التلاميذ يخلعون أحذيتهم على بوابة الصف ويدخلون هناك بكامل أريحيتهم ليتحرروا من أي قيد بما في ذلك قيد الحذاء وهم يدخلون إلى غرفة للنشاط لا إلى غرفة لاعتقالهم طوال ساعات المدرسة وكذا هم يتعلمون هناك بالأنشطة الجماعية وينقسمون إلى مجموعات عشوائية لا تعتمد مثلا الفوارق العلمية بينهم ولا يخشون من أن يتراجع الموهوب إذا اشترك مع الأقل موهبة في نفس المجموعة بل يفترضون أن يستفيد الأقل موهبة من الأكثر موهبة ويعطي تشجيعا لكلاهما للتطور الموهوب سيتعلم ويعلم والأقل موهبة سيكتشف أن بإمكانه أن يتعلم من زميله بما يضمن ليس العلم فقط بل والتربية أيضا وهنا سيظهر أن علينا أن نقبل الآخر لأنه مفيد والجميع مفيد للجميع المتعلم سيأخذ العلم والمعلم سيطور علمه الموهوب سيجرب مواهبه والأقل سيكتشف كيف يمكن له أن يكون موهوبا فهما إذن كلاهما بحاجة لبعض كضرورة لا كفرض أو قرار فوقي مفروض عليهم.
تاريخيا يظهر المعلم بمظهر المزروع في بلدة داكنة اللون ولباس رسمي وربطة عنق وياقة منشاة هذا ينتقل أيضا إلى أدائه فهو عادة يظهر متجهم رسمي لا يمزح محافظ على هيبة وهمية لذاته كأنه وحده ممثل العلم على الأرض وان هيبة الشكل لشخصه هي مصدر لهيبة العلم
الدروس جميعها تقريبا نظرية بحتة وهي تعتمد على التلقين والاستماع وتكرار ما يقوله المعلم لا أكثر وعلى الطالب أن يحفظ الحروف التي ينطقها معلمه كما هي ولا يجوز له حتى تغيير كلمة هنا أو هناك حتى لو كانت هذه الكلمة لا تضر بالمضمون, وتدريجا يتحول الأطفال العرب إلى مردين لما يسمعون ويتعلمون جيدا كيف يلغون عقولهم لصالح عقل الملقن أيا كان معلما أو رجل دين أو سياسي مما يمنع كليا أية إمكانية للإبداع والابتكار والتطور.
المطلوب إذن منا مدرسة عصرية جديدة قادرة على تخريج أجيال مبدعة مفكرة واثقة بذاتها لا مطلق في عقلها ولا إلغاء للنقد والبحث وفي سبيل ذلك فلا بد للتعليم في مدارسنا أن ينطلق من القيود والأنماط الثابتة التي يعيشها وهو لذلك بحاجة لما يلي على سبيل المثال:
1- تعليم اقل ونشاط أكثر بما يضمن أن يعيش الطفل طفولته بكاملها والتعلم من الحياة فقيام الطلبة بجولة بين الأحراش والتقاط الحشرات من هناك مثلا سوف يعطيهم درسا حقيقيا في علم النبات والحشرات والأحياء والتربة يساوي ألف حصة نظرية مقيتة وهو أيضا سيعطيهم دفعا جديدا لتعلم جديد وينقل علومهم البحتة إلى حياتهم العملية كما أن زيارة نجار في منجرته العملية سيغنيهم عن الكثير من الحصص النظرية عن أهمية العمل وقيمته على سبيل المثال
2- إلغاء الاختبارات الفردية في الصفوف الأساسية حتى الصف التاسع والاعتماد على الاختبارات القائمة على النشاط الجماعي للفرق مما يوفر للتلميذ حماية من خلال العمل الجماعي ويدربه جيدا على الفعل وقبول الاختبار تدريجيا وهذا يشمل إلغاء التمايزات الطفيفة بين الجماعات فلا يجوز مثلا وضع علامة 90 لطالب واعتباره الأول واعتبار الثاني رقم 2 لان علامته 89 فقط مثل هذا التمايز يمنع الطالب من بذل جهد اكبر لنتيجة اكبر وهو يعلمه على الأنانية فقط ويلغي من تفكيره أهمية وفائدة العمل الجماعي وقدرته على النجاح أكثر من العمل الفردي.
3- تقليل الواجبات المنزلية إلى اقل درجة ممكنة حتى يجد الطالب فرصته ليعيش طفولته الحقيقية خارج أسوار المدرسة.
4- الغاء الغرف الصفية واستبدالها بالقاعة وإتباع القاعة للمادة لا لتلاميذ الصف كذا بحيث يستطيع التلميذ الانتقال من صف لصف والقيام بحركة تنهي عنه الملل والتوتر بين الحصة والحصة.
5- إطالة أمد الوقت بين الحصة والحصة الأخرى بما يضمن وقت للحركة للطالب وتفجير طاقاته وتحفيزه على الدرس القادم.
6- تقصير وقت الدراسة النظرية إلى أقصى حد ممكن والاستعاضة عنها بالتعلم باللعب للأطفال وأنواع من العمل للفتية الأكبر
7- اقتصار الاختبارات الفردية على اختبارات المستوى كان يكون هناك اختبار قبيل المرحلة الثانوية لتحديد ميول الطالب والتخصص في الدراسة الثانوية وامتحان نهائي قبيل الجامعة لتحديد ما يمكن دراسته في الجامعة.
8- تعطى نسبة من العلامات للعملي والأبحاث والأنشطة المجتمعية مرتبطا بنوعية التخصص المناسب على أن لا يعتمد باقي نسبة العلامة على نظام حفظ النص دون فهمه أولا.
9- تفعيل الأنشطة التعليمية كالأنشطة الرياضية والفنية بكل أنواعها كالرسم والموسيقى والدبكة والنحت والكتابة الإبداعية وما إلى ذلك بما يعطي الأطفال فرصة لاكتشاف مواهبهم وميولهم.
طبعا سنجد الكثيرين ممن يفكرون كذلك أو يعتقدون كذلك إلا أنهم لا يجدون السبيل للانتقال إلى تطبيق هذه المقترحات أو بعضها أو ما يشابهها ويقدون حججا واهية عن أن الأمر ليس بهذه البساطة ولا يجوز أن نقدم على الغاء كل شيء فجأة والبدء من جديد بنظام جديد وأسلوب جديد أو قد يقترح البعض تشكيل اللجان للمناهج والآليات من مختصين وأكاديميين وما إلى ذلك أو أن ما يصلح لأطفال أوروبا لا يصلح لأطفال بلادنا والغريب مثلا أن دولة الاحتلال نفسها بها نظامين تعليميين الأول للعرب وهو مطابق تقريبا للطرق التعليمية في البلدان العربية ونظام تعليمي لليهود يتشابه مع نظم التعليم الأوروبية في الآليات والأدوات والمناهج نفسها والاختبارات وهكذا فلماذا هذا إلا لان نظام التعليم العربي يكرس التخلف والتبعية وهم ما يريدونه أن يكون للعرب الفلسطينيين لتسهيل السيطرة عليهم.
المطلوب قرار جريء بنسف كل أنظمة التعليم البالية وفورا وأي تفكير باللجان أو العمل بمراحل أو بخطط طويلة الأجل لا يعني سوى الاستمرار بالنهج القائم والإبقاء على العقل العربي ناصعا نظيفا يصلح للعرض والبيع بأغلى الأثمان كما تقول نكاتنا لأنه لم يستخدم وهذا ينسحب على حالنا بين الأمم فالتعليم هو المقياس الحقيقي لتطور وتقدم الأمم والحضارات وهو مفتاح القوة والنصر وتحقيق الطموحات فالأمم تتقدم بإرادة أجيالها وقدرتهم على الإبداع عبر التفكير النقدي الحر فالمطلوب إذن ثورة في التعليم والتربية أساسا قويا لتحقيق النصر للثورة الوطنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية إن أردنا لها أن تكون وتنتصر.
بقلم
عدنان الصباح