خلسة يقتحم الحزن أسوار السجن، ويتسلل بين غرف السجناء، ليصبغ بلونه الأسود الجدران والقضبان، ويقبض على حرير الروح للأسير كريم يونس، وهو يمد يده المرتعشة في ساحة السجن لتعانق أيادي الأسرى، وهم يرددون: عظم الله أجركم يا كريم، رحم الله أباك!!
تمر هذه الأيام الذكرى الرابعة والثلاثين لاعتقال عميد الأسرى الفلسطينيين كريم يونس بصمت وهدوء، فلم يعد أحد يذكر ملامح وجه كريم يونس، ولم يعد أحد يخشى من غضب الشارع، فيطالب بتحريره من الأسر، ولم يعد كريم يونس نفسه يهتم كثيراً بما تبقى له من أيام، فقد انطفأت زهوة العمر، وبهت بريق الحنين، فقبل أربع سنوات جاءه خبر وفاة أبيه يونس، لقد مات العجوز يونس فضل يونس دون أن يمسح بأصابع يديه على وجه ابنه الأسير كريم، مات وفي قلبه غصة، لأن كريم لن يشارك في تلك اللحظة التي يتوارى فيها جثمانه تحت التراب، ولن يقف ابنه كريم على قبره ليقرأ له فاتحة، مات العجوز يونس دون أن تتزحزح صخرة الظلم التي جثمت على صدره لواحد ثلاثين عاماً، انتظر خلالها انكسار الحزن، ليخرج من بين الشقوق ولده كريم حراً، ولكن دون جدوى، فقد مات الزمن الذي حلم فيه بزفاف ولده إلى عروسه، وانقضى الرجاء بأن يلعب أحفاده بين يديه، وقد جاءه الأجل.
وللحزن خلف الأسوار مذاق النعناع، وللحزن رائحة شاي الصباح، حزن يختلط فيه ربيع قرية عارة الفلسطينية المغتصبة مع صدأ القضبان، حزن كريم يونس على فراق أبيه كان صامتاً كالسجن، وكان بطيئاً كحركة الأيام، وكان ثقيلاً بحجم المسافة الفاصلة بين عد الأسرى في الصباح وإغلاق السجن في المساء، وكان الحزن طويل القامة، عملاقاً يتسلق أسوار السجن، يتنقل بين الزنزانة وبيت العزاء، وبين حسرة الفراق، وشهقة العناق الأبدي لهذه الأرض التي تحاصرها الأطماع الصهيونية.
كريم يونس ابن حركة فتح، كما يحلو للبعض أن يسميه، كريم يونس هو أقدم أسير فلسطيني في السجون الإسرائيلية على وجه الأرض، عجزت الثورة الفلسطينية عن تحريره من سجون إسرائيل، وقصّرت السلطة الفلسطينية عن تحريره من الأسر، لذلك أصبغنا عليه الألقاب التي تفضح ضعفنا، وتكشف تخاذلنا، وبدل أن نعيب مشوارنا السياسي، وننتقد نهجنا التفاوضي، ونعالج أمراضنا السياسية، قفزنا في الهواء، وأطلقنا عليه لقب عميد الأسرى الفلسطينيين والعرب.
فهل يحق لنا أن نفتخر ونفرح بأننا نترك أسرانا أكثر من أربعة وثلاثين عاماً في السجون؟ هل يحق لنا أن نتباهى بين الأمم بعدد أسرانا الذين يمضون عشرات السنين من أعمارهم خلف أسوار السجن؟ هل صرف الرواتب للأسرى خلف الأسوار جاء بديلاً عن تحريرهم من الأسر؟
إن كل الألقاب والمسميات التي نصبغها على الأسرى لا تعادل لحظة حرية، وإن كل الأموال التي تقدمها السلطة لأهالي الأسرى لا تعادل لحظة كرامة، وإذا نجحت السلطة الفلسطينية في إشغال الناس عن تحرير كل فلسطين بالدرجات الوظيفية، والتعيينات، والترقيات، ومن ثم تأخر صرف الرواتب، فمن العار أن يصير توزيع الألقاب والدرجات الوظيفية والرواتب الشهرية على الأسرى بديلاً عن كسر الأقفال وتحريرهم.
ملاحظة: جاءني خبر وفاة والدي في السجن سنة 1992، أثناء إضراب السجون عن الطعام.
في ذلك الوقت كنت في زنازين عزل سجن عسقلان، يقاسمني الزنزانة كل من الأسير كريم يونس، وعادل عيسى، وأبو محمد بركة، في ذلك اليوم الحزين قام كريم يونس، وصنع القهوة، وأقمنا نحن الأربعة بيت العزاء لوالدي في الزنزانة!.
عظم الله أجركم يا كريم يونس بوفاة والدكم، وعظم الله اجركم بوفاة الكرامة والنخوة والوفاء
د. فايز أبو شمالة