ضياع "الفلسطيني الحلو"

بقلم: فراس ياغي

يحكى أن رجلا صالحاً من "أقصا" البلاد إلتقى في طريق تجواله براعي غنم يُصلي لربه وفقا لطريقته الخاصه وبكلمات تُعبر عن بساطة وطيبة قلبه، وكان يردد في صلاته " يا رب إذا أردت حليب فسوف أحلب لك من هذه العنزه الشاميه، وإذا أردت سمن سوف أعمله لك من حليب تلك السوداء، وإذا أردت جِبن سوف أصنعه لك من حليب تلك البيضاء...إلخ"، فقال له الرجل: ماذا تفعل؟ أجاب الراعي: أصلي لله، قال الرجل: الصلاة ليست هكذا وعلّمه الصلاة وذهب، وحين عاد من نفس الطريق، وجد نفس الراعي يصلي تلك الصلاة التي علّمه إياها ويردد كلماتها ويركع ويسجد دون أن يشعر بماذا يفعل وبما يقول، حينها تكّلم الرب مع الرجل الصالح وقال: ماذا فعلت بعبدي الراعي؟ قال: علّمته الصلاة، فقال الرب: بل أفسدته، قال الرجل: كان كافراً لا يعرف كيف يخاطبك، فأجابه الرب: لقد كان "كفره حلو"...يقال أن الرجل الصالح ليس سوى سيدنا موسى عليه السلام كليم الله، وأن القصة القصيره أعلاه ليست سوى تعبير عن تعقيدات من يفرض على الجمهور تعاليم وتقييدات وتشريعات تؤدي لنسيان الهدف والتركيز على حرفية الموروث أو حرفية التلمود أو حرفية التقديس، وان مخاطبة الله ليس لها عنوان واحد محدد بل تكون بكل الطرق التي توصل القلب لنوره، وأن الإنسان الخيّر هو للإنسانيه التي أرادها الله في صفاته المُطلقه في حين المُتديّن هو للمعبد في تعليماته وتشريعاته أكثر من كونها لله الواحد الأحد.

في السياسه الفلسطينيه وما قبل "أوسلو" كان الجمهور الفلسطيني يوما ما موحدا تحت سقف واحد ومُمَثل واحد، منظمة التحرير الفلسطينيه، وكان الإنسان الفلسطيني مفطوراً على فهم الأهداف الواحده في التحرر والإستقلال، تلك الأهداف التي ترتبط بمفهوم الحرية والعودة وتقرير المصير والعيش في دولة القانون ودولة المواطنه التي لا تُفرّق بين أحد فيها، فلم يكن هناك، لاجيء ومواطن، ولا غزة وضفه، ولا مواطن وعائد، ولا شمال وجنوب، ولا إبن عائلة كذا أو إبن عائلة كذا...كان هم الفلسطيني واحد وموحد رغم كل محاولات الإحتلال للتفريق بين أبناءه، بإسم درزي وبدوي ومسلم وبدوي ومدني وفلاح ولاجيء، حاول الإحتلال خلق هويات مُتعدده للشعب الفلسطيني للتفريق بين أبناءه، لم ينجح لأن الواحد الفلسطيني كان همّه وهدفه واحد، وكان متناغما مع قياداته المُتعدده لكنها الموحده في الإطار الواحد والجامع، إطار الممثل الشرعي والوحيد، منظمة التحرير الفلسطينيه.

ما بعد "أوسلو" ظهرت كل الموبقات وتعددت التصنيفات وبدأت الفجوات تتسع وتتوسع حتى وصلنا لما نحن عليه اليوم، وأصبح الواحد الفلسطيني رغم همّه الواحد، عِدة وَحَدَات، واحد هنا في الضفه، وواحد هناك في غزه، وواحد هنا وهناك ليس له علاقه بواحد الضفه أو واحد غزه، وواحد في كل مخيم من مخيمات اللجوء والشتات...الواحد الفلسطيني الذي يجمعه هم التخلص من ظلم الإحتلال لم يعد واحداً، ليس في الهَم، لكن في الطريقة والأسلوب، تعاليم وتقييدات وسياسات وتشريعات أصبحت أهم من الهَم الواحد، وأصبح الواحد يلاحق الواحد الآخر بإسم تلك التعليمات والقرارات لأنها لا تُعبّر عما يجول في صدره ولا في صَدر وقلب الإنسان الفلسطيني ككل.

"الفلسطيني الحلو" في قلبه وعقله ضاع في خِضَم السياسات المُتَعَدِدّه وأصبح "كفره الحلو" السابق ليس سوى أماني وأحلام، نسيَ هَمّه المُشترك بسبب من قياداته وأحزابه، وبدأ يعيش حالة التصريحات والبلاغات والتقارير الكيديه وسياسات التغوّل الأمني وتحت يافطه من المُسميات التي لا تنتهي، قلبه الذي إنفطر على رفض الظلم ورفض الإحتلال تعددّت حُجيراته، وفي كل حُجيره هناك واحد يختلف عن الآخر في الحجيره الأخرى وفي نفس القلب الواحد، سيطرت حُجيرة الخاص الفردي والأيديولوجي والحزبي على الحجيره الأولى الأساس، حجيرة الهَم الواحد والهدف الواحد...لقد نجح الآخر في إستراتيجيته في جعلنا "نستحسن الرداءه" وبإسم الشرعيات والإتفاقيات، ونجحوا في مفهوم "إستراتيجية التأجيل" وبتنا ننتظر رئيس أمريكي أو إسرائيلي قادم وآخر مغادر، ونجحوا في إغراقنا في "الجهل والغباء" مرة بإسم الدين الحنيف ومرة بإسم الإلتزام بالإتفاقيات التي لا يلتزمون بها، ونجحوا في معرفة "ذواتنا" كأفراد وأحزاب وأفكار أكثر مما نعرف نحن عن ذواتنا.

الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه قال في معرض حديثه عن الخوارج " لا تُحاجِجهم بالقرآن فإنه حمّال أوجه"، ويقصد الإمام هنا المحتوى التفسيري لآيات المصحف الشريف، ونحن بعد ألف وأربعمائة سنه من وفاة الإمام رضي الله عنه، نذهب إلى معاركنا ب "مدفع قديم"، ولا نقرأ ما قاله برنادشو "إياك أن تذهب ألى معركة حديثه بمدفع قديم"، و "أوسلو" اصبحت قديمه وتقادمت ولا تصلح لأي معركه، ونحن لا نستطيع أن نُغَيّر ما هو في الخارج إلا إذا غيّرنا ما هو في الداخل...والتغيير يبدأ بإعادة الهَم إلى الحُجيرة القلبيه الأساس، هَم الحرية والإستقلال، وهَم القائد "مروان البرغوثي" ورفاقه في الأسر، وهَم الوحدة الوطنية الواحده، هَم العودة وتقرير المصير، أليس هذا الهَم ما يجمعنا؟!!!!!

بقلم/ فراس ياغي